رغم التحذيرات الدولية والمحلية المتكررة من اقتراب لبنان من حافة الانهيار ما لم يبدأ على الفور إصلاحات اقتصادية يطالب بها المانحون الدوليون لدعمه ماليا، لا يزال حزب الله وحلفاؤه يماطلون ويصطنعون الأزمات الدستورية للإفلات من إصلاحات قد تقوض مكاسبهم ومصالحهم الشخصية.
بيروت – قدم نائب رئيس الحكومة اللبنانية سعادة الشامي صورة متشائمة لنتائج المباحثات التي أجراها وفد صندوق النقد الدولي في زيارته إلى لبنان، لأنها كشفت دائرة التسويف الحقيقية التي، وإن كانت تتغطى بأزمة “الفراغ الرئاسي”، إلا أنها تقصد المماطلة في تنفيذ الإصلاحات.
وعرض المفاوضون اللبنانيون “أفكارا جديدة” في محاولة للالتفاف على المطالب الإصلاحية التي عرضها الصندوق، إلا أن هذه “الأفكار” لم تحظ بالقبول. ويقول المراقبون إن من جملة الأفكار التي طرحها المفاوضون اللبنانيون التنفيذ التدريجي لبعض الإصلاحات ريثما تتم “إعادة تأهيل الأوضاع العامة” للمزيد منها.
وقال الشامي في ختام المباحثات “إن عدم القيام بالإصلاحات من قبل المسؤولين أينما وجدوا، يقوّض صدقية لبنان ويزيد صندوقَ النقد تصلّباً في مواقفه ورفضا لقبول أفكار جديدة”. ورأى أن المراوغة في تطبيق الإصلاحات “قد تؤدي بنا إلى المزيد من المأساوية.. فالضوء في نهاية هذا النفق الطويل يخفت شيئا فشيئا ويكاد ينطفئ”.
وكان موفدو الصندوق أمضوا نحو أسبوع في لبنان بين 15 – 23 مارس 2023 لتقييم الوضع الاقتصادي ومناقشة أولويات السياسات، وللتشاور في إطار المادة الرابعة من اتفاقية تأسيس الصندوق، والتي تقتضي إجراء مراجعة دورية حول طلب الدول الأعضاء للاستفادة من موارد الصندوق.
إلا أن أطراف تحالف السلطة السابق “التيار الوطني الحر” بقيادة جبران باسيل والرئيس ميشيل عون وحزب الله، حاولوا شراء الوقت لبحث بدائل تغنيهم عن التطبيق، إلى جانب السعي لخفض مطالب الصندوق، على اعتبار أن انهيار لبنان سوف يكسر قلوب الدول المعنية بمصير لبنان ويدفعها إلى تخفيف شروطها لتقديم القروض.
أثبتت المشاورات الأخيرة، أن المراهنة على “كسر القلوب” فاشلة، ليس من جهة الصندوق وحده، وإنما من جهة باريس والرياض أيضا، وإن كان لكل منهما دوافعه.
ورفض موفدو الصندوق التراجع عن الإصلاحات. وقال رئيس البعثة إرنستو ريغو “إن لبنان يقف عند مفترق طرق خطر، ودون الإصلاحات السريعة فإنه سيغرق في أزمة لا نهاية لها”.
وكان لبنان توصل العام الماضي إلى اتفاق مبدئي مع الصندوق لتنفيذ حزمة الإصلاحات قبل أن يكون ممكنا تقديم قرض بقيمة 3 مليارات دولار. وهو ما قد يفتح الطريق لحزمة إنقاذ أخرى تصل إلى 15 مليار دولار من جهات مانحة ومؤسسات إقراض دولية أخرى. وصادق الرؤساء الثلاثة (ميشال عون ونجيب ميقاتي ونبيه بري) على الاتفاق. وهو ما يعني أن التطبيق هو المسار الوحيد الصحيح.
