قد لا يكون مفاجئاً ما تعرض له حفيد مؤسس النظام الإيراني حسن الخميني، من إساءة في ذكرى وفاة جده وبالقرب من ضريحه، قامت بها مجموعات محسوبة على التيار المحافظ من شباب وشابات بإطلاق شعارات يُفهم منها وبحكم المناسبة، اتهامه بمعاداة ولاية الفقيه “الموت لأعداء ولاية الفقيه”، أو الانقلاب على “ولي الأمر” مرشد النظام “نحن لسنا أهل الكوفة لنترك عليّاً وحيداً”، ما اضطره إلى الانسحاب وعدم إكمال خطابه.
وبحسب ما هو واضح، فإن برنامج الاحتفال كان مقتصراً على كلمتين محددتين، واحدة للخميني والثانية للمرشد الأعلى، الذي لا شك في أنه سمع هذه الشعارات في الكواليس قبل أن يصعد إلى المنصة لإلقاء كلمته، يؤكد ذلك أن المرشد أشار في الفقرة الأخيرة من خطابه، إلى ما سمعه من هذه الشعارات، بالقول “سمعت، نقلوا لي أن اليوم وخلال خطاب جناب السيد حسن السيد الخميني قام البعض بالتشويش، أنا أعارض هذا العمل، أنا لا أقبل ولا أوافق على مثل هذا التسقيط والتشويش، ليعلم الجميع، وآمل إن شاء الله العلي أن يهدينا الله إلى طريق الحق”.
أن يأتي موقف المرشد في خاتمة الخطاب، وآخر ذيل التوصيات التي قدمها إلى الجيل الشاب أو الجيل الثوري الجديد، الذي من المفترض أن يشكل الحامل لمشروع المرحلة الثانية من الثورة، الذي أعلنه ووضع أطره واستراتيجياته الفكرية والعقائدية والسياسية والإدارية والاقتصادية، يعني أن المرحلة الجديدة والمنشودة، من المفترض أن تنتقل من رؤية المؤسس التي أطّرت عمل الثورة والنظام خلال العقود الأربعة الماضية، إلى رؤية جديدة حدد معالمها المرشد لإدارة النظام والسلطة والمجتمع ومفاهيمها والتي تسمح بالاحتفاظ برمزية المؤسس، ليكون مصدر الشرعية الثورية والعقائدية للمرحلة الجديدة، إذ من الصعب الخروج عن هذه المظلة التاريخية والشعبية، طالما بقي النظام ملتزماً الأطر الثورية والعقائدية التي رفعها المؤسس.
مسار الانتقال من “الخمينية” إلى الخامنئية”، على غرار جميع الثورات والانقلابات التي حصلت وتحصل في العالم، ماضياً وحاضراً، محكومة بالعبور من الكتلة المؤسسة إلى الكتلة الحاكمة، ومن مثاليات وشعارات التأسيس إلى واقعية السلطة وضرورات الحكم وإدارة المصالح، والثورة الإسلامية في إيران لم تخرج عن هذه السياقات، وإن كانت في مرحلة من المراحل، شهدت خروجاً قصرياً لقيادات مؤسسة نتيجة الفوضى وعمليات الاغتيال والتصفيات الجسدية، التي دارت بين قوى سعت إلى الاستحواذ على الثورة والدولة والنظام، إلا أن الأهم في مسار تكريس وتثبيت الثورة ونظامها، ما جاء لاحقاً وبعد استتباب الأمر للمؤسسة الدينية، عندما بدأت تتخلص من منافسيها أو مراكز القوى التي قد تشكل مصادر قلق وخطر على سلطتها وإمساكها بمقاليد الحكم، وتحول دون تحقيق رؤيتها في السلطة.
يمكن القول إن النظام الذي انبثق وتكرّس نتيجة الثورة، وبعدما استطاع التخلص من الأطراف التي استخدمت السلاح لفرض معادلتها، دخل في مسار استكمال الثورات أو الانقلابات الداخلية ذات الطابع السياسي والسلطوي، فجأة عملية احتلال السفارة الأميركية في طهران، التي وصفها المؤسس بأنها ثورة ثانية وإرادة الشعب، لتفتح الطريق أمام المؤسسة الدينية لحسم موضوع شراكتها مع القوى الإسلامية الليبرالية والوطنية والقومية، كرئاسة أبو الحسن بني صدر للجمهورية، ولاحقاً حركة تحرير إيران بقيادة مهدي بازركان، والقوميين الدينيين بقيادة يد الله سحابي، وحتى الليبراليين العلمانيين الذين شكلوا رافعة الحكومة المؤقتة بعد انتصار الثورة، وتم إخراجهم واستبعادهم من كل مفاصل الدولة والقرار لصالح المؤسسة الدينية والقوى التي تعمل في إطارها وضمن آلياتها الفكرية والعقائدية.
التحدي الأبرز الذي واجهته المؤسسة الدينية، التي تحولت إلى الفاعل الأوحد في النظام والسلطة والدولة، كيفية الحفاظ على ما في يدها ومنع الخروقات، خصوصاً من خلال أداتها العملية التي مثّلها “مجمع علماء الدين المجاهدين”، الذي كان يمد السلطة والنظام بالرجالات في المواقع المتقدمة، ويمسك بكل المفاصل عن طريق زرع الأشخاص الموالين أو الموافقين له في مؤسسات الدولة بمختلف مستوياتها الإدارية والأمنية والعسكرية، ممن يتبنى رؤيته وسياسته العقائدية والسلطوية. وقد توسع نفوذ هذه الجماعة بعد القرار التاريخي للمؤسس بحلّ “الحزب الجمهوري”، الذي كان الإطار التنظيمي لقوى الثورة والثوريين الجدد.
الانشقاق أو الاختلاف الأول داخل منظومة النظام والسلطة الإسلامية، وبعد استتباب الأمور والتخلص من جميع مراكز التأثير أو الخطر من القوى الليبرالية، الإسلامية والعلمانية، جاء من داخل هذه الجماعة “العلماء المجاهدين”، التي كانت تضم في صفوفها المتقدمة علي خامنئي رئيس الجمهورية حينها، والشيخ هاشمي رفسنجاني، والشيخ مهدوي كني وغيرهم، إذ خرج عدد من كبار هؤلاء العلماء المعروفين لدى المؤسسة الدينية، وممن كان لهم دور بارز وفاعل في الثورة والتأسيس للنظام الجديد، اعتراضاً على الآليات التي بدأت تتحكم بالنظام والدولة، بعيداً من الأسس والمبادئ التي قامت عليها الثورة، وما جاء في مواقف المؤسس عندما كان في منفاه الباريسي قبل الانتصار، وأعلنوا عن تشكيل تجمع جديد باسم “جماعة علماء الدين المناضلين”، وفي مقدمتهم مهدي كروبي ومحمد خاتمي وموسوي خوئينيها. ولم تنجح كل الضغوط التي مارستها جماعة “المجاهدين” في منع هذا الانشقاق، على الرغم من لجوئها إلى المؤسس الذي تعامل مع الأمر انطلاقاً من مبدأ التعددية واختلاف الآراء، طالما أن التشكيل الجديد ليس معادياً للثورة والنظام.
صحيفة اندبندت عربي