تسبب انهيار الدولة الليبية وحالة الانفلات الأمني التي عرفتها البلاد بارتفاع منسوب العنف بشكل غير مسبوق ضد المرأة، ولا تزال النساء ينتظرن تشريعات قانونية لحمايتهن والحصول على حقوقهن الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
لا يمكن فصل ظاهرة العنف المستفحل في المجتمع الليبي عن دوافعه الاجتماعية والثقافية التي تجسدت بالخصوص في العنف الموجه ضد النساء، والتي ترتبط دون شك بالمواجهات المفتوحة سياسيا واقتصاديا وعقائديا، وكذلك بالأبعاد الجهوية والمناطقية والقبلية في سياق الصراع على السلطة بكل أشكالها وأبعادها من سلطة الحاكم إلى سلطة أمير الحرب، ومن سلطة المال إلى سلطة الرجل وفقا لخصوصيات المجتمع القبلي الذكوري، الذي يسعى إلى تشريع أعرافه المتوارثة بغطاء ديني زاده الإسلام السياسي رسوخا خلال السنوات الماضية.
غياب نظام قانوني متين
وقالت بعثة الأمم المتحدة إنه وعلى غرار العديد من البلدان في جميع أنحاء العالم، تحتاج ليبيا إلى وضع نظام قانوني متين للتصدي للعنف ضد النساء والفتيات، بما في ذلك سن قوانين مناسبة لضمان حماية ضحايا العنف، تضمن توفير الخدمات الكافية للنساء والفتيات لدعمهن والمساعدة في محاسبة الجناة.
وأضافت البعثة أن العنف ضد النساء والفتيات بأشكاله المختلفة أخذ منحى تصاعديا في ليبيا، ويشمل اللفظي أو الجسدي وما يعرف بـ”جرائم الشرف”، علاوة على العنف ضد المرأة عبر الإنترنت.
وارتفعت خلال الفترة الماضية جرائم قتل النساء في مناطق عدة من ليبيا في ظل عودة قوية لشعارات التشدد الديني السلفي، وسجلت التقارير الأمنية مقتل سبع نساء خلال أسبوع واحد بشرق البلاد، ما يشير إلى اتساع رقعة العنف وفق النوع الاجتماعي، ما جعل رئيسة مفوضية المجتمع المدني في بنغازي مبروكة بالتمر تطالب مجلس النواب بـضرورة الإسراع بإصدار قانون مناهضة للعنف ضد المرأة، مشيرة إلى أن المرأة الليبية تواجه أسوأ أنواع العنف، ألا وهو العنف الأسري الذي يجعلها وحيدة ودون أي دعم.
كما أعلنت لجنة شؤون المرأة والطفل بالبرلمان أنها عاكفة وبكل جدية على إصدار قانون يجرم العنف ضد المرأة بكافة أنواعه وأشكاله في القريب العاجل، ودانت واستنكرت لجنة شؤون المرأة والطفل ما تعرضت له بعض النساء في ليبيا من عنف أسري أدى إلى قتلهن عمدا لأسباب يأباها الشرع والقانون، مطالبة الجهات القضائية وكافة الجهات المسؤولة باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لمعاقبة مرتكبيها.
ومع إطلاق تظاهرة 16 يوما من الفعّاليات ضد العنف القائم على النوع الاجتماعي، دعا المبعوث الأممي إلى ليبيا عبدالله باتيلي كافة الجهات الفاعلة في ليبيا إلى اتخاذ خطوات جادة وفاعلة لمكافحة العنف ضد النساء والفتيات في البلاد.
وأشار إلى أنه “ينبغي تمكين المرأة وتوفير الحماية لها ليتسنى لها التعبير عن آرائها بشأن التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلدان التي تنتمي إليها”.
ولا تزال المرأة الليبية تنتظر الحصول على حقوقها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية كاملة. كما تطمح إلى القيام بالدور السياسي الذي ينسجم مع موقعها في المجتمع ويفسح أمامها المجال لتتولى مراكز قيادية في الدولة.
ويرى مراقبون أن نساء ليبيا كان لهن دور مهم في كل المحطات التاريخية، ولكنهن أكثر من دفعن ثمن الصراعات والحروب، لاسيما منذ العام 2011، ولا يزلن إلى اليوم في انتظار تشريع قوانين تقدمية تحميهن من العنف والتهميش والإقصاء والظلم والحيف السياسي والاجتماعي.
