تشير الدراسات الموضوعية للنظام الدولى إلى أن هناك أبعادا خمسة لابد أن تتوافر لوجوده، هيكل وبنيان واضح، أعضاء من الدول والمنظمات الدولية، ومن غير الدولة وقيادة معترف بها ولا خلاف عليها، وهوية وأهداف يسعى إلى تحقيقها، وهى الأهداف الناتجة عن المصالح القومية للدول، فمن المعلوم أن معتقدات وقناعات وسلوك الدول يدور حول فهمها وإدراكها لمصالحها القومية. وقد حكم هذا المفهوم النظام الدولى إلى أن ظهر فى الأفق مفهوم الأمن القومى فى أعقاب قرار الأمن القومى الأمريكى الصادر فى يوليو عام 1947، والذى ترتب عليه إنشاء مجلس الأمن القومى الأمريكى، وهو ما انتشر بعد ذلك فى معظم دول العالم، وهكذا صار تحقيق الأمن القومى وصيانته غاية الدول لأنه يتعلق ليس فقط بتحسين جودة الحياة للمواطن، ولكن أيضا ببناء الدولة. وصار تحقيق المصالح القومية للدولة أهم مؤشر للأمن والاستقرار. ولذلك سعت الدول فى أعقاب الحرب العالمية الثانية إلى إنشاء نظام دولى يفتح للدول فرص تحقيق مصالحها القومية وأمنها القومى فى إطار السلم والأمن الدوليين، وإنشاء الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة للإسهام فى الوصول إلى هذا الهدف، واستمر النظام ثنائى القطبية حتى سقوط الاتحاد السوفيتى عام 1991، ليتحول النظام الدولى إلى نظام أحادى القطبية تربعت الولايات المتحدة على عرشه، إلى وقوع الأزمة الاقتصادية عام 2008، وتحوله إلى نظام تعددى قيد التشكيل ثم آل إلى وضعه الراهن «نظام» بلا هوية أو أهداف أو قيادة معترف بها، نظام تتصارع عليه ليس فقط الدول الكبرى ولكن أيضا الدول المتوسطة الأكثر نجاحا.
والنظام الدولى الراهن، والذى لايرقى إلى مرتبة «النظام» يعانى أمراضا وأوجه قصور وازدواجا فى المعايير وتكريسا للظلم الدولى بصورة جعلته سيئ السمعة، حيث فقد القيم العليا التى أقيم عليها من قبل، ومن المتفق عليه أن المصالح الاقتصادية تعد حجر الزاوية فى العلاقات الدولية وتقدير وزن الدول خصوصا إذا تزاوجت بالقدرات العسكرية، وفى هذا الصدد لاتزال الولايات المتحدة تتربع على دول العالم المختلفة فيما يتصل بحجم الناتج القومى الاجمالى، 25 تريليون دولار تليها الصين 18 تريليون دولار، ثم اليابان 4 تريليون دولار والمانيا 4 تريليونات دولار. والمملكة المتحدة 3 تريليونات دولار، وهذه الدول الخمس تملك 54 تريليون دولار أى 53% من إجمالى الناتج الاجمالى الدولى البالغ 101 تريليون دولار، فى مقابل ذلك يبلغ الدين الدولى 266 تريليون دولار، وأفقر 10 دول فى العالم تقبع فى إفريقيا، بوروندى وجنوب السودان وافريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية والصومال والنيجر وموزمبيق وملاوى وتشاد ومدغشقر. على الرغم من أن الصين تعد أكثر شريك تجارى لإفريقيا بحجم 158.5 مليار دولار (15.7%) تليها الهند ثم الولايات المتحدة بحجم 49.6 مليار دولار (4.9%). وفوق ذلك فإن مجموعة العشرين تسيطر على 85% من اقتصاد العالم، 77% من التجارة الدولية. بينما تستأثر مجموعة السبع بنحو 60% من هذا النسبة.
وفى الوقت الذى بلغ فيه عدد سكان العالم 8 مليارات نسمة، نجد أن نحو 1٫3 مليار يعانون الفقر المدقع وفوق 3.4 تريليون يعانون كافة أشكال الفقر. 83% منهم فى افريقيا وحدها، وفوق ذلك فإن 3.1 مليار نسمة ليس لديهم القدرة على الحصول على غذاء صحى وأكثر من 840 مليون نسمة يعانون الجوع أكثر من 84% منهم فى آسيا وإفريقيا. هذا فى الوقت الذى يسيطر فيه 2755 مليارديرا على 13.1 تريليون دولار، وعشرة مليارديرات، تسعة منهم أمريكيون يملكون وحدهم 1.5 تريليون دولار أى 11.5% من الناتج الدولى الاجمالى.
ومن جانب آخر، نصت ديباجة الاعلان العالمى لحقوق الانسان عام 1948، والعهد الدولى الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أن الاقرار بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم ومن حقوق متساوية وثابتة يشكل أساس الحرية والعدل والسلام فى العالم. والواقع أن الدول الكبرى المسيطرة حتى الآن على سير العلاقات الدولية لاتلقى اهتماما يذكر بهذه الفقرة التى أنشأتها ووافقت عليها، وعلى العكس تماما اتبعت فى النزاعات والصراعات الدولية سياسات التأجيج والتحيز والتمييز ضد شعوب بعينها، كشعب أفغانستان والعراق وسوريا، وبالتأكيد الشعب الفلسطينى، هذه الازدواجية فى المعايير والتمييز ضد شعوب بعينها يتعارض مع المبادئ التى أقرتها هذه الدول بإرادتها الحرة، لاشك أن هذا الخروج عن أصول النظام وقواعده المستقرة والمتفق عليها يؤدى إلى تشويه النظام ليصير سيئ السمعة، من ثم تزيد درجة عدم الرضا عنه أو القبول به وتزيد اتجاهات استبداله بنظام دولى مختلف من حيث هيكله وقيادته وأهدافه وهويته ودرجة التوافق عليه.
ولعل السؤال المنطقى الذى يترتب على ذلك يصير، هل يمكن الانتقال من نظام سيئ السمعة، نظام هش وغير منضبط، إلى نظام أكثر عدلا وإنصافا وانفتاحا وتعبيرا عن التغيير فى المراكز النسبية لمكانة الدول، بشكل سلمى تطوعى؟ بالتأكيد لا، لأن القوى المسيطرة على النظام الراهن لديها مصالح كبرى اقتصادية وعسكرية ومالية وتجارية من العسير أن تتنازل عنها أو تترك الآخرين لتهديدها، من ثم كانت الحرب الروسية الأوكرانية هى آلمفجر الأوَّّلى للصراع الكبير حول إعادة بناء النظام الدولى، وفى تقديرى أن الحرب لن تتوقف قبل البدء الجدى فى النقاش البناء لإعادة النظر فى نظام دولى على أعتاب الاحتضار، والإعداد لنظام دولى مختلف ومكتمل الأركان.
د. عبدالمنعم المشاط
صحيفة الأهرام المصرية