لم يفطن النظام الإسلاموي في إيران لحجم المشكلة العراقية التي يغرق فيها. اعتقدت طهران أن أي مجموعة سكانية شيعية حول العالم تشكّل أرضا خصبة لتجنيد موالين للنظام الإيراني فيصبحون شيعة ينخرطون في حروبه الاستخباراتية والإرهابية والميليشياوية، وأن العراق، ذو الغالبية الشيعية، سيتحول إلى أكبر دولة تابعة للنظام الإيراني.
لكن حسابات طهران فشلت لأسباب متعددة لم يأخذها الايرانيون في عين الاعتبار، أولها ضخامة الكتلة الشيعية العراقية. في لبنان، مثلا، مليون ونصف شيعي، وفي البحرين مئات الآلاف، وهو ما يعني أنه يمكن للنظام الإيراني تخصيص مرتبات لغالبية شيعة لبنان والبحرين، وتمويل شبكة خدمات اجتماعية لهم ومؤسسات تربوية وصحية وترفيهية.
مقابل التقديمات الإيرانية، تتوقع طهران ولاء هؤلاء الشيعة للولي الفقيه الإيراني، علي خامنئي، فلا يبخل هؤلاء على إيران، ويتحولون إلى “جنود في جيش الولي الفقيه”، على حسب قول زعيم “حزب الله” اللبناني، حسن نصرالله، ويقاتلون حتى أبناء بلدهم خدمة لطهران.
ويقوم “جيش الولي الفقيه” بكل ما تطلبه منه إيران، من محاولة اغتيال الكاتب سلمان رشدي في الولايات المتحدة، إلى رمي صواريخ من لبنان على إسرائيل لثنيها عن تعطيل البرنامج النووي الإيراني، أو ابتزاز دول جوار إيران، خصوصا الخليجية منها. هذا في لبنان والبحرين.
لكن الوضع في العراق يختلف كليا، حيث يبلغ تعداد الشيعة أكثر من عشرين مليون نسمة، وهو ما يجعل من المتعذر على إيران تخصيص مرتبات لهم أو تأمين خدمات اجتماعية مقابل ولائهم.
ثم أن عائدات الدولة العراقية من النفط أكبر من عائدات إيران، وهو ما يدفع الزعماء العراقيين للسباق إلى الحكم واستخدام عائداته لإقامة شبكات ريعية موالية لهم ومنفصلة عن إيران، وتقوم هذه الشبكات غالبا بمنافسة إيران، كما في زمن رئاسة نوري المالكي للحكومة الذي واجه إيران ولم يعد إلى التحالف المصلحي معها إلا بعد خروجه من الحكم.
ويتفوق العراق على إيران بشيعيته، فالعراق هو مهد المذهب الشيعي، فيه قبور ستة من الأئمة الاثني عشر: علي بن أبي طالب والحسين ابنه، وموسى الكاظم، ومحمد الجواد، وعلي الهادي، والحسن العسكري. وفي دنيا الشيعة، تتصدر مكة مدن العالم من حيث قداستها، تليها المدينة المنورة، ثم النجف حيث ضريح الإمام علي، فكربلاء موقع مقتل الحسين ومرقده وأخيه العبّاس. وتحتل النجف عند الشيعة مرتبة روحية تماثل أهمية الفاتيكان لدى المسيحيين الكاثوليكيين.
أما إيران، فهي حديثة العهد بالمذهب الشيعي، الذي تبنته المجموعات الصوفية الصفوية لمنافسة السلاطين العثمانيين على زعامة العالم الإسلامي. وفي مشهد في إيران ضريح الإمام علي الرضا. أما في قم، فمقام لشخصية شيعية مغمورة متنازع حول تاريخيتها هي فاطمة أخت علي الرضا المسماة “معصومة”. ومنح سيدة العصمة يتناقض وتعاليم المذهب الشيعي، لكن دخول الإيرانيين المذهب أدخل معه بدع كثيرة لا يزال الشيعة العرب يرفضون الاعتراف بغالبيتها.