ويظهر العنف ضد النساء والفتيات في أشكال وصفات عديدة، وقد تطوّر مؤخرا ليشمل التحرش عبر الإنترنت وأعمال التهديد والاستغلال. وتظهر المعلومات والبيانات المتواترة أن النساء يقعن ضحايا للعنف عبر الإنترنت بأساليب تشمل تلقي رسائل غير لائقة وممارسة خطاب الكراهية والابتزاز.
ومع تزايد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في ليبيا، هناك حاجة إلى رفع مستوى الحماية من الإساءة والتحرش عبر الإنترنت، وذلك وفق بيان لبعثة الأمم المتحدة في ليبيا التي جمعت ناشطات من جميع أنحاء البلاد للدعوة إلى وضع حد للعنف عبر الإنترنت والتحرش ضد المرأة، في إطار دعم حملة 16 يوما من العمل لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي.
وبات هناك شبه إجماع على أن انهيار الدولة والعودة إلى ما قبلها وحالة الانفلات التي عرفتها البلاد على جميع الأصعدة وانتشار السلاح والميليشيات واتساع ظاهرة الإفلات من العقاب والنظر إلى الدولة في صورتها السابقة على أنها كانت معادية للمجتمع أو مناهضة لثوابته، أدى آليا إلى ارتفاع منسوب العنف بشكل غير مسبوق ضد المرأة، باعتبارها العنصر الهش داخل الأسرة والمجتمع.
وعلى مدى الشهرين الماضيين، عمل قسم المساواة بين الجنسين التابع لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا على جمع 90 ناشطة من أنحاء ليبيا، للوقوف خلف رسالة موحّدة لمناهضة العنف والتحرش عبر الإنترنت.
وقالت ندى دروزه، مسؤولة شؤون المساواة بين الجنسين في البعثة، “من المهم تسليط الضوء على أنه وعلى الرغم من خلافاتهن السياسية، فإن النساء الليبيات متحدات حول القضايا ذات الصلة بالنهوض بأوضاع المرأة وحقوقها”.
وأردفت أن “هذا الموقف الموحد يمثل رسالة إيجابية يجب أن يتردد صداها باستمرار”.
وتم تصميم الدعم المقدم لمنظمات المجتمع المدني في أعقاب سلسلة من الاجتماعات التي عقدها قسم المساواة بين الجنسين مع العديد من الناشطات وممثلات منظمات المجتمع المدني النسائية، لمناقشة التحديات التي تواجهها المرأة الليبية. وكان أبرز هذه التحديات هو أن الحركة النسائية في ليبيا لم تكن موحدة خلف قضايا المرأة، بحسب ما أوضحته المشاركات في النقاشات.
وأوضحت دروزه أن ظاهرة العنف عبر الإنترنت وخطاب الكراهية آخذة في الازدياد، وأن مواجهة هذا الازدياد تمثل أولوية للنساء المعنيات منذ فترة طويلة، وأضافت أن النساء يطالبن صناع القرار بالإصغاء إليهن واتخاذ تدابير فعالة لحمايتهن في الفضاء الافتراضي و”يرغبن أيضا في تغيير الخطاب العام حول هذه القضية، ووقف القبول السلبي لهذا السلوك عبر الإنترنت”.
وأعلنت وزيرة الخارجية بحكومة الوحدة الوطنية نجلاء المنقوش رفض كافة أشكال العنف ضد المرأة، المرفوضة شرعا وإنسانيا، والتي تشمل كذلك التنمر والإساءة للمرأة على منصات التواصل الاجتماعي، والتمييز ضدها في مواقع العمل وداخل المجتمع.
وأوضحت وزيرة الدولة لشؤون المرأة في الحكومة المنبثقة عن مجلس النواب انتصار عبود أن العنف ضد المرأة بشتى أنواعه بات يشكل خطرا كبيرا في المجتمع، حيث تتعرض النساء لعدة أنواع وأشكال من العنف، من بينها العنف الإلكتروني والهجمات الشرسة على مواقع وصفحات التواصل الاجتماعي، وما تتعرض له من تجريم وتهكم، وما ينتج عن هذا العنف من آثار نفسية واجتماعية تعانيها.
