اهتمت الأوساط السياسية والمراكز البحثية ووسائل الاعلام بالاتفاق السعودي الايراني الذي أعلن في العاصمة الصينية(بكين) في العاشر من شهر آذار 2023 لأهميته في العلاقات الدولية والإقليمية على خلفية الأحداث والنزاعات القائمة في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي والخلاف بين البلدين الذي حصل في كانون الثاني 2016 بعد الاعتداء على سفارة المملكة العربية السعودية وقنصليتها في مدينة مشهد بسبب إعدام رجل الدين السعودي نمر النمر والتي كانت السبب المباشر في قطع العلاقات بين البلدين.
جاء الاعلان نتيجة مبادرة الرئيس الصيني (شي جين بينغ) أثناء زيارته للرياض في الثالث من كانون الأول 2022 والتي حظيت بموافقة سعودية خليجية ثم ناقشت مع الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي خلال زيارته للصين في 14 شباط 2023 والتي قبلها بشروط إعادة تعديل الموقف الصيني من التدخلات الإيرانية في المنطقة العربية والموقف من البرنامج النووي والجزر العربية الثلاث والتي تضمنها البيان المشترك الذي صدر عن لقاء الرئيس الصيني بقادة مجلس التعاون الخليجي.
يمكن قراءة أبعاد الإتفاق السعودي الايراني من عدة زوايا تتعلق بمستقبل العلاقات بين البلدين والدور السياسي الذي اتصف به التحرك الصيني وتأثير بنود الاتفاق وإشكاليات العلاقات والنفوذ السياسي والأمني للنظام الإيراني في عدة عواصم عربية وإمكانية أحداث تغيير في المشروع الإيراني وأهدافه التي تخطت الميدان الداخلي نحو الانتشار والتمدد عبر الحدود وهذا ما شكل خطورة أمنية أثرت على حالة الأمن والاستقرار في المنطقة العربية وألقت بظلالها على الأمن الإقليمي والبحري في مضيق هرمز والبحر العربي وتشابك العلاقات بين الرياض وطهران وانعكاساتها على العلاقات الدولية وخاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية وهذا ما تضمنته بعض بنود الاتفاق التي أكدت على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها وتعزيز الأمن والسلم الإقليمي والدولي وتفعيل اتفاقية التعاون الأمني الموقعة عام 2001 .
تأتي الرؤية السعودية من ثوابت قائمة في استئناف العلاقات واعتماد الحلول السياسية والحوار وتكريس مبدأ التعاون الإقليمي لوجود قواسم مشتركة ومصالح وأهداف متبادلة تخدم جميع الأطراف وان الحوار هو الأداة الحقيقية التي من خلالها من تجاوز جميع الخلافات والوصول إلى حلول جذرية تساهم بتعزيز العلاقات الدولية وحماية المصالح المشتركة وعلى هذا الأساس جاء تعليق الجانب الإيراني بانه يرى أن الاتفاق يضع إمكانيات كبيرة في متناول البلدين والمنطقة والعالم الإسلامي، واما الضامن الصيني للإتفاق اعتبره نصرا لمبدأ الحوار والسلام وتحولا دبلوماسيا كبيرا في منطقة الشرق الأوسط .
اتسم الموقف الصيني بدخوله على الخط السياسي في المنطقة العربية وهو حدث تاريخي بعد أن كانت المنطقة حكرا على التدخلات السياسية البريطانية الأمريكية لحل المنازعات والصراعات فيها كونها تقع ضمن اهتماماتها ومصالحها الميدانية والمحرك الأساسي لتعزيز حالة التفاهم والانسجام بين التطلعات العربية والمصالح الدولية، وجاء التحرك الصيني في ضوء المتغيرات السياسية والتنافس الدولي واستغلال التوترات والخلافات التي طرأت على منطقة الخليج العربي والاختلاف في الرؤى السياسية مع إيران بسبب دورها الإقليمي وتدخلاتها المستمرة وتأثيرها على الأوضاع الداخلية في لبنان والعراق وسوريا واليمن وسعي الصين لزيادة فعالية علاقتها الاقتصادية ومساهمتها الاستثمارية وتبادلاتها التجارية وإيجاد حالة من الاطمئنان على مصالحها بوجود أمن إقليمي هادئ يعمل على تعزيز حالة التوجه الصيني وإمكانية توسيع العلاقات الصينية الخليجية وفق التصورات الميدانية وعبر العديد من الاتفاقيات المتبادلة وكذلك الحال مع إيران التي شهدت علاقتها مع الصين تطورا كبيرا بتوقيع اتفاقيات اقتصادية بلغت 400 مليار دولار أهمها ما يتعلق بمشاريع النفط والغاز والمواد البتروكيماوية ، هذه هي الجوانب الرئيسية التي وضعتها القيادة الصينية بتحركها وتضمنتها مبادرتها لإعادة العلاقات بين الرياض وطهران خاصة وأنها تعتبر هاتين الدولتين من أهم مصادر حصولها على الطاقة لتأمين نصف احتياجاتها واستخداماتها سنويا .