هكذا، على عكس ضعف لبنان والبحرين أمام إيران، عدديا وماليا وروحيا، يتفوق العراق على إيران ماليا وروحيا، زد على أن بين العراق وإيران ثأرا تاريخيا طويلا يسبق الإسلام بقرون، بدأ منذ غزت حضارات الرافدين عيلام جنوب إيران، ثم غزا البارثيون بابل وملكها نبونعيد في العام 536 قبل الميلاد، تلا ذلك غزو الساسانيين في العام 274 ميلادية. لكن العرب قضوا على الساسانيين في 651 وحكموا إيران لقرابة ألف عام، إلى أن بدأ الصفويون يشكلون دولة فارس، التي توسعت وصارت إيران التي نعرفها.
لهذا السبب، كان من اليسير على صدام حسين تحريض الشيعة العرب العراقيين على الشيعة الإيرانيين، فعلى الرغم من التشابه المذهبي، إلا أن العداء والتنافس بين الحضارتين قائم منذ أكثر من ألفيتين من الزمن.
ومنذ انهيار نظام حسين في 2003، حاولت إيران مرارا جمع القيادات الشيعية العراقية في صيغ متعددة تحت مسمى “البيت الشيعي”، ثم حاولت تكرار تجربة “حزب الله” اللبناني بدفعها رجال دين معممين للعب أدوار قيادية وإقامة أحزاب وميليشيات لا تزال قائمة اليوم واسمها “الميليشيات الولائية”، أي الموالية لخامنئي.
مع ذلك، بقيت ميليشيات إيران في العراق محدودة الشعبية، في وقت تفوقت عليها تنظيمات بدون امكانيات، مثل الميليشيات المتعاقبة التي أقامها رجل الدين مقتدى الصدر، لسبب وحيد هو أن الصدر ركب موجة الوطنية العراقية.
ويتميز الصدر عن كل القيادات العراقية الحالية أنه ووالده لم يعارضا صدام حسين من المنافي، بل عاشا في العراق قبل صدام وبعده، وهو ما عزز الانطباع عن وطنيتهما أكثر بكثير من معارضي المنفى مثل نوري المالكي وحيدر العبادي وهادي العامري وعائلة الحكيم والراحل جمال الجراح (أبو مهدي المهندس).
اليوم، تقوم إيران بكل المناورات السياسية الممكنة، متزامنة مع إرهاب تمارسه ضد خصومها بما في ذلك اغتيال أعداد كبيرة منهم، وذلك بهدف بناء حكم بالحديد والنار يمسكه أحد مرتزقتها العراقيون. وتفضل طهران ألا يكون المالكي رجلها، لأنه يعاني من جنون العظمة ولا يسعى إلا لمصلحته الشخصية.
لم ينجح العنف الإيراني والاغتيالات في إسكات معارضي طهران العراقيين، الذين لا يفوتون فرصة بدون إحراق قنصلية إيران أو صور خامنئي في العراق أو تماثيل قاسم سليماني. ويوم الإثنين الماضي عندما اندلعت مواجهات بين معارضي إيران من جهة، خصوصا من التيار الصدري، ومؤيدي طهران، من جهة ثانية، لقّن معارضو إيران حلفاءها درسا قاسيا وتفوقوا عليهم في القتال وفي إحراق مكاتب الميليشيات الولائية وفي الفوز بتعاطف ودعم شعبي، فيما انكفأت ميليشيات إيران وراحت تقتل العراقيين خلسة وعن طريق تصفيات وإعدامات، إذا ما صدقنا بعض التقارير التي تناقلتها وسائل الإعلام العراقية.
العراق عرّى إيران وكشف أنها ليست قوة عظمى على ما تخال نفسها، بل هي عصابة إرهابية حاكمة تحاول تخويف شعوب الجوار وحكمهم بالحديد والنار. والعراق أظهر لإيران أن المذهب لا يعلو على الوطنية، وأن العراقيين لن يتراجعوا بصمت ويتحولوا إلى مرتزقة كما فعل بعض شيعة لبنان والبحرين.
الحرة