كما حركة البحر بين مد وجزر هكذا تبدو العلاقة بين دمشق مع أنقرة وتأثيرها في الأكراد داخل سوريا، فعلى مر العقود الماضية اكتنف تلك العلاقات فتور وجمود، وتمر سنوات تزداد فيها وشائج التقارب. وكل ذلك يترك تأثيراً في الجانب السوري من جارته الشمالية، خصوصاً مع اندلاع الصراع المسلح داخل سوريا في عام 2011 وبروز الطموح التركي الجامح بإنشاء منطقة حدودية عازلة خالية من الأكراد.
ولهذا شنت أنقرة عديداً من العمليات القتالية أبرزها “نبع السلام” و”درع الفرات” و”غصن الزيتون” شمالاً منذ عام 2016 وحتى 2019، وأطلقت على المناطق التي سيطرت عليها أسماء هذه العمليات. وفي وقت عكفت تركيا على التجهيز لعملية جديدة لاستكمال منطقتها الأمنية العازلة بعمق 30 كيلومتراً، طرأت تطورات جديدة على الساحة الدولية، فالحرب الأوكرانية دفعت بروسيا إلى أداء دور العراب لمفاوضات مخابراتية بين دمشق وأنقرة دارت فصولها على امتداد شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، سعياً لتطبيع العلاقة بين البلدين المتخاصمين منذ عقد من الزمن.
ليست الخاسر الوحيد
إزاء ذلك لن تكون المعارضة السورية التي افتتحت مكاتبها في أنقرة واسطنبول تحت مسمى “الائتلاف الوطني المعارض”، هي الخاسر الوحيد من عودة العلاقة بين تركيا والنظام السوري، بل إن الإدارة الذاتية الكردية وعلى رغم الدعم المباشر لها من قبل الولايات المتحدة والتحالف الدولي، ستكون خسارتها مضاعفة.
ويرى مراقبون للمشهد في الشمال السوري أن التخوف يشتد مع إرساء المصالحة بين البلدين وتجذرها إذ باتت حتمية الحدوث، ولعل المشروع الانفصالي القاضي بإقامة دولة كردية بات مهدداً بالخطر.
ويجزم الباحث في الشأن الكردي جوان اليوسف بأن “الأكراد اليوم هم أكثر من يتخوف من نتائج التقارب، لأنه بلا أدنى شك يصب في خانة توحيد موقف تركيا مع كل فصائلها المتشددة وأدواتها مع موقف السلطة السورية، والاتفاق سيضع الأكراد في مواجهة صعبة، بالتالي سيزيد من حجم معاناتهم وضعف إمكان إيجاد موطئ قدم لهم.
ولفت اليوسف إلى أن “هذا المكون القومي في سوريا لا يسعه الدخول بحال خصام وعداء، لا مع تركيا ولا مع دمشق، بل إن الأكراد يسعون إلى السلام، وهم أكثر من يتأثر بالعنف لأن هذه الدول ليس لديها أي روادع عن استخدام العنف المفرط تجاههم”. وأردف قائلاً “إن الإدارة الذاتية أعطت صورة جيدة، سواء في محيطها الإقليمي أو الدولي، وتمكنت بجهودها العسكرية من الوقوف أمام “داعش” ومحاربته والانتصار عليه إلى جانب التحالف الدولي. ولعل داعش أكثر خطورة على النظامين السوري والتركي”.
وقال المتحدث ذاته إنه “في وقت يكافح الأكراد الإرهاب، فإن لديهم هذه المرة ما يخسرونه لأنهم صنعوا كثيراً من العلاقات الخارجية والمحلية، وأقاموا إدارة بالمستوى الفكري والإنساني والسياسي المطلوب، تتوافق على الأقل مع محيطهم باستثناء الجار التركي”.
ومن المعلوم أن الاستدارة التركية هذه لم تأت فقط بعد لقاء جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان في قمة سوتشي في أغسطس (آب) الماضي فحسب، بل جاءت بعد حسابات تركية أبرزها محاولة “حزب العدالة والتنمية” الحاكم كسب الشارع التركي المعارض الذي ينتقد حال العداء المتزايدة تجاه دمشق، ويعتبر أنها أفضت إلى زيادة عدد اللاجئين، بالتالي تفاقم حالة العنصرية المفرطة من قبل الشارع التركي تجاههم.
في المقابل يصف متابعون للشأن السياسي التركي أول إعلان للتقارب بين أنقرة والنظام السوري بمثابة إيقاظ للأكراد من حلم وردي ببناء دولتهم التي تتمتع بعوامل مساعدة، فمعظم المناطق التي يخترقها نهر الفرات تعد استراتيجية وتحتوي على ثروات معدنية وباطنية أبرزها البترول، كما أنها سلة الغذاء السوري بلا منازع، علاوة على المد السياسي والعسكري بتشكيل أجهزة جيش وأمن وإدارة محلية ذاتية، عدا عن التحالفات الدولية القوية التي نسجها الأكراد، كل ذلك يؤهلهم لإعلان دولة مستقلة أو إدارة لامركزية”.
فكا كماشة
ويذهب الباحث في الشأن الكردي جوان اليوسف إلى تفسير ما يعيشه الأكراد السوريون من التناقضات بين الأنظمة، فيقول “نعم يستفيدون منها ولكن لا يعولون عليها بشكل نهائي، ولهذا تسعى الإدارة الذاتية لإنجاح مشروعها مع حكومة دمشق المركزية لأنه لا نجاح لهذا المشروع من دون التقارب مع دمشق، بالتالي إذا نجح أو لم ينجح التحالف التركي – السوري فإن العلاقة مع العاصمة في النهاية أمر لا بد منه”.
وينظر الباحث اليوسف إلى هذه التطورات كونها متوقعة بعد نشوب الحرب الأوكرانية في فبراير (شباط) الماضي، بخاصة بعد الأزمات التي عاشتها تركيا في السنوات الأخيرة. ويضيف “لاحظنا تقارباً بين أنقرة ودول عربية، وكل هذا لأن تركيا مستقرة نسبياً بسبب التوازن بين روسيا وأميركا، ولكن الكماشة أخذت تضيق لسبب فقدانها توازنها لصالح أميركا”.
كذلك يعتبر اليوسف أن “قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تعقد مؤتمرات على الصعيد السياسي والعسكري وسط تقارب مع أميركا والتحالف الدولي، إذ ما زال الدعم الأميركي حاضراً، ولعل خيارات الأكراد بشكل عام وقسد بشكل خاص، ضعيفة وإمكانية اللعب، فيها كثير من الصعوبة. وسيظل الأكراد يلعبون بالمنطقة المظلمة، وبالمنطقة التي لا يقترب منها المتحاربون”.
ويترقب الأكراد ما ستؤول إليه نتائج التقارب الذي يسير على خطى ثابتة بين النظام السوري وتركيا، ولعل بوادر حسن النوايا بين الجانبين في أولى الاجتماعات على النطاق الأمني قد أثمرت فتح المعابر وغيرها من الصفقات الميدانية، إلا أن الملف الكردي يعد من القضايا المعقدة فهم يطالبون باللامركزية واستقلالية القرار، في حين تعلن دمشق الحرص على “وحدة أراضيها واستقلالها”، وبين هذا وذاك، يبقى خيار الحرب وعدم التفريط بالأرض الخيار الأخير والأكثر صعوبة والمستبعد حالياً لاسيما مع وقف العملية التركية التي كانت مزمعة على شنها في شمال سوريا.
اندبندت عربي