لا ندري من قام بتفجير أنابيب غاز نورد ستريمالروسية في بحر البلطيق، لكن هناك حقيقة واضحة، أن من فعل ذلك لم يدرك تبعات الموضوع، لأن كل أنابيب العالم الآن معرضة للخطر، وكل الأنابيب التي تنقل الغاز من النرويج والجزائر وعبر تركيا معرضة للخطر، وكل المنشآت النرويجية معرضة للخطر أيضاً، مما يعرض أمن الطاقة والأمن القومي للدول الأوروبية للخطر.
ونتج من هذا حشد قوى أمنية لحمايتها، كما جعل النرويج تطالب حلف الناتو بمساعدتها في حماية المنشآت النفطية البحرية، هكذا وبكل بساطة سيطرت الولايات المتحدة على مصادر الطاقة في بحر الشمال. هذا لا يعني بالضرورة أن الولايات المتحدة مسؤولة عن التفجير، ولا يعني بالضرورة أنها كانت تستهدف السيطرة على مصادر الطاقة في بحر الشمال.
إذا نظرنا إلى العقوبات المفروضة على روسيا بسبب اجتياحها لأوكرانيا، وتفجير أنابيب نوردستريم ندرك حقيقة أخرى، وهي أن “الطاقة” أصبحت سلاحاً قوياً يستخدمه كل الأطراف، باختصار لا شيء يهدد أمن الطاقة أكثر من سلاح الطاقة.
أسهم التقدم التقني في تغيير طبيعة الهجمات على المنشآت النفطية وأصبحت حمايتها صعبة، خصوصاً عندما يتم الهجوم بالمسيرات الجوية أو المائية، كما أسهم التقدم التقني في إخفاء هوية الفاعل، تماماً كما حصل في الهجوم على منشآت أرامكو في سبتمبر (أيلول) 2019، وكما حصل لأنابيب نوردستريم الأسبوع الماضي.
استهداف منشآت الطاقة وبنيتها التحتية قديم، وشاهدنا في الحربين العالميتين الأولى والثانية كيف تم استهداف منشآت الطاقة، خصوصاً مصافي وناقلات النفط، متجاهلين تماماً الآثار الصحية والبيئية لما قد يحصل، تماماً كما حصل الأسبوع الماضي.
في الماضي كان يتم تدمير منشآت الطاقة وحاملات النفط أثناء الحروب، إما بضربات جوية أو مدفعية مباشرة يعرف من قام بها وتعرف أهدافه، أو بعمليات الكماكازي الانتحارية اليابانية التي تمثلت في قيام الطيار بتوجيه طائرته إلى حاملة النفط أو المنشأة النفطية وتدميرها، ولا بد من التذكير هنا أن سبب الهجمات الانتحارية بالطائرات هو عدم وجود وقود كاف لعودة الطائرة إلى مقرها.
إلا أن التقدم التقني غير أموراً كثيرة، وجعل الاستهداف أكثر تركيزاً وفاعلية، وأدخل لاعبين كثيرين، سواء كانوا حكومات أو منظمات سياسية أو مجرد عصابات أو شركات لتحقيق مكاسب مالية، كما أن التقدم التقني أسهم في إخفاء هويات اللاعبين من جهة، وأهدافهم من جهة أخرى.
ونرى هذا واضحاً في الهجمات السيبرانية على منشآت الطاقة حول العالم، فالطرف الذي يقوم بالهجوم مجهول والأهداف مختلفة، وبعضهم يهدف إلى تكبيد الخصم أكبر خسائر ممكنة، أو إيقاف عمليات ما، أو إلى الحصول على أسرار معينة، بينما تهدف بعض العصابات إلى الحصول على معلومات لبيعها أو الضغط على الطرف المستهدف لدفع فدية.
كما نراه في الهجمات بالطائرات والقوارب المسيرة فالطرف مجهول، وإن كان يعرف ضمناً من هو، لكن من الممكن دخول أطرف أخرى على الخط بسهولة من دون أن يعلم الطرفان.
الهجوم على أنابيب الغاز في قاع البحر تطور كبير وخطير، فهو لا يعكس التطور التقني فقط، بل يعكس أموراً أخرى أيضاً تهدد أمن الطاقة العالمي، تاريخياً تم استهداف المنشآت النفطية، بما في ذلك المصافي والأنابيب وحاملات النفط ليس للضغط على الطرف المستهدف فقط، وإنما لما لها من أثر إعلامي ضخم بسبب الانفجارات والحرائق والنيران والدخان.
بعبارة أخرى هناك فوائد إعلامية كبيرة من استهداف منشآت النفط، فمن جهة يكشف عن أن البلد المستهدف ليس مصدراً موثوقاً للطاقة، ومن أخرى يظهر نجاحات الفاعل للعالم، ومن ثالثة يري أتباعه ما يحققه في أرض الواقع، ومن ثم فإن الأثر الحقيقي في الإمدادات ضعيف، لكن أثره الإعلامي كبير، وهذا قد يكون الهدف الأساس لمن قام بهذه العمليات.
ما حدث لأنابيب نورد ستريم يختلف عن ذلك، لأن الأثر في أرض الواقع كبير، إذ إنه يضمن عدم عودة نوردستريم 1 إلى إمداد ألمانيا بالغاز، لكن أثره الإعلامي بسيط، لا انفجار ضخماً، ولا نار، ولا دخان، وبما أن لما حصل آثار سياسية وتجارية لسنوات مقبلة، فإنه من الخطأ حصر دائرة الاتهام بالحكومتين الروسية والأميركية.
الواقع أن إمكانية تفجير أنابيب مغطاة بالإسمنت في قاع البحر بهذا الشكل فتح أعين كثيرين على الموضوع، في شتى أنحاء العالم، لهذا علينا ألا نستغرب أن يتكرر الأمر، ليس انتقاماً لطرف من طرف، وإنما من فئات مختلفة تحاول أن تحقق أهدافاً معينة. وإذا كان بالإمكان تفجير الأنابيب الروسية، فإن كل الأنابيب الأخرى في كل مكان معرضة لعمليات التخريب نفسها.
إلا أن ما حصل لأنابيب غاز نورد ستريم يؤكد حقيقة جديدة على الأرض، وهي تحول الغاز الطبيعي من سلعة محلية وإقليمية إلى سلعة دولية، وسبب ذلك هو الغاز المسال، وتحوله إلى سلعة دولية يجعل البنية التحتية للغاز مستهدفة، إذا لم يكن الهدف إضعاف الخصم، فإن هناك أهدافاً أخرى مالية واقتصادية.
خلاصة القول إن تفجير أنابيب نورد ستريم هو استخدام لسلاح الطاقة، الذي أصبح يهدد أمن الطاقة.
اندبندت عربي