في حفل تنصيب تشارلز الثالث ملكًا على عرش المملكة المتحدة كانت الرسالة الأهم التي أرادت المملكة إرسالها لملايين المشاهدين حول العالم هي أنها تزهو بتعدديتها. كان هناك حضور ملحوظ لممثلي الديانات السماوية الإسلامية واليهودية فضلًا عن المسيحية بطبيعة الحال وغير السماوية كالديانة الهندوسية، وجرت تلاوة الترانيم الدينية بواسطة كورال تتماوج فيه ألوان البشرة من الأبيض الناصع كالثلج إلى الأسمر إلى الأسود وبلغات القوميات البريطانية فضلًا عن اليونانية تقديرًا لذكرى الأمير فيليب دوق أدنبرة وزوج الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، وهذا كله يؤشّر للتنوع ويبرزه للعيان. ولم يخلُ التعليق على المراسم الطويلة للتتويج من تذكيرنا بالأصول الهندية لرئيس وزراء إنجلترا والأصول الباكستانية لكلٍ من عمدة لندن ورئيس وزراء إسكتلندا. وعلى المستوى الشخصي فإن هذا الملمح في الاحتفال هو الذي استوقفني وربما يعود ذلك لطبيعة تخصصّي، ففي وقت يزيد فيه التعصّب حول العالم وتنكفئ الجماعات المختلفة على نفسها، تأتي بريطانيا لتفتح أبواب الكنيسة أمام المختلفين في الدين والأصل واللغة واللون، وبالتالي فمع أن طقوس التنصيب كانت مسيحية بامتياز والعقد الاجتماعي بين تشارلز والبريطانيين أبرمه كبير أساقفة كانتربري ليصير تشارلز “ملكهم بلا ريب” كما قال، إلا أنه كان هناك كرنڤال إنساني بديع ينافس كرنڤال الملابس والمجوهرات المبهر الذي رأيناه أثناء تبديل عباءة الملك بأخرى وتاجه بآخر وكل التفاصيل التي تستمّد شرعيتها من ألف عام مضوا دون أي سبب منطقي. وفي الأثناء يتم المسح على جسد الملك الجديد بزيت من مدينة القدس في لفتة ذكية تربط بين مادية الغرب وسحر الشرق.
• • •
علمّونا في كلية الاقتصاد أن الاستعمار البريطاني استعمار ذكي، ومصدر ذكائه هو أنه استعمار عملي قادر على التواؤم مع الظروف المتغيّرة وحريص على تحقيق مصالحه الاقتصادية بأكثر من حرصه على فرض ثقافته في الدول التي يستعمرها. والآن عندما نقارن مثلًا بين علاقة فرنسا بمستعمراتها القديمة بنفس العلاقة في حالة بريطانيا يتبيَن لنا الفرق الكبير بين نمطّي الاستعمار. مازالت فرنسا بعد أكثر من ستين سنة على انتهاء استعمارها للجزائر غير قادرة على تطوير علاقتها معها بما يسمح بتجاوز قضية عبء الذاكرة التاريخية لفترة الاستعمار، ومازالت قضية الذاكرة التاريخية هذه تقفز بين الحين والآخر لتفرمل التقدّم في مسار العلاقات الثنائية الجزائرية-الفرنسية. في المقابل حافظَت بريطانيا على علاقة طيبة مع مستعمراتها القديمة وارتبطَت معها برابطة الكومنولث التي تضّم ٥٤ دولة. من بين هذه الدول توجد فيما أظن ١٧ دولة مازال ملك بريطانيا ملكًا عليها هي الأخرى والبعض الآخر لا. والمدهش أن صاحبة هذه الفكرة الذكيّة كانت هي الملكة إليزابيث الثانية التي رأيناها في مسلسل “التاج” تشكو لأمها من أنها شعَرَت بالضآلة في أول مقابلة لها مع رئيس الوزراء ونستون تشرشل لأنه كان مثقفًا وواسع المعرفة بينما كانت هي تجهل كل شئ إلا نصوص الدستور البريطاني. هذه القدرة على التكيُّف مع المتغيّرات واتخاذ القرار في الوقت المناسب هي التي تصنع الفرق بين السياسات الخارجية للدول وقوتها الناعمة، فعندما عادت بريطانيا لاحتلال العراق في عام ٢٠٠٣ وكانت هي الدولة الوحيدة التي وافقت أمريكا على قرار الغزو، لم تلبث أن سحبت قواتها بعد اشتداد المقاومة الوطنية العراقية، فلقد أدركت بريطانيا أن عصر الاستعمار راح وراحت أيامه، أما الولايات المتحّدة فلقد خاضت في الرمال العراقية الناعمة ودفعَت الثمن غاليًا: بشريًا وماديًا، وصار فشلها في العراق أمثولة من أمثولات كثيرة على فشلها في الشرق الأوسط.
• • •
فكرة ترحيب بريطانيا بالتعددية في داخلها وأخذها هذه الفكرة لآفاق غير معتادة كأن تمثّلها في البطولات القارية والعالمية مثلًا أربع فرق رياضية، لا بل وأن تتواجه هذه الفرق مع بعضها كما حدث في كأس العالم الأخير لكرة القدم بفوز فريق إنجلترا على فريق ويلز ٣/صفر- هذه التعددية في الداخل تصطدم طبعًا بالتحفّظ على التعددية في السياق الأوروبي. فلقد تصرفت بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي بمنطق الجزيرة التي تتمتّع بالخصوصية أو حتى بالحصانة، فكانت هي آخر دولة تلتحق بالاتحاد الأوروبي وأول دولة تخرج منه وتصك باسمها مصطلح البريكست، وفي الأثناء حافظَت على عملتها النقدية وعلى تأشيرة دخول خاصة بها وكرّست معنى الاستثناء. ويمكن التعامل مع هذا التناقض بين التنوَع في الداخل والتمايز في الخارج كجزء من محاولة بريطانيا تقديم نموذج مختلف للعالم، وإلى حدٍ ما فإنها قادرة على تسويق هذا النموذج. صحيح أن بريطانيا تعاني من أزمة اقتصادية كبيرة، لكنها تتبنّى دبلوماسية ناجحة، وهي رغم التصاقها بالسياسة الخارجية الأمريكية إلا أنها تتجنّب المآزق التي تقع فيها هذه السياسة من وقت لآخر. فعلى الرغم من كل تعقيدات علاقة بريطانيا بإيران، وصدور فتوى اغتيال سلمان رشدي الهندي/البريطاني من آية الله الخميني، إلا أن بريطانيا تركَت الولايات المتحدة تنسحب وحدها من الاتفاق النووي في عام ٢٠١٨، واستمرَت ومازالت تدفع مع فرنسا وألمانيا في اتجاه الوصول لحّل بشأن القدرات النووية الفرنسية، ولو شئنا تقديم توصيف دقيق للموقف البريطاني من هذه القضية لقلنا إنه أقل صبرًا من فرنسا وأكثر حكمة من الولايات المتحدة. وبفضل المهارة في التكيُّف مع المتغيرات المختلفة استطاعت بريطانيا تجاوُز سلسلة الفضائح التي ضربَت العائلة الملكية “النموذجية” كما لم يحدث معها أبدًا على مدار تاريخها، وذلك من خلال التأكيد على عناصر القوة أو الجاذبية في النموذج الذي ترمز له مؤسسة الملكية، وكانت قيمة التنوع هذه هي القاسم المشترك الأعظم في كل تفاصيل الحفل الأسطوري لتنصيب الملك تشارلز الثالث.
• • •
مازال معظم البريطانيين يحب الأميرة ديانا ولا يحب كاميلا الملكة القرينة، ومازال أكثر الشعب يتعاطف مع الأمير هاري المتوحّد مع مأساة أمه والمقلد لها في تمردّها على حصار التقاليد المَلَكية بأكثر مما يتسامح مع إهانة/خيانة تشارلز لديانا بدافع حبه الشديد لكاميلا. نعم مازال هذا هو الحال، لكن غالبية البريطانيين أيضًا مازالت تتمسّك بالملَكية وتلتف حول العائلة المالكة، وفي احتفال التتويج قبل عدة أيام ظهر أمامنا بعض دعاة التحوّل للنظام الجمهوري على طول الطريق التي تمر بها العربة الملكية من قصر باكنجهام إلى كنيسة ويستمنستر آبي وبالعكس، أما مؤيدو الملكية ومرددو شعار “حفظ الله الملك” فكان حضورهم طاغيًا ملأ الشاشات ووصل هتافهم إلينا في البيوت.
الشروق المصرية