تتحوّل النزاعات التجارية إلى حروب عقابية غير محسوبة العواقب على نحو يجعل الأمور تزداد تعقيدا، ويصعب في مرحلة ما تداركها. هذا ما تبدو عليه حقيقة التنافس المؤلمة بين أمريكا والصين، التي تحوّلت إلى حرب تجارية متواصلة تلقي ظلالها على العالم، من حيث تسييس المسائل الاقتصادية والبحث عن تكتلات، والضغط على الحلفاء، ومحاولة إجبارهم على الاختيار بين علاقة عسكرية توفر لهم الأمن، وعلاقة اقتصادية من شأنها تحقيق الرفاه الاجتماعي لشعوبهم.
هذا الصراع في عمقه يتجاوز الاقتصاد إلى الدفاع والثقافة والتكنولوجيا. وقضية المناطيد ومن ثم منصة التجسس التي يزعمون أن بكين ترغب في تنصيبها على الأراضي الكوبية، هي مرحلة خطيرة في العلاقات الثنائية المتوترة، ربما الخشية المتبادلة من انزلاق الأمور إلى مواجهة كارثية هي العامل الرئيسي الذي يدفع واشنطن وبكين إلى محاولة إدارة الخلافات وضبط التنافس حتى لا يوصل إلى مهاوٍ خطيرة.
الحرب التجارية مع الصين أضرت بالاقتصاد الأمريكي، وفشلت في تحقيق أهداف سياسية رئيسية وكلفت الولايات المتحدة مئات الآلاف من فرص العمل
في هذا الإطار تأتي زيارة وزير الخارجية الأمريكي إلى الصين، في إطار نداء سياسي لمحاولة فك شيفرة ملفات عالقة، ثقيلة الحجم، لأول مرة منذ 5 سنوات.. منعرج يأتي بعد الانسحاب الأمريكي المتكرر من الاتفاقيات الدولية، وفرض عقوبات على موظفي المنظمات الدولية، وشن حروب تجارية، والقمع الوحشي لشركات التكنولوجيا الفائقة الأجنبية، واعتقال مسؤولين تنفيذيين للشركات الصينية، دون وجه حق. جميع هذه الوقائع التي أقدمت عليها الإدارة الأمريكية تثبت أن الولايات المتحدة، هي التي ترفض التنافس بطريقة عادلة ومتساوية وشفافة، وهي سيئة السمعة في هذه الجوانب، وليس لها الحق في توجيه أصابع الاتهام إلى دول أخرى، وبتوصيف صيني أفعالها، تثبت «دبلوماسية الكذب والغش والسرقة». الولايات المتحدة تتوقع من حلفائها أن ينصاعوا، ولا يعنيها أن تعتمد نهجا تشاوريا، ويبدو واضحا أنه ليس لدى الأوروبيين طموحات مثل الأمريكيين. علاوة على ذلك، يتعاون الأوروبيون الغربيون مع روسيا، وجميع الأوروبيين مع الصين بشكل مربح جدا لهم. ويودون الحفاظ على هذا التعاون، ولا يريدون أن يصبحوا بيادق في اللعبة الأمريكية، ولكن أمريكا تصر على حشد القوة المتحالفة والمنحازة، وإن كان ذلك عبر شبكة أكثر تعقيدا بكثير مما كان عليه الحال في مواجهة الاتحاد السوفييتي. ألمانيا في الوثيقة الاستراتيجية الصادرة مؤخرا، وصفت الصين بأنها قوة معادية مثلها مثل روسيا، رغم أن بكين شريك تجاري مهم لأوروبا. هذا ليس مستغربا من حكومات أوروبية فاقدة لقرارها السياسي والاستراتيجي المستقل. لا ننسى ما حدث من تحالف أمني استراتيجي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. تم تشكيله ليضمّ الولايات المتّحدة وبريطانيا وأستراليا للتصدّي لبكين، ومشاركة الولايات المتحدة تكنولوجيا الغواصات الخاصة بها مع كانبيرا، لأول مرة منذ 50 عاما، بعد أن شاركتها في السابق مع بريطانيا. وقد أظهرت هذه الخطوة مرّة أخرى أنّ واشنطن لا تهتم عندما تشكّل تكتلات إقصائية، تستهدف مصالح أطراف ثالثة أو تضرّ بِها. وهذا الخيار الأمريكي الذي يؤدّي إلى إقصاء حليف أوروبي مثل فرنسا من شراكة مزمنة مع أستراليا، جاء في وقت تواجه فيه الكتلة الغربية تحدّيات غير مسبوقة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. ومع ذلك لم تفعل أوروبا شيئا حيال ذلك، بل على العكس واصلت الانجرار وراء أمريكا، دون استقلالية تذكر. وهي اليوم تعاني الأزمات بسبب مشاركتها الحرب في أوكرانيا بالدعم العسكري والسياسي، وفرض العقوبات على روسيا.. وهي في مأزق أمام شعوبها التي تحتج رفضا لمآلات حرب عبثية تدفع ثمنها وليست معنية بها. صراع النفوذ بين العملاقين الاقتصاديين دخل بالفعل مرحلة اصطفاف جديدة، والاتفاقية التي عُدّت محاولة لمواجهة النفوذ الصيني في بحر الصين الجنوبي، أرادت من خلالها واشنطن تأكيد محوريتها، وإن كان على حساب حلفائها التقليديين. فهي كانت ضربة قاسية للطموحات الفرنسية، تنضاف إلى غيرها لتثبت انكشاف ضعف شخصية الأوروبيين السياسية أمام واشنطن.
وصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة، مثّل بداية مرحلة قمع التجارة الحرة والتعددية، باعتبارها وسيلة للتفاهم بين الكتل الاقتصادية الكبرى. وبالمثل واصل بايدن السياسة المتشددة نفسها في التعامل مع الصين. ولكن الاثنين أصرّا من جهة النتائج على سياسة تجارية بلا اتجاه، أقل ما توصف بأنها «حماقة اقتصادية خالصة»، يرى في سياقها، غراهام آليسون الخبير الأمريكي في العلوم السياسية أنه إذا ما تمكن النظام الأوتوقراطي بقيادة الرئيس الصيني شن جين بينج، من تحقيق حلمه، ستزيح بكين واشنطن من العديد من مواقع القيادة التي اعتادت عليها الأخيرة خلال «القرن الأمريكي». وإذا لم يتم إقناع الصين بأن تكبح جماح نفسها، وأن تتعاون حقا مع الولايات المتحدة، سيكون من قبيل المستحيل تحاشي اندلاع حرب كارثية، أو الحفاظ على مناخ تستطيع فيه الدولتان العيش معا. وزيارة بلينكن تؤكد أنه يتعين على الصين والولايات المتحدة تعزيز التنسيق الاستراتيجي حول الرؤى العالمية لكل منهما، وإقامة علاقات ثنائية ترتكز على التنسيق والتعاون والاستقرار، فمبادرة الحزام والطريق ليست «مصيدة دُيون» أو «مخططا جيوسياسيا»، كما وصفها بعض المسؤولين. على النقيض، هي منصة مفيدة للتعاون بين الدول لدعم الارتباطية وتحقيق التنمية معا. مهمة دبلوماسية قام بها مسؤول أمريكي خُتِمت بتصريحات من الجانبين في إطار إعلان النوايا، لكن التباين بين الطرفين في عديد الملفات، منها التنافس التجاري والتكنولوجي، وقضية تايوان وبحر الصين الجنوبي، وربما ملف كوريا الشمالية ومدى تأثير بكين عليها، وغيرها من القضايا، تُبقي الاختبار الحقيقي في ترجمة التفاهمات واقعيا وليس عبر تصريحات عابرة لم تثبت سابقا جدواها. الحرب التجارية مع الصين أضرت بالاقتصاد الأمريكي، وفشلت في تحقيق أهداف سياسية رئيسية، قللت من النمو الاقتصادي، وكلفت الولايات المتحدة مئات الآلاف من فرص العمل. بمعنى أن هذه الحرب التي وُصفت بأنها خطة لتركيع الصين عن طريق إغلاق السوق الأمريكية أمامها، حصيلتها ارتدادية. وما حدث بالفعل هو أن العجز التجاري للولايات المتحدة اتسع إلى أكبر مستوى على الإطلاق. وحد اللحظة دول أوروبية وآسيوية تستشعر القلق من الانضمام إلى أمريكا في ما يشبه الحرب الباردة لاحتواء صعود الصين، لاسيما أنّ ذلك يُعرض العلاقات التجارية المربحة للخطر. وعدم قدرة واشنطن على التخلّص من عقلية الحرب الباردة والتحيّز الأيديولوجي، سيترك الحلفاء متوجّسين بشكل متواصل، حتى تستوعب الولايات المتحدة أن اختلاف النظم الاجتماعية والأيديولوجيات يجب ألا يقف في طريق التعايش السلمي بين الدول.
القدس العربي