واستغلت الصين حالة الفتور السياسي بين واشنطن والرياض بعد قرار منظمة أوبك بلص بتخفيض إنتاج النفط والموقف من الحرب الروسية الأوكرانية وعملت على استثمارها وتحقيق أهدافها في دخولها للمنطقة العربية وتفعيل دورها في حل النزاع السعودي الايراني في الوقت الذي لم تتمكن روسيا وفرنسا من تحقيق لقاء او اتفاق سعودي ايراني رغم علاقتهما المتميزة بين البلدين .
ثم جاء الموقف الأمريكي على لسان المتحدث باسم الأمن القومي في البيت الابيض جون كيربي بقوله ( ان واشنطن على علم بتقارير استئناف العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية ونرحب بأي جهود تساهم عل إنهاء الحرب باليمن وخفض التوتر في الشرق الأوسط وسترى اذا ما كان الإيرانيون سيحافظون على تعهداتهم ضمن الاتفاق ) ، وهو بذلك يعبر عن طبيعة السياسة الحالية التي تتبعها الإدارة الأمريكية مع النظام الإيراني وتتضمن سياسة الردع بموازاة خفض التصعيد والدبلوماسية والتي سعت إليها عبر المناورات العسكرية الجارية حاليا بين واشنطن وتل أبيب بقاعدة القوات الأمريكية في بنليس بولاية نيفادا تحت مسمى (العلم الأحمر ) والتي ستستمر حتى الخامس والعشرين من شهر آذار 2023 وتتضمن تدريبات مشتركة متنوعة في التفوق الجوي والهجوم الاستراتيجي وتحقيق التزود بالوقود جوا عبر الطائرات المقاتلة الأمريكية والتناظر عبر طائرات(ادير F351و Kc135) الأمريكية وكانت آخر مناورة عسكرية بين الطرفين جرت في كانون الثاني 2023 جنوب تل أبيب، وهذه المناورات رسالة واضحة للإيرانيين الذين يعتقدون أن الإدارة الأمريكية ستمنع إسرائيل من أي عمل عسكري يستهدف المواقع النووية والأماكن العسكرية ومحطات الطاقة داخل الأراضي الإيرانية وتؤكد التعاون الاستراتيجي والحماية الأمنية للكيان الإسرائيلي، ولا زالت واشنطن مستمرة في سعيها الدبلوماسي لكي تتحاشى أي مواجهة مع طهران بعد الخسائر التي تكبدتها بسبب غزوها وإحتلالها للعراق وأفغانستان وتنتظر نتائج العلاقة بين الوكالة الدولية للطاقة الذرية والنظام الإيراني ومدى التزامه بالاتفاقية التي وقعت مع رئيس الوكالة غروسي بعد زيارته الأخيرة لإيران أواخر شهر شباط 2023.
فهل ستكون الصين هي الضامن الرئيسي للاتفاق السعودي الايراني وهل سيحدث تغيير في السياسة الإيرانية ووقف تمددها ومشروعها السياسي ودعمها المليشيات والفصائل المسلحة في العديد من الاقطار العربية وتعمل على الاهتمام بشؤونها الداخلية والتغلب على مشاكلها الاقتصادية والنظر لاحتياجات الشعوب الإيرانية وبناء دولة عصرية تبتعد عن التدخل بشؤون الآخرين وتحترم ميثاق الأمم المتحدة والعلاقات بين الدول ؟؟
هذا ما سنراه في الأشهر القادمة.
وحدة الدراسات الايرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية