اعتزام السعودية وإيران التوجه نحو تطبيع العلاقات الثنائية ليس مجرد اتفاق بين بلدين كانا على قطيعة وقررا إنهاءها. إنه هزّة كبرى ستعيد ترتيب التحالفات والخلافات في منطقة الشرق الأوسط والخليج.
هكذا وُجد في هذه المنطقة الموبوءة بالصراعات والحروب اتفاق سلام، ليس بين إسرائيل ودولة عربية، بل بين السعودية وإيران. ولأول مرة يتحقق هذا الاتفاق من دون رعاية أمريكا أو ضغط منها.
على الرغم من صعوبة التكهن بالمستقبل، ومن دون إفراط في التفاؤل بمصير الاتفاق الإيراني السعودي، يجب الإقرار للبلدين بالحنكة والذكاء وبالواقعية وتفضيل المصلحة والسلام على ما دونهما. فبعد قرابة عقد من التوتر بسبب اليمن، وسنوات طويلة أخرى قبل ذلك بسبب اختلافات حول العراق ولبنان والبحرين وقضايا دينية وطائفية، يبدو أن الطرفين اقتنعا بأن أفضل سبيل يمكن انتهاجه هو التهدئة وتفادي حرب مباشرة.
لقد استنزف الصراع الطويل السعودية وإيران على حد سواء، كلٌّ على طريقتها، حتى من دون خوض حرب مباشرة. لهذا لم يكن مستغربا أن يُمضي البلدان قرابة سنة من المحادثات التي يمكن وصفها بأنها كانت نصف سرّية، احتضنتها سلطنة عُمان والعراق والصين، فكانت النتيجة تفوق التوقعات.
اللافت في الاتفاق أن الصين لعبت فيه دورا حاسما مستفيدة من ثقلها الاقتصادي والاستراتيجي بعد أن كانت علاقتها بمنطقة الشرق الأوسط حتى الآن قائمة على النفط والمصالح الاقتصادية. واللافت أيضا أن الرعاية الصينية للاتفاق حدثت في ذروة التوتر بين واشنطن وبكين، وفي ذلك رسالة ذات دلالات كبرى.
ما كانت الصين لتُلقي بثقلها لولا يقينها أن العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة لم تعد بتلك القوة التي كانت عليها قبل عقود. وما كانت لتتدخل أيضا لولا ثقتها بأن الأمر يستحق العناء وبأن ثماره ستكون عبارة عن تغييرات استراتيجية تمس المنطقة كلها، وليس فقط السعودية وإيران.
ما حققته الصين من اتفاق إيران والسعودية هو عبارة عن هدف حاسم في المرمى الأمريكي في توقيت حساس ومهمّ. ستكون له تداعيات واضحة لصالح الصين ومن ورائها روسيا والمحور المناهض للغرب في الصراع الاستراتيجي الذي يشهده العالم.
محاولة المسؤولين السعوديين طمأنة واشنطن بأن التقارب مع إيران لن يكون على حساب علاقات الرياض مع أمريكا، لن يُلغي حقيقة أنه اتفاق أثار استياء الأمريكيين، حتى وإن لم يعلنوا ذلك صراحة، وسيُغيّر المعادلة على الأرض
محاولة المسؤولين السعوديين طمأنة واشنطن بأن التقارب مع إيران لن يكون على حساب علاقات الرياض مع أمريكا، لن يُلغي حقيقة أنه اتفاق أثار استياء الأمريكيين، حتى وإن لم يعلنوا ذلك صراحة، وسيُغيّر المعادلة على الأرض. كما أن إبلاغ الرياض واشنطن بأن صلب الاتفاق هو التزام إيران بوقف الهجمات على المنشآت السعودية ومنع الجماعات الشيعية الموالية لها من استهداف المملكة، رسالة للأمريكيين مضمونها أن الرياض فقدت الثقة والصبر في الجهد الأمريكي لحمايتها من الهجمات.
