مع دخولها الشهر الرابع .. إلى أين تتجه الاحتجاجات الإيرانية

مع دخولها الشهر الرابع .. إلى أين تتجه الاحتجاجات الإيرانية

افتتحت الاحتجاجات التي تشهدها إيران الشهر الرابع دون توقف من جانب المحتجين الذين ينددون بسياسات النظام غير الداعمة للحريات الاجتماعية، ويدعون لإسقاطه. وبالرغم من صدور قرار “حل شرطة الأخلاق” التي تعرف محلياً باسم “كشت ارشاد” (أي دوريات الإرشاد)، والتي طُبقت في عهد الرئيس الإيراني الأسبق المحافظ المتشدد محمود أحمدي نجاد، من أجل “نشر ثقافة اللباس اللائق والحجاب”، وهو مطلب تداوله المحتجون منذ الأيام الأولى لوفاة الفتاة الكردية مهسا أميني، التي توفت إثر اعتقالها من قبل هذا الجهاز على خلفية عدم التزامها بقواعد الزى الإسلامي الذي تفرضه السلطات، إلا أن هذا القرار الذي صدر يوم 3 ديسمبر 2022، أثار بعض الشكوك حول الدلالات والتداعيات المترتبة عليه، والآلية التي سيتم تطبيقها لفرض مراقبة و”وصاية” النظام على الشعب.

دلالات عديدة

اللافت في هذا السياق أن النظام الإيراني لم يبد في بداية اندلاع الاحتجاجات أي رغبة تدل على استعداده للاستجابة لمطالب المحتجين، بل واصل قمعهم وإلقاء اللوم على قوى أجنبية معادية، لكن خلال الأيام التي سبقت صدور القرار الأخير، بدا أن منصات وسائل الإعلام الحكومية تتبنى لهجة أكثر تصالحية، معربة عن الرغبة في التعامل مع مشاكل الشعب.

وقد دفع ذلك البعض إلى توقع أن تلك الخطوة ستتبعها خطوات أخرى مماثلة. ويمكن الإشارة إلى بعض الملاحظات حول هذا القرار فيما يلي:

1- انقسام حول تفسير قرارات النظام الأخيرة: رغم ما تم تفسيره من جانب البعض على أن القرار بمثابة تراجع من قبل النظام أمام الضغط الشعبي المستمر ضده، استناداً إلى ما يشير إليه توقيته بأن طهران استنفدت الحلول الأمنية والقمعية، وباتت تدرك أن خياراتها باتت محدودة في التعاطي مع احتجاجات شعبية تحولت إلى محاكمة للنظام الديني ورموزه، فسره البعض الآخر على أنه قد يكون محاولة من جانب النظام لتهدئة الاضطرابات الداخلية دون تقديم تنازلات حقيقية للمحتجين، وذلك استناداً إلى أن تلك القضية تعد شديدة الحساسية لدى النظام. لذا فمن الصعب أن يقدم تنازلات إزاءها لما يعنيه الحجاب في إيران كونه مظهراً من مظاهر سلطة النظام، ويصعب التخلي عنه لأنه أساس من أسسه.

2- غموض حول سياسات النظام: ألغت السلطات المعنية “دوريات الإرشاد” من دون أي تفسير للكيفية التي ستعتمدها الدولة لمراقبة السلوكيات الاجتماعية، مما أثار شكوكاً حول مدى إمكانية اعتبار هذا القرار تحول كبير في السياسة المتبعة، خاصة أنه لم يعالج مطالب المحتجين بإلغاء قواعد اللباس الإلزامي تماماً، أو التعامل مع قائمة واسعة من المظالم المتعلقة بالحريات المدنية والحوكمة وسيادة القانون.

3- عدم رغبة النظام في تقديم تنازلات: بدا واضحاً رغبة النظام في عدم وصف هذه الخطوة بأنها “تنازل”، خشية أن يؤدي أي تنازل جديد إلى إغراء الرافضين والمحتشدين ودفعهم إلى فهم الرسالة على أنها توحي بأن النظام بدأ في التنازل تحت الضغوط، وأن المزيد من الضغوط ستؤدي إلى المزيد من التنازلات، ومن ثم يمكن أن يكون قرار إلغاء شرطة الأخلاق محفزاً للمزيد من الضغوط [1].

