الماضي لا يمضي في الكرملين، هو الحاضر والمستقبل أيضاً. خسارة أجزاء من الإمبراطورية بسقوط الاتحاد السوفياتي قادت الرئيس فلاديمير بوتين إلى السير على خطى القياصرة. انتقد قائد الثورة الشيوعية فلاديمير لينين بحجة أنه “اخترع” أوكرانيا، ورأى ستالين “أعظم حاكم روسي في القرن العشرين لأنه “مد الإمبراطورية إلى أبعد من آل رومانوف”. أما مثله العليا فإنهم القياصرة بطرس الأكبر، وكاترين الثانية العظمى، وألكسندر الثاني. ولا يهمه تبدل الأزمنة والظروف والعالم بين القرن الثامن عشر والقرن الحادي والعشرين، ما يهمه تحقيق شعار: توسيع الجغرافيا لدخول التاريخ. وهذا هو العنوان الحقيقي لحرب أوكرانيا، الذي تستحيل تغطيته بعشرات العناوين المزيفة التي تطفو على السطح في الدعاية الروسية.
ذلك أن بوتين استعاد قراءة التاريخ بالعين القيصرية في الاحتفال بالذكرى الـ350 لميلاد بطرس الأكبر في المتحف المقام باسمه. أعاد التذكير بحرب بطرس الأكبر مع السويد وغزوه لأجزاء منها ومن فنلندا وأستونيا ولاتفيا وقال، “هذا ليس ضماً بل استعادة”، بل أعطى نموذجاً لما يمكن تكريسه كحق بالقوة، وهو بناء بطرس الأكبر عاصمته بطرسبورغ على أراضٍ سويدية من دون أن يعترف أحد في أوروبا بأنها روسية. وكل هذا لتبرير حرب أوكرانيا بالقول إن بطرس الأكبر كان “يمارس الاستعادة والتدعيم، وعلينا أن نستعيد وندعم، كأن شيئاً لم يتغير”.
ما لم يتحدث عنه في الخطاب هو وصايا بطرس الأكبر “إخضاع مناطق القوقاز والقرم والبلطيق وأوكرانيا وبيلاروس، والاستمرار في تهديد فنلندا والسويد. التدخل في أوروبا بالوسائل الممكنة للحيلولة دون توحدها لأنه خطير على المصالح الروسية”. وما عمل به أصلاً من وصايا بطرس الأكبر هو تقوية الكنيسة الأرثوذكسية لتصبح عاصمة روسيا “روما الثالثة” و”القدس الثانية”، لكن الفارق بينهما أن بطرس الأكبر استعان بالمهندسين والعلماء من أوروبا لتطوير بلاده وتصبح قوية وعصرية مثل أوروبا لتضمن القدرة على منع توحدها، في حين أن بوتين يكره الغرب وثقافته السياسية، ويريد لروسيا المعتمدة على “القوة الصلبة” والمفتقرة إلى “القوة الناعمة” أن تلعب دور القطب المقابل للغرب والعامل على تمزيقه.
حتى في التدخل العسكري المباشر في حرب سوريا، فإن بوتين سار على خطى كاترين الثانية العظمى التي تدخلت عسكرياً في سوريا ضد السلطنة العثمانية، وأرسلت أسطول بحر البلطيق لقصف بيروت دعماً لمحمد علي باشا وضاهر العمر. وحين قدمت لها السلطنة تنازلات في القرم وأوكرانيا سحبت قواتها، وضمت القرم إلى روسيا عام 1873.
وكما وقفت الكنيسة الأرثوذكسية وراء كاترين العظمى في حربها، وقفت وراء بوتين في تدخله العسكري وأعلن الناطق باسم الكنيسة أن بوتين مارس “الدور الخاص الذي لعبته بلادنا دائماً في الشرق الأوسط”. وحتى عندما خسر ألكسندر الثاني حرب القرم أمام السلطنة في منتصف القرن التاسع عشر، فإن بوتين عمل بما قاله وزير الخارجية القيصري الأمير ألكسندر غورتشاكوف في استعادة مجد روسيا “روسيا ليست عابسة، روسيا تعيد تشكيل نفسها”، ثم اعترف بأن “هناك حقباً في التاريخ اضطررنا خلالها إلى التراجع، فقط لاستعادة قوتنا والمضي إلى الأمام”.
والتاريخ لا يتكرر. وليس بوتين في حاجة إلى من يعيد تذكيره بقول كارل ماركس الساخر عن تكرار التاريخ “المرة الأولى تراجيديا، المرة الثانية كوميديا”. فهو يريد إثبات أن ماركس على خطأ. وهو ربح من حربه على جورجيا عام 2008.
ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 من دون أن يوقفه أحد. استعاد لروسيا دور القوة الكبرى في الشرق الأوسط بتدخله في حرب سوريا عام 2015، بعد أن تراجع الرئيس الأميركي باراك أوباما عن التدخل المباشر رداً على تجاوز بشار الأسد لـ”الخط الأحمر” الذي رسمه الرئيس الأميركي، وهو استخدام الأسلحة الكيماوية. وتصور أن حرب أوكرانيا ستمر كما مرت مغامراته العسكرية السابقة، وأن العالم لن يحرك ساكناً وهو يسمع وزارة الدفاع الروسية تعلن “تحرير” المدن التي تدمرها وتحتلها.
وهذا هو الخطأ الكبير في حساباته. فهو في حرب تدمير لا يستطيع ربحها ولا الخسارة فيها. والغرب يقول له عبر الدعم بالمال والأسلحة لأوكرانيا: زمن بطرس الأكبر والقيصرية تغير. زمن ستالين والسوفيات تغير. غير أن “القيصر” الجديد لديه همٌّ كبير هو كيف سيكون موقعه في التاريخ الروسي والعالمي.
اندبندت عربي