في المقابل يبدو تقليل المسؤولين الأمريكيين من أهمية التوقعات بأن التقارب الإيراني السعودي دليل على تآكل نفوذ بلادهم في المنطقة، أقرب إلى حالة إنكار منه إلى قراءة سليمة للواقع.
عدا عن الولايات المتحدة هناك إسرائيل التي لا شك في أن الاتفاق كان بمثابة حمام بارد لأحلامها وحساباتها الإقليمية القائمة على هدف رئيسي: تدمير القدرات الأمنية والعسكرية الإيرانية.
الورطة الأمريكية في الشرق الأوسط سببها إسرائيل. مشكلة الولايات المتحدة أن مقاربتها للمنطقة تجعل إسرائيل وأمنها وتفوّقها مرجعيتها الأولى والأخيرة. وهي مقاربة لم تتغيّر منذ سبعة عقود على الرغم من أن المنطقة تغيّرت سياسيا واجتماعيا وثقافيا وديموغرافيا. كان خطأً سياسيا فادحا أن تُبقي واشنطن على المقاربة ذاتها لهذه المنطقة كل هذه السنوات كأن لا شيء يتغيّر فيها بينما هي واحدة من أكثر المناطق غليانا وتغيّرا في العمق. هذا العجز الأمريكي عن النظر إلى المنطقة على حقيقتها ينمُّ عن استهتار وقلّة دراية لسان حاله يقول «طالما أن إسرائيل بخير وفي حالة تفوق، فليذهب الجميع إلى الجحيم».
وتفاقمَ هذا الاستهتار بالمنطقة مؤخرا عندما وجّهت واشنطن اهتمامها نحو الصين ومنطقة جنوب شرق آسيا، ثم لاحقا إفراطها في الاهتمام بأوكرانيا.
اليوم تستطيع الرياض وطهران بحث الملف النووي الإيراني من دون دور أمريكي مباشر. ستبقى للولايات المتحدة ورقة واحدة في ضغطها على إيران في الموضوع النووي، هي إسرائيل. وتستطيع الرياض وطهران بحث الحرب في اليمن وربما تسويتها من دون ابتزاز أمريكي لهاته وتهديد لتلك. وكذلك الشأن بالنسبة للعراق الذي شكّل نقطة خلاف جوهرية بين السعودية وإيران. من تبعات التطبيع مع السعودية أن إيران ستكون في وضع أفضل وتشعر بضغط أقل في خلافاتها مع القوى الغربية، وعلى رأس ذلك مفاوضاتها النووية، خصوصا وأن أوروبا ليست بذات الاندفاع الأمريكي الإسرائيلي لخنق إيران.
إذا كانت خسارة أمريكا فادحة يصعب ترميمها، فخسارة إسرائيل تفوق التصوّر، لأن التطبيع السعودي الإيراني يعني أن فرص عزل إيران وتركيعها كما تريد إسرائيل تضاءلت. ويعني أيضا أن السعودية فضّلت إيران على إسرائيل وأن حلم بنيامين نتنياهو بالتطبيع «قريبا» مع السعودية تبخر ولو إلى حين.
وبالمحصلة، سيكون تحقيق أهداف السياسة الإسرائيلية تجاه إيران أمرا أكثر صعوبة. ذلك أن هوس إسرائيل بالتطبيع مع دول الخليج عنوانه الأول إيران وتركيعها بإشراك دول عربية في مقدمتها السعودية. لهذا شكّلت لحظة إعلان الاتفاق انتكاسة داخل إسرائيل وجلبت لرئيس وزرائها الكثير من الانتقادات واللوم.
صمود الاتفاق الإيراني السعودي معناه أن المنطقة ستشهد معجزة سياسية دبلوماسية. وإذا لم يصمد فهو زرع بذور واقعية سياسية ستؤتي أُكلها يوما، وبعث رسالة عنوانها ألَّا شيء مستحيل في السياسة.
في كل الأحوال ستكون كل المنطقة في حال أفضل أمنيا وسياسيا واستراتيجيا، لأن التأزم بين السعودية وإيران هو جوهر الصراعات، وما الأزمات الإقليمية الأخرى إلا ملاحق وتفرعات.
القدس العربي