أعد ثلاثة عشر من كبار الباحثين في معهد “تشاتام هاوس” البريطاني بحثا بعنوان “بناء الرخاء العالمي.. مقترحات للنمو المستدام”، وقدّموا العديد من المقترحات والخطط للتعافي الاقتصادي بعد جائحة كوفيد – 19 التي من شأنها أن تخلق فرصة لتحويل مسار التنمية الدولية. إلا أن مثل هذه المبادرات تحتاج إلى تعزيز الاستثمارات في العالم النامي، مما يفيد الاستدامة والمرونة المجتمعية.
لندن – يستكشف البحث الذي قدّمه خبراء تشاتام هاوس خيارات تعجيل التنمية وتمويلها في قطاعات مثل الصحة العامة والمناخ والبنية التحتية الرقمية، وذلك من خلال التأكد من أن العلاقة بين الجهات المانحة والدول النامية أكثر فعالية وإنصافا. كما يؤكد على مأزق أساسي بين الحاجة إلى أساليب جذرية والاعتراف، في ضوء التيارات الجيوسياسية والاقتصادية المعاكسة الحالية، بأن التغيرات الإضافية أو الفنية قد تكون في الغالب الطريقة الأكثر واقعية لتعزيز أجندة التنمية.
وقد شاركت في مناقشة وصياغة هذه المقترحات الخبيرة البريطانية ليزلي فينجاموري مديرة برنامج الولايات المتحدة والأميركتين في المعهد، وعميدة أكاديمية الملكة إليزابيث الثانية للقيادة في الشؤون الدولية التابعة للمعهد، وجيم أونيل عضو مجلس اللوردات، بالإضافة إلى السياسي والدبلوماسي اللورد مارك مالوش – براون رئيس مؤسسات المجتمع المفتوح، أكبر ممول خاص في العالم للجماعات المستقلة التي تعمل في مجالات تحقيق العدالة والحوكمة الديمقراطية وحقوق الإنسان.
الدول الغنية قد تمتنع عن تقديم المال الكافي، وحينها ستضطر حكومات الدول النامية إلى الاعتماد على الضرائب
ويختلف الخبراء المشاركون على نطاق واسع في تقييماتهم لاحتمالات التعاون الدولي، وطموح المبادئ والمقترحات الخاصة بالعمل الذي يحبذونه. وهذا يعكس حقيقة أنه ليس هناك مقترح واحد يناسب كل السياقات.
وتعتبر التغطية الصحية الشاملة والإجراءات الخاصة بالمناخ مثالا لهذا المأزق. فمن ناحية، عززت الجائحة ضرورة أن تكون هناك استثمارات طموحة في التغطية الصحية الشاملة، بينما تؤكد افتقارا مروعا إلى التضامن العالمي في التعامل مع مشكلات الصحة العامة الكبيرة. وفي ضوء الاحتمال الكبير للغاية بأن لا تقدم الدول الغنية المال الكافي في المستقبل، سوف تضطر الحكومات في الدول النامية إلى حد كبير إلى الاعتماد على الضرائب المحلية لتمويل تغطية الصحة العامة الشاملة، أو أي تحسينات لنظام صحي آخر في وقت تعاني فيه ميزانياتها من ضغوط شديدة.
ومع ذلك، فإن الموقف ليس بدون أمل: إذ أنه إذا ما عدل صندوق النقد الدولي مراقبته الاقتصادية لتشمل تقييمات للأنظمة الصحية في الدول، فإن ذلك يمكن أن يشجع الحكومات على اتباع أفضل السياسات في هذا المجال.
إن أي تغيير فني من هذا النوع سيكون فعالا بوجه خاص إذا كان مصحوبا بتعريفات أكثر مرونة من جانب صندوق النقد الدولي للإنفاق والدين الحكومي المستدام، مما يمكن أن يوفر للدول القدرة على الاستثمار بدرجة أكبر في الصحة العامة بدون تعريض صلاحياتها الائتمانية للخطر.
وبالمثل يمكن أن يكون لأي تعديلات محددة في توجهات السوق المالية والتدخلات التنظيمية تأثير كبير بالنسبة إلى تمويل الإجراءات الخاصة بالمناخ.
وإذا لم تقم الدول الأعضاء في مجموعة العشرين بزيادة تمويل المبادرات الابتكارية لتعزيز التمويل الخاص والعام للبنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصال، سوف تزداد الفجوات الرقمية اتساعا. ولكن إذا استطاعت مجموعة العشرين مواجهة التحدي، فإن الاتصال الشامل والمفيد يمكن أن يساهم في تحقيق النمو الاقتصادي المستدام، والاشتمال الاجتماعي والإجراءات الخاصة بالمناخ. ولم يكن هناك على الإطلاق وقت أكثر إلحاحا من الوقت الحالي لوضع الوصول إلى الإنترنت في صدارة التنمية الاقتصادية، وحشد الجهد الموحد من جانب القطاعين العام والخاص.
عدم الأمان والتنافس يؤديان إلى تقليص احتمال قيام الولايات المتحدة والصين بمواءمة برامجهما حتى تستطيع الدول النامية تحقيق أهداف تنموية أساسية
إن الحاجة إلى ترسيخ الثقافة والحوافز للتعاون الفعال في مجال التنمية ملحة للغاية. ويعتمد التقدم في أي مجالات سياسات محددة على إنهاء الافتقار إلى الثقة، والذي غالبا ما يعرقل علاقات التنمية. فالدول النامية تشعر بالاستياء أحيانا إزاء ما تعتبره “شروطا” تدخّلية من جانب المؤسسات المقرضة. كما أن التنافس الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين يقوض جهود الجهات المانحة الرئيسية لترسيخ الثقة مع الدول النامية.
ويؤدي عدم الأمان والتنافس إلى تقليص احتمال قيام الولايات المتحدة والصين بمواءمة برامجهما حتى تستطيع الدول النامية تحقيق أهداف تنموية أساسية. وسوف تستفيد عملية إعادة بناء الثقة و”إعادة ضبط” العلاقات بين الدول المانحة والمستفيدة من أي إستراتيجية تؤكد الابتكار المشترك لمبادرات التنمية وتضع آليات لضمان المسؤولية.
كما يرى الباحثون أن المشاركة في الإبداع والمسؤولية أمران أساسيان لإنهاء الافتقار إلى الثقة في علاقات التنمية بين الجهات المانحة والمستفيدين، وتحقيق مكاسب اقتصادية أكثر استدامة، مع توزيع مكاسب النمو بصورة أكثر عدلا.
ويرى معدّو البحث أن الموارد متوفرة في القطاعين العام والخاص من أجل بذل جهد أكثر طموحا في مجال التنمية، لكن يبقى الشرط الذي يحقّق ذلك هو الثقة بين الأطراف المعنية.
العرب