وأشارت إلى أن العنف ضد المرأة يقف حجر عثرة ضد تمكينها في المناصب القيادية وأمام حقها الوطني والديمقراطي في الترشح للانتخابات، وهذا الجرم نتج عنه تراجع العديد من الكوادر النسائية عن خوض الانتخابات في العديد من المناطق.
ويعتبر ناشطون حقوقيون أن المرحلة القادم تحتاج إلى الكثير من الجهود المشتركة بين النساء والرجال المدافعين عن حقوقهن لمواجهة قوى التطرف والظلام، التي لا تزال تعمل على منع المرأة لا فقط من نيل حقوقها، ولكن من القيام بواجباتها أيضا، رغم ما أثبتته من جدارة بالمسؤولية والقدرة على مواجهة التحديات والمساهمة في الدفاع عن قيم الأمن والسلام ووحدة المجتمع وسيادة الدولة.
ويعتقد الناشطون أن القانون الجنائي الليبي لا يزال يحتوي على بعض الثغرات الحقوقية وعلى أحكام تدخل في نطاق التمييز الجنسي ضد المرأة، كما أن العقلية الذكورية لا تزال تسيطر على المجتمع وتحاول تبرير ذلك بخطاب ديني متشدد يجد صدى له في بعض أوساط المجتمع القبلي، التي لا تعترف بحرية المرأة ولا بمساواتها مع الرجل، ولا ترى فيها إلا أصلا ثابتا لشرف الأسرة ولصورتها في بيئتها البدوية.
وأحصى الكاتب والمحلل السياسي محمد عكر بعيو جملة من أدلة العنف والقسوة على النساء، من بينها أن الليبيات تعذبن وتمت إهانتهن على أعتاب المصارف بسبب أزمات السيولة المفتعلة، وأن الليبيات يتعرضن على أيدي المتشددين والمتخلفين والمرضى النفسيين إلى عمليات امتهان متزايدة، تتمثل في تسليع المرأة الليبية، أي تحويلها إلى سلعة في أسواق النخاسة الذكورية المقيتة، كما يتم تزويج القاصرات دون أي احترام لحقهن في اختيار شريك الحياة، بعد اكتمال النضج الجسدي والعقلي والعلمي، وتطليق المتزوجات لأتفه الأسباب، وحرمانهن من حقوقهن الدينية والقانونية في مؤخر الصداق والنفقة والمنزل، والتحرش بالعاملات منهن، ومنع النساء المتفوقات والمقتدرات من تولي الوظائف القيادية العليا والوسطى، رغم أن النساء عامة وفي ليبيا خاصة أكثر تميزا وتفوقا وقدرة ومهارة من معظم الذكور المحتكرين للدولة وللقيادة وللإدارة بغير حق ولا كفاءة.
ورغم ظهور عدد من مشاريع القوانين خلال السنوات الماضية، إلا أن مسألة العنف ضد المرأة في ليبيا لا تزال تحتاج إلى ثورة ثقافية حقيقية داخل المجتمع على أساس المبادئ الكونية لحقوق الإنسان وفكرة المساواة بين الجنسين، لاسيما أن هناك إجماعا على أن القانون يحتاج إلى ظروف ملائمة لتطبيقه، وفوق ذلك إلى وعي به وبأهميته لاحترام بنوده وتوفير آليات نفاذه.
وما يزيد الوضع تأزما، أن العنف ضد المرأة اتخذ شكلا جديدا يتمثل في التحرش والتنمر على مواقع الإنترنت وصفحات التواصل الاجتماعي، في ظاهرة تستند إلى حالة الفوضى والانفلات في الفضاء الإلكتروني، ولم تسلم منها غالبية البارزات في الفضاء العام كالفنانات والإعلاميات والرياضيات والكاتبات والناشطات الحقوقيات والسياسيات، ومن بينهن وزيرة الخارجية في حكومة الوحدة المنتهية ولايتها نجلاء المنقوش التي تعرضت للهجوم عليها بسبب عدم ارتدائها الحجاب، إذ إن السفور لا يزال رديفا للخروج عن القيم الأخلاقية والاجتماعية وفق العقلية السائدة، في ظل انتشار خطابات الإسلام السياسي والاجتماعي في مختلف أرجاء البلاد بشكل غير مسبوق.
