توقعت وزارة الدفاع الأمريكية أن يتضاعف عدد الرؤوس النووية لدى الصين حوالي ثلاث مرات خلال الاثنى عشر عاماً القادمة. ومع هذا التضاعف ستزيد الصين من إمكانياتها على صعيد المنظومة النووية وتحدثها في إطار مساعيها لزيادة قوتها العسكرية. في أي سياق يمكن فهم عناصر الرؤية الأمريكية للقدرات النووية الصينية؟، وما هي أبرز تلك العناصر؟، وكيف جاءت الردود الصينية عليها؟.
السياق العام للرؤية الأمريكية للقدرات النووية الصينية
يمكن أن يتدرج السياق العام للرؤية الأمريكية للقدرات النووية الصينية من الضيِّق إلى الواسع والعكس. أي أنه يمكن أن يبدأ من الجانب النووي ذاته ثم ينتقل إلى العسكري إجمالاً ومنه إلى الاستراتيجي على الصعيد الثنائي، وبعد ذلك يأتي السياق العالمي. ومن ثم يمكن أن يأتي السياق العالمي أولاً نزولاً إلى الحقل النووي ذاته.
وأياً كان الأمر، فإن المسألة مرتبطة بإدراكات لدى صانع القرار الأمريكي، ومن ثم سياسات أمريكية على الأرض. وهذا ما يقابله بطبيعة الحال سياسات صينية منطلقة من إدراكات تأخذ في الحسبان ما باتت تسلم به الولايات المتحدة.
إذا ما تم البدء بالنطاق العالمي، فإن ما يمكن تسميته بالبيئة النووية العالمية تعاني اضطراباً غير مسبوق تقريباً، لدرجة أن مصطلح الحرب النووية بات من المصطلحات الرائجة إعلامياً وأكاديمياً في ظل ما يجاهر به صناع القرار في بعض الدول النووية من إمكانية اللجوء إلى استخدام الأسلحة النووية. وفي هكذا وضع، فإن السائد هو قناعات تزداد بأهمية ذلك النوع من الأسلحة، وبأهمية تطوير ما هو موجود. حتى وإن كانت هناك أصوات تنادي بسلوك الاتجاه الآخر، وهو السير قدماً في طريق التخلي التام عن تلك الأسلحة بحيث يصبح العالم كله خالياً من هذا السلاح الكفيل بفناء العالم. وهيهات بين الدعوات وحتى الإعلانات والاتفاقيات وبين ما يحدث على أرض الواقع. فالدول النووية لا تستبعد استخدام السلاح النووي، والكثير منها لا يستبعد اللجوء إلى الضربة الأولى. كما أنها مستمرة في رصد الأموال الطائلة لتحديث ترساناتها، وبعضها نفض يده من اتفاقيات كانت تنظم أموراً تخص ذلك النوع من السلاح، وحتى المفاوضات التي تم الاتفاق على الدخول فيها قد أجلت.
حالة الاضطراب هذه تتوازى معها حالة من عدم الثقة بين القوى العالمية النووية. ليس هذا فحسب بل إن هناك صراعاً مسلحاً معظم القوى النووية منخرطة فيه سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. ومن ثم تتواتر الأنباء حول مناورات نووية يجريها هذا الطرف أو ذاك، منفرد أو بشكل جماعي في إطار تحالفات قائمة.
بالنزول إلى المستوى الثاني، فإن أقل ما يقال على الصعيد الاستراتيجي هو أن الأمور لم تعد تقف عن التنافس بآليات غير قسرية، وإنما بات التنافس أقرب إلى الصراع في ظل الجنوح أكثر نحو الإجراءات القسرية ممثلة في العقوبات، ومن ثم السعي إلى تقوية تحالفات قائمة وإقامة تحالفات جديدة محيطة بالصين أو تستهدفها. تلك التحالفات ليست فقط عسكرية، وإنما هناك سعي لتحالفات تقنية أيضاً. كما لا يمكن إغفال الدور الأمريكي بشأن قضايا صينية داخلية أو أنها طرف فيها. وكلها قضايا تصنفها بكين ضمن قضايا السيادة والأمن القومي والمصالح الاستراتيجية التي لا يمكنها التفريط فيها. ويمكن إدراج قضايا من قبيل نزاعات بحري الصين الجنوبي والشرقي، وتايوان، وحقوق الإنسان في هذا الصدد.