وأما باريس، فعلى الرغم من أن “خلية الأزمة” التابعة للشانزليزيه تواصل الاتصالات مع مختلف الأطراف المحلية اللبنانية والدولية، إلا أنها رأت أن مناورات التسويف التي يمارسها رافضو الإصلاحات لا تساعد في الولايات المتحدة ولا جهات الإقراض الدولية على السماح بتقديم تسهيلات حتى ولو كانت مؤقتة، على اعتبار أن الذين يقفون وراء اندلاع الأزمة يجب أن يدفعوا ثمنها ويترجلوا عن حصان “الممانعة” لإعاقة تنفيذ الإصلاحات.
وأما الرياض فإنها رفضت أن تكون طرفا في الملف اللبناني كله، سواء في شقه المتعلق بالقروض والإصلاحات المطلوبة لها، أو في شقه المتعلق بانتخاب رئيس جديد.
وتريد الرياض أن تلتزم باتفاق تطبيع العلاقات مع طهران الذي رعته بكين. وهذا الاتفاق يقوم على واقع أنه اتفاق سياسي ودبلوماسي وأمني بين الدولتين، ولا يشمل أيّ أطراف أو أزمات أخرى.
وعلى هذا الأساس، بقي حزب الله في لبنان على شروطه بشأن انتخاب الرئيس، كما بقيت جماعة الحوثي تمارس انتهاكاتها للهدنة، ولو أنها كفّت عن توجيه التهديدات للسعودية، على اعتبار أن ذلك جزء من الشق الأمني للاتفاق السعودي – الإيراني، لاسيما وأن إيران هي مصدر التسليح الوحيد للحوثي.
حزب الله يملك موارد تكفي لرعاية مسلحيه تأتي من تجارة الكبتاغون ومن مصارف الميليشيات في العراق، ما يغنيه عن الانشغال بالمأساة التي يعانيها اللبنانيون
وأكد موفدو الصندوق التزامهم بمساعدة لبنان. ولكنهم لم يظهروا استعدادا للتراجع عن أيّ من الإصلاحات التي تمت المصادقة عليها من قبل.
وعاد التقرير الختامي للمباحات ليطالب بـ”تنفيذ إستراتيجية مالية متوسطة الأجل لاستعادة القدرة على إبقاء الدين في حدود مستدامة، وإعادة هيكلة النظام المالي على نحو موثوق لاستعادة قدرته على البقاء ودعم التعافي الاقتصادي، وتوحيد أسعار الصرف وتشديد السياسة النقدية لإعادة بناء المصداقية في الاقتصاد، وتنفيذ إصلاحات هيكلية تشمل إصلاح المؤسسات المملوكة للدولة، وتعزيز أطر الحوكمة، ومكافحة الفساد، ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب لإعادة اكتساب الثقة الاجتماعية لسياسات الحكومة وتشجيع النمو الشامل للجميع”.
ولكن، بالنسبة إلى أطراف تحالف السلطة السابق فإن العُقد الرئيسية في هذه الإصلاحات تكمن في الجوانب المتعلقة بالإصلاحات الهيكلية للمؤسسات الحكومية، وهي ما قد يعني تطهيرها من طواقم الفساد والنفوذ التابعة لأطراف التحالف. وكذلك في مسألة غسيل الأموال لأنها واحدة من أهم عمليات التمويل التي يعيش عليها حزب الله. وهناك جانبان لهذه المسألة. الأول، يتعلق بأموال تجارة المخدرات. والثاني، يتعلق بالأموال المهربة التي تأتي من العراق.
ومثلما تعاني المصارف التابعة للميليشيات الموالية لإيران في بغداد من القيود والرقابة التي يفرضها الفيدرالي الأميركي على التحويلات النقدية، فإن حزب الله يخشى أن يتم فرض قيود مماثلة على المصارف اللبنانية تحت بند مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال. وهي واحدة من النقاط التي تتمسك بها واشنطن، ويحرص حزب الله على الإفلات منها.
قال الشامي في مقال نشرته صحيفة “نداء الوطن” الثلاثاء “إذا استمرّت المراوغة وهدر الوقت الثمين فنحن ذاهبون إلى أوضاع أكثر مأساوية وظروف لا تحمد عقباها”. وأضاف “يتدخل البنك المركزي بين الحين والآخر للجم الارتفاع في سعر الصرف فيسحب من السوق كميّات من الليرة اللبنانية مقابل خسارة إضافية في الاحتياطي الأجنبي، أي المزيد من الاستنزاف لأموال المودعين، ويعود من ثمَّ ليشتري دولارات من السوق الموازية لتفادي التناقص في الاحتياط الأجنبي، ويتكرّر هذا المشهد بطريقة دورية.. فيستمرّ الدوران في حلقة مفرغة”.
ويقول مراقبون إن حزب الله وحلفاءه يراوغون بمسألة “الفراغ الرئاسي” في حين أنهم يراوغون لأجل تعطيل تنفيذ الإصلاحات.
وبينما يعتقد البعض بأن حل مشكلة “الفراغ الرئاسي” سوف تقود إلى فتح الطريق للخروج من المأزق، فالحقيقة هي أن وجود رئيس يلتزم بتنفيذ الإصلاحات هو نفسه أمر غير مرغوب.
حزب الله يخشى أن يتم فرض قيود على المصارف اللبنانية تحت بند مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال
ويضرب المراقبون مثلا بموقف الحزب من المرشح جهاد أزعور، فعلى الرغم من أنه حليف لجبران باسيل وميشال عون، وعلى الرغم من أنه تعهد بالدفاع عن “سلاح المقاومة” وعدم المس بسلطة حزب الله في جنوب لبنان، إلا أن الحزب رفضه لأنه يريد تنفيذ إصلاحات الصندوق. وعاد الحزب ليتمسك بترشيح زعيم تيار المردة سليمان فرنجية، لأنه يريد “التفاوض” على الإصلاحات وليس تنفيذها.
والمفارقة الجارية هي أن فرنجية لم يطرح ترشيحه للرئاسة رسميا داخل البرلمان، معتبرا أن “الوقت يمضي في صالحه”، وهو تصور قائم على قناعة بأن الإنهاك هو ما سوف يؤدي إلى القبول به، كما حدث تماما مع الرئيس عون، حيث استمر الفراغ الرئاسي عاما ونصف العام، قبل أن يبلغ الإنهاك أشده، فآثر زعيم تيار المستقبل سعد الحريري في ذلك الوقت القبول به.
ويملك حزب الله موارد تكفي لرعاية مسلحيه تأتي من تجارة الكبتاغون ومن مصارف الميليشيات في العراق، ما يغنيه عن الانشغال بالمأساة التي يعانيها اللبنانيون. كما أنه يراهن في الوقت نفسه على أنه يستطيع إطالة الأزمة لعامين آخرين ريثما يتم البدء باستخراج الغاز من حقل قانا وتصديره، فيكون لبنان ساعتها في غنى عن صندوق النقد وعن إصلاحاته.
ويقول الشامي “البلد ينهار ويتحلّل أمام أعيننا فيما نحن نناقش جنس الملائكة، المبنى يتصدّع ويتهاوى والبعض ينتظر أن ينهار كلّياً ظناً منه أن بإمكانه أن يبنيه من جديد وعلى قياسه غير آبهٍ بأن ذلك قد لا يكون ممكناً ليتّسع للجميع”. وأما “جنس الملائكة” فهو مداورة الأعذار بين “الفراغ الرئاسي” وبين الإصلاحات. وأما الانهيار فهو المسار الوحيد الباقي لبلد يتمدد على سرير الموت بلا إصلاحات ولا رئيس.
العرب