من ألمانيا وعنها!

من ألمانيا وعنها!

ليس الحضور المستمر منذ عقد من الزمان لليمين المتطرف في السياسة الألمانية بأمر غير مسبوق في تاريخ جمهورية ألمانيا الاتحادية التي تأسست في الشطر الغربي في 1949 وفرضت نظمها الدستورية والقانونية والسياسية والاقتصادية على مناطق ألمانيا الشرقية السابقة حين تحققت الوحدة في 1990.
فقد حدث ذلك من قبل في خمسينيات القرن العشرين. آنذاك تمكنت أحزاب يمينية متطرفة من حصد مقاعد برلمانية قليلة، وطرحت خطابها الوطني الشوفيني الرافض للتصالح مع بعض حقائق ما بعد هزيمة النازية 1945، خاصة الاقتطاعات الإقليمية التي تعرضت لها ألمانيا في الشرق والجنوب الغربي، والرافض أيضا لقوانين محاسبة المسؤولين النازيين السابقين واستبعادهم من وظائفهم الحكومية.
وإذا كان اليمين المتطرف قد غاب عن البرلمان الفيدرالي منذ الستينيات لعدم تمكن أحزابه من تجاوز حاجز الـ5 بالمائة من أصوات الناخبات والناخبين الذي يؤهل للتمثيل في البرلمان، فإن حضوره في برلمانات الولايات الألمانية (غربا بين 1945 و1990، ثم في عموم ألمانيا منذ 1990) لم ينقطع.
في برلمانات الولايات تاريخيا، تراوحت نسب مقاعد أحزاب اليمين المتطرف بين 5 و10 بالمائة واتسمت أدوارها كأحزاب أقلية صغيرة بغلبة الطابع الشعبوي المعادي لوجود الأجانب في ألمانيا والمناهض لعمليات الاندماج الأوروبي التي أنتجت أولا السوق المشتركة ثم الاتحاد القائم اليوم. تاريخيا أيضا، لم تقبل الأحزاب السياسية، إن التقليدية كالمسيحي الديمقراطي والمسيحي الاجتماعي والاشتراكي الديمقراطي والديمقراطي الحر أو الحديثة نسبيا كالخضر واليسار (الأخير خرج من عباءة الحزب الشيوعي الذي حكم ألمانيا الشرقية السابقة قبل 1990) لا الائتلاف ولا التعاون أو التنسيق مع اليمين المتطرف.
في الولايات الواقعة في شرق ألمانيا، تغيرت صورة الحضور المحدود وغير المؤثر لأحزاب اليمين المتطرف خلال السنوات القليلة الماضية. ارتفعت نسبهم في برلمانات ولايات ساكسونيا وبراندنبورغ ومكلينبورغ ـ فوربومرن وساكسونيا ـ أنهالت إلى فوق 10 بالمائة، بل تخطت في بعض البرلمانات 20 بالمائة. وأسهم تأسيس حزب «البديل لألمانيا» في فبراير 2013 وانصهار العديد من الكيانات الصغيرة لليمين المتطرف بداخله في استحداث واجهة حزبية موحدة قادرة على المشاركة بكثافة في انتخابات الولايات وعلى الفعل السياسي على المستوى الاتحادي، وقادرة من ثم على اجتذاب المزيد من الاهتمام الشعبي والإعلامي.
ودفعت بذات الاتجاه عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية متنوعة، منها انتشار الحركات العنصرية والمجموعات النازية الجديدة في شرق ألمانيا التي لم يتردد حزب «البديل لألمانيا» في الانفتاح عليها ودمج مفرداتها ومضامينها في خطابه العلني.
يوظف العنصريون والنازيون الجدد المصاعب المجتمعية التي رتبها استقبال ألمانيا لأعداد كبيرة نسبيا من اللاجئين بغرض الترويج من جهة أولى لخطاب كراهية ضد الأجانب وضد الإسلام (جاءت الشريحة الأكبر من اللاجئين من سوريا ومن بلدان أخرى ذات أغلبيات سكانية مسلمة) ومن جهة ثانية لخطاب «خوف من الغرباء» الذين قدموا للدراسة وللعمل وللحياة ويوصفون كطفيليين يستنزفون رخاء وتقدم ألمانيا (مثلما كان العنصريون والنازيون القدامى يوصفون اليهود الألمان أي اليهود من مواطني البلاد كمصاصي دماء وطفيليين).

إذا كان اليمين المتطرف قد غاب عن البرلمان الفيدرالي منذ الستينيات لعدم تمكن أحزابه من تجاوز حاجز الـ5 بالمائة من أصوات الناخبات والناخبين الذي يؤهل للتمثيل في البرلمان، فإن حضوره في برلمانات الولايات الألمانية (غربا بين 1945 و1990، ثم في عموم ألمانيا منذ 1990) لم ينقطع

مثل هذه المفردات والمضامين يستخدمها بعض سياسيي حزب «البديل لألمانيا» على نحو ممنهج، وعليها اعتمدوا في صياغة خطابهم الانتخابي في انتخابات برلمانات الولايات خلال السنوات القليلة الماضية وفي الانتخابات الفيدرالية الأخيرة (من يبحث عن نموذج لتلك الحالة بين سياسيي «البديل لألمانيا» يستطيع أن يجدها عند ألكسندر جوالاند الذي يشغل مقعدا في البرلمان الاتحادي منذ دورتين).
ومن العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي مكنت اليمين المتطرف أيضا من اجتذاب المزيد من الاهتمام الشعبي والإعلامي تأتي الأزمات المتتالية التي يواجهها الاتحاد الأوروبي وتداعياتها على ألمانيا. فلأنها تملك الاقتصاد الأكبر في أوروبا ولأنها المستفيد الاقتصادي والتجاري الأول من الاندماج الأوروبي ومن العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) تدخلت ألمانيا أكثر من مرة لإنقاذ الاقتصاديات المتعثرة لبعض البلدان الأوروبية من إيرلندا إلى إسبانيا والبرتغال واليونان وضخت أموالا طائلة لمنع انهيار العملة الموحدة. وحمل ذلك الخزانة الألمانية وبالتبعية دافعي الضرائب بين المواطنات والمواطنين أعباء إضافية، ونتج عنه ارتحال أعداد كبيرة من الشباب الأوروبي في البلدان المتعثرة إلى سوق العمل الألمانية بحثا عن الوظيفة والدخل والتأمينات الاجتماعية وحدثت من جراء ذلك بعض الإزاحات في سوق العمل كان ضحاياها الرئيسيون العمال والمهنيين الألمان أصحاب المؤهلات التعليمية والمهنية المتوسطة.
استغل اليمين المتطرف، ممثلا في حزب «البديل لألمانيا» الأزمات الأوروبية وذيوع «الامتعاض من أوروبا» بين بعض القطاعات الشعبية للعزف على أوتار يعرفونها جيدا، أوتار «ألمانيا أولا» و«الألمان قبل الأوروبيين الكسالى» و«استعادة وطننا ومجتمعنا لنا» وغيرها. مثل هذه الأوتار، ونظائر لها ترددت أصداؤها في بريطانيا قبل استفتاء الانفصال عن الاتحاد الأوروبي وفي الولايات المتحدة الأمريكية قبل انتخاب دونالد ترامب رئيسا في 2016 وفي فرنسا أثناء الصراع الانتخابي على الرئاسة بين ممثلة اليمين المتطرف ماري لوبن ومرشح التقدم إيمانويل ماكرون، ساعدت حزب «البديل لألمانيا» على تخليق موجة للوطنية الشوفينية مكنته على الرغم من انحصارها تلك الموجة جغرافيا في الولايات الشرقية من حصد المزيد من أصوات الناخبات والناخبين في برلمانات الولايات وفي البرلمان الفيدرالي.
يستحق الصعود المستمر لليمين المتطرف في ألمانيا أن تشتبك معه الأحزاب السياسية الديمقراطية يمينا ويسارا وأن يشتبك معه المجتمع المدني الحامل لقيم الحرية وحقوق الإنسان، لكيلا تقترب ألمانيا بتاريخها الصعب قبل 1945 من أوضاع مشابهة لما يحدث منذ عقود في النمسا وهولندا، وبالبلدين تحولت أحزاب اليمين المتطرف إلى مكون أساسي ودائم للمشهد السياسي، أو لما يحدث منذ سنوات في فرنسا التي ينافس بها اليمين المتطرف بقوة على المنصب الرئاسي. إلا أن التعامل مع الأمر وكأنه كارثة كبرى حاقت بالديمقراطية الألمانية وباستقرار البلد الأهم في القارة الأوروبية يعد من قبيل المبالغة الزاعقة التي لا تخدم أبدا هدف الاشتباك الموضوعي مع اليمين المتطرف ولا تساعد على سحب البساط من تحت أقدام سياسييه.
ففي نهاية المطاف، تصوت أغلبية الناخبين الألمان لسياسيين يرفضون اليمين المتطرف وينتمون لأحزاب يمينية ويسارية متنوعة تلتزم المبادئ والقيم الديمقراطية. جميع تلك الأحزاب يناهض خطاب كراهية الأجانب وخطاب الخوف من الغرباء، ويبتعد تماما عن العزف على أوتار الشعبوية والمقطوعات الوطنية الشوفينية كألمانيا أولا وغيرها، ولا يقبل التنسيق أو التعاون مع اليمين المتطرف تحت القبة الزجاجية للبرلمان الفيدرالي مثلما لم يتورط في تنسيق معه في برلمانات الولايات. بل أن وصول اليمين المتطرف إلى البرلمان الفيدرالي قد يصبح له انعكاسات إيجابية على الأحزاب السياسية في اليمين واليسار، لأن اشتباكها مع حزب «البديل لألمانيا» والحركات العنصرية والنازية الجديدة الواقفة من وراءه حتما سيعيد لها شيئا من حيوية الرؤى والنقاشات السياسية التي افتقدتها خلال الفترة الماضية.
الأكثر خطورة على السياسة الألمانية هو النزوع نحو التورط في الحروب، ساخنة وباردة، في أوروبا وعالميا.

القدس العربي