وينظر أغلب الناشطين إلى أن أي محاولة لتحصين المرأة من العنف تحتاج إلى إعادة تشكيل الوعي الاجتماعي، بدءا من الأسرة والتعليم والإعلام والثقافة والخطاب الديني المنفتح وقمع الخطاب المتطرف وخطاب الكراهية، وصولا إلى القانون الذي يجب أن يكون نافذا في حق كل من يتجاوزه، مع عدم السماح باعتماد أي مبرر لتعنيف المرأة، كما أن التمكين الاقتصادي للمرأة يمكن أن يساعدها على حماية نفسها من كل الأخطار التي تتهددها داخل الأسرة والمجتمع.
وكانت دراسة استقصائية سريعة، أجرتها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في ليبيا، كشفت عن عدد من التحديات التي تواجه النساء الليبيات، من أبرزها “زيادة الاضطرابات المنزلية والعنف المنزلي في أسرهن، إذ عبرت 46 في المئة من النساء عن خوفهن من زيادة نوبات الغضب في المنزل، نتيجة لتواجد أزواجهن وزيادة الضغوط الاقتصادية”، وهو ما يؤثر على حياة الأسرة ويدفع نحو المزيد من الاختلالات النفسية داخل المجتمع.
وبحسب الكاتبة انتصار البوراوي، فإن الحكومات المتعاقبة، بعد ثورة فبراير في عام 2011، والوزارات المختصة بالشؤون الاجتماعية أو وزارات المرأة المتتالية، لم تعمل على إنجاز أي خطوة على طريق حماية النساء، معنويا أو ماديا، بإنشاء دور أو مؤسسات لحماية النساء المعنفات والمهددات بالعنف أو القتل من أزواجهن أو عائلاتهن، وكل ذلك ساعد في استفحال ظاهرة تعرض النساء الليبيات للعنف والقتل دون وجود سند يحميهن من المصير المأساوي الذي يتعرضن له، في ظل عدم وجود ملجأ أو مكان يحميهن من حالات الاعتداء والضرب والتهديد بالقتل.
واعتبرت البوراوي أن الدولة مسؤولة عن كل ما تتعرض له النساء الليبيات من عنف أسري أصبح يستفحل ويتعاظم كل يوم، ويظهر في جرائم قتل للنساء بأعداد كبيرة لم تكن معروفة بالمجتمع الليبي.
وتابعت أن المشكلة الرئيسية في قضية النساء اللاتي يتعرضن للعنف الأسري والتهديدات بالقتل تكمن في عدم وجود مكان يلجأن إليه كلما تعرضن للعنف والتهديد الأسري كما كان في بداية التسعينات، حين أنشأت الدولة مؤسسات لحماية النساء المعنفات أو المهددات بالقتل في أكثر من مدينة، أطلق عليها اسم مؤسسات “البيت الاجتماعي”، وتتمثل مهمة تلك المؤسسات في احتواء من يتعرضن للضرب والعنف من عائلاتهن، فتوفر المؤسسة مكانا آمنا لهن للإقامة ولمواصلة دراستهن أو عملهن، ولكن للأسف تم إقفال وإلغاء مؤسسة “البيت الاجتماعي” بفروعها.
وفي انتظار توفر الحل السياسي للأزمة التي تعرفها البلاد منذ 12 عاما، تبقى قضية العنف ضد المرأة معلقة إلى حين استعادة الدولة لسيادتها والقانون لسلطانه، وكذلك إلى حين التوصل إلى خيارات مجتمعية توافقية تحترم الحقوق العامة والخاصة، بما فيها حقوق المرأة التي لا يمكن فصلها عن جملة أعمدة البناء الاجتماعي السليم والثابت، حيث يعتقد البعض أن السلام الأهلي والرفاه الاقتصادي والوفاق الاجتماعي والتعدد الثقافي والانفتاح الحضاري، يمكن أن يساعد على تغيير الواقع بتغيير أدوار ومواقف وعقليات ومشاعر المتحركين فيه، فالتحولات الإيجابية هي التي تستطيع استبعاد الظواهر السلبية من المجتمعات ولو تدريجيا، كما أن تطور الوعي لدى الفرد يمكن أن يؤسس لتحولات في مستويات الوعي الجمعي، بما يؤدي إلى تقديس الحريات والحقوق واحترام القانون وسلطته، والنظر بأكثر إيجابية وعقلانية إلى الآخر مهما كان موقعه أو واقعه أو نوعه الاجتماعي.
العرب