لم تعد الولايات المتحدة تخفي أن الصين مصدر تهديد، بل إنها مصدر التهديد الأهم على الرغم مما هو دائر بينها وبين روسيا على خلفية الصراع في أوكرانيا. والتهديد ليس لمكانة الولايات واشنطن فقط، وإنما لما تسميه النظام الدولي القائم على القواعد.
على صعيد التسلح، فإن الولايات المتحدة، وعلى مدار سنوات كانت تتهم الصين بعدم الشفافية بخصوص إنفاقها العسكري، كما أنها دائماً ما تثير قضية التزايد في النفقات العسكرية الصينية. ومن ثم التوسع في قدراتها التسليحية على مختلف الأصعدة. وعلى ذلك فإن تقرير وزارة الدفاع الأمريكية الذي تضمن الحديث عن القدرات النووية الصينية تناول مجمل التطورات العسكرية والأمنية في الصين ليس فقط ما يتعلق بالقوات العسكرية والتحديثات التي تطالها، وإنما كذلك ما يتعلق بالوجود الصيني العسكري في الخارج، وبما أسماه التقرير الأمريكي بالدبلوماسية العسكرية للجيش الصيني.
بالنسبة للقدرات النووية الصينية ليست هذه المرة الأولى التي تتحدث عنها الولايات المتحدة محذرة من تناميها، فغالباً ما يذكر ذلك وعلى مدار سنوات وفي أكثر من وثيقة. ومن بينها وثيقة المراجعة النووية الأمريكية. وعلى سبيل المثال، فإن الوثيقة الأمريكية المذكورة اتهمت في العام 2018 الصين ومعها روسيا بالسعي لزيادة وتحديث ترسانتهما النووية، وأنها في ظل عدم الشفافية من قبل الصين لا تملك إلا أن تسعى هي الأخرى لتطوير قدراتها النووية.
وفي حينه، اعتبرت الصين أن الوثيقة الأمريكية بها الكثير من المبالغات حول التهديد النووي الصيني، ومشككة في تكهنات الوثيقة الأمريكية على هذا الصعيد. تكرر الأمر في سنوات تالية مع درجة أعلى من الحدة والتوتر في ظل الحالة العامة لعلاقات البلدين وفي ظل الإطار الدولي الآخذ في التعقيد أكثر فأكثر.
مضمون الرؤية الأمريكية للقدرات النووية الصينية
لا يقتصر مضمون الرؤية الأمريكية للقدرات النووية الصينية على ما شاع إعلامياً من حيث توقعها أن تصل الرؤس النووية الصينية إلى حوالي 1500 رأس نووي بحلول العام 2035، زيادة عن مستوى العام 2021 الذي قدرته وزارة الدفاع الأمريكية بـ400 رأس نووي. فالأمر في نطاق الأسلحة النووية لا يقتصر على مجرد عدد الرؤس النووية، وإنما يتعلق بنوعيتها، وطرق تخزينها، وآليات إطلاقها عندما تقتضي الحاجة.
ونقطة الانطلاق في الرؤية الأمريكية أن الصين في السنوات القادمة سوف تبذل جهوداً غير مسبوقة لتحديث وتنويع ترسانتها النووية. وأن تلك الجهود تشمل القوات الجوية والبحرية والبرية. وما يتطلبه ذلك من مضاعفة القدرة على إنتاج المواد اللازمة لتصنيع السلاح النووي. ومن ثم تحديث المنظومة الصاروخية بكافة مستوياتها، ليس فقط من حيث زيادة المدى والدقة، وإنما من حيث القدرة على حمل الرؤوس النووية، وصعوبة التعقب بالرادارات، وآليات إطلاقها سواء كانت ثابتة أو متحركة، برياً أو بحرياً.
الوثيقة الأمريكية وإن كانت تقر بما تعلنه الصين من عدم الإقدام على البدء باستخدام السلاح النووي، إلا أنها تثير شكوكاً حول ما إذا كان امتلاك المزيد من القدرات النووية سوف يؤدي إلى تغيير في تلك الاستراتيجية مستقبلاً، حيث تتحدث عن إمكانية لجوء الصين لخيار الضربة النووية في حال تعرضها لهجوم تقليدي لم تتمكن من التغلب عليه وأنها على وشك الهزيمة فيه. ويلمح التقرير الأمريكي في هذا السياق إلى وجود وحدات قتالية نووية على أهبة الاستعداد للإطلاق على الرغم من أن الوضع العام للوحدات النووية الصينية هو الوضع السلمي، وأن الصين ربما تفكر في زيادة عدد الوحدات في وضع التأهب.
وقد ذهبت الوثيقة إلى أن بكين سوف تستمر في مساعيها لكي تبلغ المستوى النووي الذي بلغته كل من واشنطن وموسكو من حيث الفعالية والموثوقية. أتت الوثيقة أيضاً على قضية الاستخدام المزدوج للبنية التحتية النووية في المنشآت السلمية في إطار مساعيها لزيادة قدراتها النووية.
وبالنسبة لمستوى الردع النووي الصيني، فإن واشنطن تذهب إلى أنه حتى لو تم التسليم بما تقوله بكين من أنه في الحد الأدني الذي يحافظ على مصالحها وأمنها، فإن هذا الحد آخذ في التزايد في ظل ما يطال الرؤية الصينية من توسع لما تعتبره واقعاً في نطاق أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية.
ومرة أخرى تعود الوثيقة إلى مسألة الشفافية بخصوص القدرات النووية الصينية، حيث أن بكين لم تعلن عن أهدافها النهائية ولا المستوى الذي تريد أن تصل إليه، وفي نفس الوقت ترفض المشاركة فيما أسماه التقرير مناقشات موضوعية حول ذلك الموضوع. واستمر التشكيك في مستوى الشفافية عندما ألمح التقرير إلى رصد شواهد على إمكانية تأهيل الصين لمواقع إجراء تجارب نووية.
إذن، فالرؤية الأمريكية تذهب إلى أن المنظور الصيني شامل بالنسبة لتطوير القدرات النووية، بدءاً من البنية التحتية اللازمة لذلك، مروراً بزيادة العدد ومستوى التقدم، وفي نفس الوقت النوعية، بحيث تكون الأسلحة النووية التكتيكية حاضرة جنباً إلى جنب مع الأسلحة النووية الاستراتيجية، وصولاً إلى وسائل الإيصال. كما لم تغفل الوثيقة الأمريكية المساعي الصينية الخاصة بتحديث وسائل الإنذار المبكر فيما يتعلق بضربة نووية يمكن أن تتعرض لها الأراضي الصينية، بما في ذلك تخصيص أقمار صناعية لهذا الغرض.
التقرير تضمن الكثير من المسائل الفنية التفصيلية بخصوص كل هذه الجوانب. وللتذكير، فإن الحديث الأمريكي عن القدرات النووية الصينية يأتي في إطار عسكري أوسع ضمن إطار استراتيجي وفي سياق عالمي. ومن ثم فقد جاءت القدرات النووية الصينية ضمن الفصل الثاني من التقرير والذي يتناول القوات المسلحة الصينية وما تمتلكه من قدرات تقليدية وغير تقليدية.
الرد الصيني على الرؤية الأمريكية لقدراتها النووية
وزارة الدفاع الصينية وفي رد مباشر على تقرير وزارة الدفاع الأمريكية اعتبرت أن التقرير الأمريكي يحمل تشويهاً للسياسة الدفاعية الصينية. وأنه قد تضمن تكهنات غير صحيحة بالمرة ولا أساس لها، وأنه تضمن تدخلاً سافراً في الشئون الداخلية للصين، وأن هذا يندرج في إطار سلوك أمريكي قديم يتمثل في إثارة ما تطلق عليه واشنطن التهديد العسكري الصيني. ومن ثم فإن هذا غير مقبول صينياً وتم الاحتجاج عليه رسمياً.
وعليه، فإن الصين أوضحت أنه بالنسبة لما ورد في التقرير حول قدراتها النووية مجرد اتهامات، مُطالِبة واشنطن بضرورة مراجعة سياستها النووية قبل أن تلقي بالتهم على الآخرين، خاصة وأنها صاحبة أكبر ترسانة نووية في العالم، ولم تتوقف عمليات تحديثها لما أطلقت عليه وزارة الدفاع الصينية الثالوث النووي. كما أنها تواصل السعي لنشر أسلحة نووية تكتيكية، وتساهم في الانتشار النووي في مخالفة لالتزاماتها الدولية، ومن ذلك ما يجري في إطار الشراكة الأمنية الثلاثية بينها وبين المملكة المتحدة واستراليا المعروفة اختصاراً باسم “أوكوس”، والتي تتضمن تزويد استراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية.