إلى أين تتجه الأوضاع في إيران؟

على عكس التوقعات بأن تؤدي بعض المرونة التي أبداها النظام في التعامل مع الاحتجاجات إلى حدوث انفراجة في الأزمة، تزايدت الأوضاع سوءاً، ويمكن قراءة المشهد في الداخل الإيراني من خلال الآتي:

1- استمرار الاحتجاجات: قامت المرأة بدور ريادي خلال الاحتجاجات مما دفع مجلة “تايم” الأمريكية إلى وصفها بـ”بطلة عام 2022″، ورغم أن حدث الحجاب فجر الحراك في الداخل الإيراني، إلا أنه لم يكن الإشكالية الوحيدة التي تنحصر فيها المعضلة، فقد كان لتطور خطاب المحتجين برفع شعارات هادفة إلى تغيير سياسي على مستوى النظام وهيكله الديني، ومناهضة رأس الدولة مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي، دلالة على أن الاحتجاجات ليست ضد الحجاب بمعناه الديني ولكن بمعناه السياسي الذي يعني حجب الشعب عامة عن حقوقه الأساسية، لذا فإن ما قام به النظام بحصر الاحتجاجات بالحجاب لم يُهدِّئ حالة الغضب العارمة ضده، فما حدث كان عكس توقعاته، وواصل المحتجون نشاطاتهم لما رأوه في الخطوات التي اتخذها النظام بأنها بمثابة “تضليل”، وتسعى إلى صرف انتباه الشعب عن دعوات الاحتجاج أو لإثارة الانقسامات والشكوك بين النشطاء.

في هذا الإطار، استجابت فئات عديدة لدعوات كانت قد انطلقت للإضراب العام لمدة ثلاث أيام في 5 و6 و7 ديسمبر، فبالتزامن مع حدوث خلل في الإنترنت، انتشرت موجة الكتابة على الجدران للدعوة للانتفاضة في مدن مختلفة من إيران. وكان لتنفيذ أصحاب المتاجر لتلك الدعوات ما يشير إلى أن الاستياء من سياسات النظام لا يزال منتشراً في المدن الكبرى مثل طهران وكرج وأصفهان ومشهد وتبريز وسيراز، وبالإضافة إلى السوق والمحلات التجارية، انتشرت الإضرابات في مدن عدة منها العاصمة طهران وشيراز وأصفهان وكرمان، وغيرها من شمال البلاد إلى جنوبها، كما أضرب نحو 500 من عمال العقود العاملین في شركة خزانات بتروكيماويات معشور/ ماهشهر جنوب غربي إيران [2].

2- خلق حالة انقسام بين التيارات السياسية: فسر قرار “إلغاء شرطة الأخلاق” من قبل البعض على أنه بمثابة محاولة من جانب النظام للاستفادة من حالة انقسام في المجتمع قد يفرضها هذا القرار، لما سيواجهه من رفض من جانب بعض الفئات مقابل قبول البعض الآخر، الأمر الذي يحول الصدام إلى صدام مجتمعي. فقضية الحجاب مسألة حساسة في إيران يتواجه فيها معسكران، هما المحافظون الذين يصرون على بقاء قانون 1983، والتقدميون الذين يريدون منح المرأة الحق في اختيار ارتداء الحجاب أو عدم ارتدائه. وينص القانون الساري منذ 1983 أي بعد أربع سنوات من انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، على إلزام النساء الإيرانيات والأجنبيات بمعزل عن ديانتهن، بارتداء الحجاب وملابس فضفاضة في الأماكن العامة. لذا فالفئات الطامحة بحدوث تعديلات في النظام المتشدد ترفض وصاية “شرطة الأخلاق” عليها، بخلاف الطبقة المتشددة التي ترفض تماماً أي تعديلات على تشريع الحجاب.

3- استمرار استخدام القمع: لم تغير طهران من أساليب قمعها للمحتجين والتي أدت إلى سقوط عشرات القتلى ومئات المصابين، حيث أفاد مجلس الأمن القومي (أعلى هيئة أمنية في إيران) بأن أكثر من مائتي شخص قتلوا في الاضطرابات. وذكر العميد امير علي حاجي زاده قائد القوة الجوفضائية التابعة للحرس الثوري أن أكثر من 300 شخص قتلوا في الاضطرابات، من بينهم العشرات من رجال الأمن. وأعلنت منظمة “حقوق الإنسان في إيران” ومقرها النرويج في 29 نوفمبر 2022 أن 448 شخصاً على الأقل قتلوا بأيدي قوات الأمن خلال الاحتجاجات المتواصلة في مختلف أنحاء البلاد، وتم توقيف الآلاف.

ورغم ما أبداه النظام من اتباع حالة مرونة تجاه تلك الاحتجاجات، قام عقب ذلك مع استمرار المحتجين في التظاهر، باتخاذ خطوة أخرى تصعيدية بإعلانه يوم 8 ديسمبر 2022، تنفيذ حكم الإعدام بحق أول متظاهر يدعى محسن شكاري والذي اعتقل يوم 25 سبتمبر 2022 بتهمة حمل السلاح وإصابة أحد رجال الأمن بجروح بساطور، حيث جاء تنفيذ حكم الإعدام في شكاري بعد رفض طلب استئناف الحكم الذي تقدم به محاميه. وأصدرت السلطات القضائية الإيرانية حتى الآن ستة أحكام بالإعدام بحق عدد من المتظاهرين، ويعد شكاري هو أول حكم يتم تنفيذه منها [3].

4- جدل حول الاستفتاء على الدستور: جدد المحتجون الجدل الخاص بضرورة تعديل الدستور ليتناسب ومستجدات العصر، لما يرونه من أن الدستور الإيراني الصادر عام 1979 قد خضع لمراجعة شاملة عام 1989، واصفين تلك المرحلة بأنها الجمهورية الأولى ولكن البلاد تمر بما يسمونها بالجمهورية الثانية خلال أكثر من 3 عقود، وأن الوقت قد حان لمراجعة الدستور مرة أخرى والتحول إلى الجمهورية الثالثة [4]. ومع إعلان طهران “حل شرطة الأخلاق”، تطلع المحتجون لإجراء استفتاء على الدستور، وصرح إمام أهل السنة في زاهدان، مولوي عبد الحميد، في إطار ذلك بأنه “إذا أرادت القيادة التأكيد على أن شرعيتها من الشعب، فعليها إجراء استفتاء على الدستور”. كما طالبت حركة الحرية الإيرانية في بيان بالاستفتاء، مع التركيز على فصل المؤسسة الدينية عن الحكومة، معتبرة أن هذا هو “الحل الوحيد الواقعي وغير العنيف والمنخفض التكلفة لتجاوز الأزمة الحالية”. واعتبر أستاذ العلوم السياسية صادق زيبا كلام، أن العيب الأكبر للدستور هو عدم كتابته على يد فقهاء القانون، بل وضعه رجال الدين، واصفاً إياه بأنه غير قانوني، وفقاً لوسائل إعلام إيرانية. [5]

قابل النظام تلك المطالب بالرفض وبدا ذلك في تصريحات العديد من مسئوليه، حيث شدد الرئيس إبراهيم رئيسي يوم 3 ديسمبر 2022 على أنه “لا يمكن المساس بالدستور وخاصة بمبدأ الحكومة الإسلامية الذي يدعو المحتجون إلى إلغائه، ومبدأ أن يكون النظام جمهورياً لاستبعاد عودة البلاد إلى نظام الملكية”.

واعتبر رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف في اليوم ذاته أن “المطالب بالتغيير وبتجديد الحكم شأن وطني وليست شعاراً فئوياً متعلقاً بالمحتجين أو بالأقليات الإثنية”، إلا أنه شدد على “وجوب مناقشة أي تغيير في ضوء تطبيق الدستور، لا تغيير الدستور نفسه”. وقدم عدد من المسئولين الإيرانيين وعوداً يوم 3 ديسمبر 2022 بتعديل قانون الانتخابات التشريعية المقرر عقدها العام المقبل على أساس هذا القانون، مما يعني إضعاف قبضة مجلس صيانة الدستور على استبعاد المرشحين الذين يعتبرهم غير مؤهلين وبالتالي يعزز إمكانية وصول قوى جديدة إلى السلطة، كما أعلن البرلمان والسلطة القضائية أنهما بصدد مراجعة للقانون الذي يفرض إلزامية الحجاب [6].

خلاصة القول، إن حالة الاحتقان التي يشهدها الداخل الإيراني ستتواصل، في ظل استمرار بحث النظام عن الآلية التي يحتوي بها غضب المحتجين دون المساس بالثوابت التي قام عليها، وهو أمر ليس بالهين في ظل ربط المحتجين مطالبهم بتغيير النظام ككل وعدم الاكتفاء بإجراء إصلاحات حول تطبيق بعض القوانين فقط.

شروق صابر

مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية