الفارق مذهل بين عامي 2018 و2022. في الأول وقعت مجموعة تابعة لـ«فاغنر» كانت تحاول التقدم قرب حقل نفطي في منطقة دير الزور السورية، تحت نيران أميركية كثيفة، فقتل أكثر من 200 مقاتل في الغارة. نفت موسكو وجود عسكريين روس في المنطقة، متنكرة لأفراد المجموعة. واحتاج الكرملين بعد هذه الصفعة القوية، بضعة أسابيع ليعترف بأن «ثمة متطوعين في سوريا ليسوا في عداد القوات النظامية».
بعد 4 سنوات على تلك الحادثة التي أثارت غضب كثيرين، غدت أخبار «انتصارات» مجموعة «فاغنر» في أوكرانيا تتصدر عناوين وسائل الإعلام الحكومية، وتصريحات مؤسسها يفغيني بريغوجين تشغل موقعاً أساسياً ينافس أحياناً في الأهمية بيانات وزارة الدفاع.
بين التاريخين، رزمة من «الحروب السرية» التي خاضتها قوات «فاغنر» في بلدان عدة، وحولتها إلى القوة الضاربة الخفية التي تعمل على تنفيذ أهداف الكرملين في ساحات المواجهة. قبل سنوات قليلة، كان مجرد الحديث عن نشاط «فاغنر» في بلدان أفريقية جريمة يعاقب عليها القانون تحت بند «نشر الأكاذيب». وقد تعرض كثيرون في روسيا للملاحقة لمجرد ذكر اسم بريغوجين مرتبطاً بهذا النشاط. لا أحد يعرف على وجه التحديد متى تم تأسيس هذه المجموعة، لكن المعطيات المتوافرة، تشير إلى أن نشاطها انطلق في عام 2013 عندما قام ضابطان متقاعدان هما فاديم غوسيف ويفغيني سيدورف بتأسيس مجموعة «موران إس» المتخصصة في حماية السفن من القراصنة. تم تسجيل هذه المجموعة في هونغ كونغ وجندت في البداية 267 عسكرياً متقاعداً وحاولت الحصول على تعاقدات مع شركات عدة. كان هذا المدخل مناسباً جداً لشركات عانت من نشاط القراصنة في القرن الأفريقي ومناطق عديدة أخرى. لم تلبث المجموعة أن تحولت سريعاً إلى «الفيلق السلافي» الذي بدأ بتوقيع عقود مع حكومات ومجموعات تجارية كبرى لـ«حماية مصالحها». كان بين ذلك عقود لحماية منشآت نفطية وحقول وأنابيب في مقابل الحصول على عائدات ضخمة منها.
لم يلبث «الفيلق السلافي» أن اضطر إلى الانخراط في الحرب السورية بعد توقيع عقد مجزٍ حصلت بموجبه شركة مموّل المجموعة، بريغوجين، على عقد ثمين تستولي بموجبه على رُبع إنتاج النفط السوري في مقابل الحماية المنتظرة.
بعد معركة مع وحدات من فصيل «جيش الإسلام» بالقرب من مدينة السخنة، عاد «الفيلق السلافي» إلى روسيا، حيث تم اعتقال موظفيه، مثل مالكي الشركة، بتهمة ممارسة «الارتزاق».
كان ديمتري أوتكين أحد مسؤولي الفيلق، الذي خدم حتى عام 2013 في تشكيلات القوات الخاصة الروسية، صاحب المبادرة لإطلاق عمل «شركة عسكرية خاصة»، وهو أمر تلقفه بريغوجين سريعاً ليتم تأسيس «فاغنر» التي لعبت في العام التالي دوراً أساسياً في دعم الانفصاليين في لوغانسك. في تلك اللحظة كان نشاط «فاغنر» بدأ يتحول إلى نشاط خفي لتنفيذ سياسات الكرملين في مقابل عقود مجزية ومكاسب واسعة على الأرض. وأوتكين الذي عرف بشغفه بـ«الرايخ الثالث» هو صاحب المبادرة لإطلاق تسمية «فاغنر» على المجموعة تيمناً بالموسيقي الألماني الشهير ريتشارد فاغنر.
وفقاً لتقارير في الصحافة الاستقصائية، فإن فكرة إنشاء جيش مستقل وإسناد جانبه التشغيلي واللوجيستي إلى يفغيني بريغوجين، جاءا من ضباط رفيعي المستوى في وزارة الدفاع الروسية بعد تلقي الوزارة عروضاً لتنفيذ نشاطات في جنوب أفريقيا. تمت مناقشة تشكيل فريق من مسؤولي الأمن «المتقاعدين» رسمياً، ولكنهم مدربون وذوو خبرة في العمليات القتالية، لمدة عام تقريباً في ذلك الوقت.
عموماً، في النصف الأول من عام 2014، بعد ضم شبه جزيرة القرم، ضم التشكيل الحديث مئات المتطوعين الذين قاتلوا في شرق أوكرانيا تحت قيادة حليف الكرملين، إيغور جيركين.
واحتاج الأمر بعد ذلك، إلى سلسلة حروب وأحداث دامية في أفريقيا جرت بمشاركة «فاغنر» وحرب مدمرة في سوريا وفي أوكرانيا، لتصل «فاغنر» إلى مرحلة الاعتراف الرسمي.
في سبتمبر (أيلول) 2022، اعترف بريغوجين للمرة الأولى بأنه مموّل ومدير شركة «فاغنر». كما أكد أن مقاتليه شاركوا في عديد من الحملات العسكرية، بما في ذلك في أوكرانيا.
حتى بداية الحرب الأوكرانية كانت تقديرات تشير إلى أن تعداد مجموعة «فاغنر» يصل إلى 10 آلاف مقاتل. أكثرهم خدموا في ساحات القتال من سوريا أو أوكرانيا وفي الشيشان وأفغانستان وطاجيكستان في وقت سابق، قبل أن ينتقل جزء كبير منهم إلى بلدان أفريقية.
وتخصصت «فاغنر»، وشعارها «الجمجمة»، في تنفيذ 3 مهام: توفير المقاتلين، وحرب المعلومات والاستثمار التجاري، واستغلال الموارد الطبيعية في البلاد المنتشرة بها. من أوكرانيا وآسيا الوسطى، إلى سوريا والسودان وليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى ومدغشقر ومالي وبوركينا فاسو، وصولاً إلى فنزويلا؛ ضربت «فاغنر» بقدراتها شرقاً وغرباً.
وأُثير موضوع تمدد عناصر مجموعة «فاغنر» الروسية في عدد من البلدان الأفريقية، خلال اجتماعات مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي، وذلك بعد توفر قرائن على قيامهم بأدوار في بعض الانقلابات التي شهدتها القارة الأفريقية.
حالياً، تشير التقديرات إلى أن أكثر من أربعين ألفاً من عناصر مجموعة «فاغنر» يقاتلون في أوكرانيا. وهم يشكلون رأس الحربة في القوات الروسية الضاربة. وأكثر مقاتلي «فاغنر» الحاليين هم من أصحاب السوابق الذين تم إطلاق سراحهم بشكل مشروط في مقابل القتال في أوكرانيا لمدة ستة أشهر على الأقل، يحصلون بعدها على عفو نهائي ومكافآت مالية. وقد ظهر بريغوجين في مقطع فيديو في سبتمبر الماضي وهو يتحدث إلى سجناء في باحة سجن روسي ويعدهم بمكاسب القتال في أوكرانيا، وشجع السجناء على الانضمام للقتال قائلاً: «إن المجتمع سوف يحترمكم» وسوف تتحولون إلى «أبطال»، وحذرهم من ارتكاب جرائم جديدة مثل الاغتصاب «لا تشربوا الكحول، لا تتعاطوا المخدرات، لا تغتصبوا… كونوا منضبطين وستعودوا بعدها إلى الوطن أبطالاً بسجلات نظيفة».
لا أحد في روسيا قدّم تقييماً لمدى قانونية هذا التصرف، لكن الوقائع لاحقاً أظهرت أن أصحاب السوابق لم يلتزموا دائماً بتعليمات قائدهم، ورغم ذلك غدت صفة «المدافعين عن الوطن» الأكثر انتشاراً حولهم على صفحات وسائل الإعلام الرسمية.
ودافع رئيس مجموعة «فاغنر» أخيراً عن فكرة إرسال سجناء للقتال في أوكرانيا، وهاجم منتقديه بقوة داعياً «الذين لا يرغبون في إرسال المدانين إلى القتال، أن يرسلوا أبناءهم إلى الجبهة بدلاً من ذلك». في الفترة الأخيرة وبعد أن تم إدراج «فاغنر» على لائحة أميركية باعتبارها منظمة «إجرامية» هاجم بريغوجين واشنطن بقوة، وقال إن لديه «جيشاً يعد الأقوى حالياً في العالم»، متحدياً العقوبات الغربية. تلك العبارة لا تخلو من مضامين، إذ أظهرت الحرب الأوكرانية بالفعل أن «جيش فاغنر» بات مسلحاً بأحدث طرازات الأسلحة ويمتلك آليات ثقيلة وطائرات مقاتلة، وهو أمر قد لا يتوفر لبعض الجيوش النظامية. كما أظهرت درجة التداخل بين مجموعة «فاغنر» والقوات المسلحة النظامية التي باتت مجموعة «فاغنر» تنافسها بقوة على تحقيق مكاسب على الأرض. وقد يكون العنصر الأساسي اللافت في أداء «فاغنر» أنها فتحت الباب واسعاً أمام استخدام القوات غير النظامية في حروب تخوضها الجيوش النظامية، خلافاً لمهام أخرى كانت المجموعات الخاصة المماثلة لدى الغرب تنفذها أثناء الحروب.
وانعكاسات ذلك، سوف تظهر، كما يبدو، ليس فقط في تفعيل نشاط الميليشيات والمجموعات الخاصة في مناطق ساخنة عديدة، والاستفادة من خبرات «فاغنر» في هذا المجال، بل وينسحب ذلك أيضاً على الداخل الروسي، إذ برزت توقعات بأن تلك المجموعات بعد «الإنجازات» التي حققتها في أوكرانيا ستكون لها مكانة خاصة بين القوات الخاصة الروسية بشكل قد يكون شبيهاً إلى حد ما مع تجربة «الحرس الثوري» في إيران.
الشرق الاوسط