الشق الثالث من رد وزارة الدفاع الصينية تضمن التأكيد على أن بكين مستمرة في اتباع استراتيجية نووية دفاعية، وأنها لن تبدأ باستخدام الأسلحة النووية مهما كانت الظروف، وأن قدراتها النووية تستمر في الحد الأدنى اللازم لحماية أمنها القومي، وأن هذا يأتي في إطار التزام الصين بالتنمية السلمية والسياسة العسكرية ذات الطابع الدفاعي، ومن ثم فإنها تسعى دائماً إلى صنع السلام، والمساهمة في التنمية على الصعيد العالمي، والدفاع عن النظام العالمي.
وحول ما يحدث على الصعيد العسكري الصيني، فإن الوزارة اعتبرت الهدف منه حماية السيادة والأمن والمصالح التنموية، مؤكدة أنها لا تسعى إلى هيمنة أو توسع مهما تطورت مصالحها التنموية.
لم ينته الأمر عند ذلك، وإنما ذكّرت الوزارة الولايات المتحدة بأنها على مدار تاريخها الذي يقارب عقدين ونصف لم يكن هناك إلا 16 عاماً لم تكن الولايات المتحدة خلالها منخرطة في حرب، وأنها خلقت صراعات في أماكن كثيرة من أجل مصالحها، وتسببت في الانقسام والمواجهة على الصعيد العالمي، ووصل الأمر إلى اعتبار واشنطن المُسبِّب الأكبر للمشاكل والمُدمِّر للسلام والاستقرار عالمياً، ومن ثم فإن واشنطن مدعوة للتخلي عن عقلية الحرب الباردة، والنظرة الصحيحة والعقلانية إلى الصين من حيث تنميتها بما في ذلك العسكرية، وأن تتوقف عن الإدلاء بتصريحات خاطئة وإصدار تقارير مرتبطة بذلك. على أن تكون هناك إجراءات ملموسة على صعيد العلاقات بين البلدين.
من جانبها، اعتبرت وزارة الخارجية الصينية أن ترويج الولايات المتحدة لما يسمى بالتهديد الصيني ما هو إلا ذريعة لتوسيع الترسانة النووية الأمريكية، معتبرة أن السياسة النووية الصينية تتميز بالاتساق والوضوح.
كما أن الرؤية الأمريكية تجاه القدرات النووية الصينية ليست بالجديدة كلية، فضلاً عن أن الرد الصيني كذلك يحمل عناصر ثابتة تتلخص في التشكيك فيما تطرحه واشنطن، وانتقاد طريقة تصرفها ونسبتها إلى عقلية الحرب الباردة، مع المطالبة برؤية منصفة حيال ما يجري في الصين إجمالاً وليس فقط عسكرياً ونووياً.
وعندما أصدرت الولايات المتحدة مراجعتها النووية الأخيرة في شهر أكتوبر الماضي (2022) حضرت معظم هذه العناصر في الرد الصيني مع التأكيد على أن واشنطن في سياستها المتعلقة بمنع الانتشار النووي تتبع نهجاً انتقائياً، وأن منطق الهيمنة والتفوق العسكري المطلق أمريكياً من شأنه إثارة سباق تسلح نووي، كما اعتبرت بكين أن استراتيجية الردع النووي الأمريكية قد صممت خصيصاً ضدها.
من الواضح أن مستوى الثقة بين الجانبين الأمريكي والصيني متدن للغاية. ومن الواضح أن الاتهامات متبادلة. وفي ظل هكذا أوضاع مضافاً إليها مناخ دولي نووي ساخن يحتاج الأمر إلى التصرف برشد من كل القوى النووية، مع تأكيد الالتزام بالمواثيق الدولية ذات الصلة، وأن تكون هناك خطوات عملية للسير قدماً في طريق إخلاء العالم من هذه الأسلحة، وليس الاختلاف على مستويات تحديث هذه الأسلحة عند هذا الطرف أو ذاك.
إذ أن رسائل مثل هذه التطورات سلبية للغاية بالنسبة للدول غير النووية، كما أنها قد تكون حجة إضافية لتلك الدول التي امتلكت السلاح النووي خارج نطاق أحكام اتفاقية منع الانتشار النووي.
مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية