هل تكون السويد بوابة توافقات أمريكية تركية؟

هل تكون السويد بوابة توافقات أمريكية تركية؟

كان احتفال السويد بعيدها الوطني (الذي يصادف 6 حزيران/ يونيو) هذا العام مميزاً بعض الشيء، فقد تزامن مع الذكرى الـ 500 لاختيار غوستاف فاسا ملكاً للسويد الذي استمر في الحكم من عام 1523 إلى وفاته عام 1560، ويعتبر المؤسس الفعلي للمملكة السويدية بحدودها الحالية. فهو الذي بعد أن حرر الأراضي السويدية من الدانماركيين؛ ووحد المقاطعات السويدية، وأسس جيشاً مهنياً، وبنى الأسطول، وجعل من السويد البلد الفلاحي في ذلك الحين قوة عظمى إلى جانب القوى الكبرى المتصارعة على النفوذ والمجال الحيوي في شمال أوروبا، وبين تلك القوى يُشار هنا إلى الروس والإنكليز والمقاطعات الألمانية إلى جانب البولنديين.
وفي ما يخص السويد وروسيا نشبت بين البلدين خلال الفترة الممتدة من أواسط القرن الرابع عشر إلى عام 1809 سلسلة من الحروب كان باعثها الصراعات على المجال الحيوي وطرق التجارة والممرات المائية؛ وهي حروب كلفت السويد الكثير من الخسائر المادية والبشرية، إلى جانب تقليص مجالها الجغرافي لا سيما بعد اجبارها على التنازل عن فنلندا بموجب الصلح الذي تم بينها وبين روسيا في عهد الاسكندر الأكبر عام 1809. ومن ثم كان الصلح بينها وبين الدانمارك عام 1814، وذلك بعد حروب وصراعات شرسة. ومنذ ذاك التاريخ اعتمدت السويد سياسة الحياد، وعدم الانضمام إلى التحالفات العسكرية، ورفض المشاركة في الحروب بكل أنواعها. وقد تمكنت من المحافظة على هذه السياسة في الحرب العالميتين الأولى والثانية، رغم قربها الجغرافي من ألمانيا وروسيا، وكانت الدبلوماسية باستمرار هي الوسيلة المفضلة سويدياً لإقناع الأطراف المتحاربة بأهمية المحافظة على الحياد السويدي لصالح السويد، وصالح القارة بشكل عام، بل وحتى لصالح السلم العالمي، إذ استطاعت السويد من موقعها المحايد الإسهام في حل الكثير من المنازعات الإقليمية والدولية.
وإذا عدنا إلى الوثائق والمعطيات التاريخية سنرى أن الصراع حول بحر البلطيق والممرات المائية المؤدية نحو الشمال باتجاه المناطق المتجمدة، وتلك المتجهة نحو الجنوب حيث المياه الدافئة كان المحور الذي تمفصلت حوله مختلف الصراعات الأخرى بين روسيا والسويد. واليوم يبدو أن الصراع حول المناطق الحيوية والتجارة والممرات المائية، لا سيما في ظل التحولات المناخية التي باتت واضحة التأثير عبر موجات الجفاف غير المعتادة التي تتعرض لها مجموعة من الدول الأوروبية، ما زال هو المحرك الذي يدفع ببوتين، الذي يعاني من العقد الناجمة عن مفارقة كبرى يعيشها، وتفسر لجوئه إلى القوة لبلوغ أهدافه. فهو من جهة تحت هيمنة النزعة الإمبراطورية والرغبة في استرجاع مكانة روسيا العالمية سواء في مرحلة الإسكندر الأكبر أم في مرحلة الاتحاد السوفياتي (المهم بالنسبة إليه هي العظمة الروسية بغض النظر عن التسميات أو الأغلفة سواء الدينية أم القومية أو الايديولوجية)، ولكنه (بوتين) يدرك في الوقت ذاته أن إمكانيات روسيا التكنولوجية غير قادرة على المنافسة في الميدان العالمي لا مع الأوروبيين ولا مع الأمريكان، ولا حتى مع الصين. كما أن اصطفاف الكثير من الدول التي كانت سابقا جزءا من المجال الحيوي الروسي خاصة في مرحلة الاتحاد السوفياتي، قد أضعف روسيا كثيراً، ويوحي بالمزيد من الضعف مستقبلاً إذا ما استمرت التوجهات في مساراتها الحالية؛ لذلك كان القرار بغزو أوكرانيا تحت اسم العملية العسكرية الخاصة التي كان من بين أهدافها المعلنة، وفق تصريحات المسؤولين الروس وعلى أعلى المستويات: إسقاط الحكم الأوكراني وتعيين حكومة موالية للروس توافق على الشروط الروسية التي تحجم السيادة الأوكرانية، وتطالب بالتنازل عن مناطق من أوكرانيا بحجة أصلها الروسي، ورغبة سكانها في الانضمام إلى روسيا.
وأمام التهديدات المحتملة التي ستصبح واقعاً ملموساً في حال انتصار بوتين في أوكرانيا، وجدت السويد، حكومة ومعارضة، نفسها مضطرة إلى القطع مع سياسة الحياد، والتقدم بطلب عضوية الناتو، وذلك لأن التحديات الوجودية باتت على الأبواب، وما يؤكد ذلك يتمثل في هيمنة مجموعة لا تؤمن بالديمقراطية على الحكم في روسيا بزعامة شخص لا يخفي نزوعه الإمبراطوري، ولا يتستر على خصومته للغرب، وسعيه المستمر لبناء تحالفات دولية وإقليمية تكون مستقبلاً منصة لحروب دولية باردة أو ساخنة الهدف منها استعادة العظمة الروسية التليدة.
وبالتناغم مع هذا التوجه كان التركيز على تركيا التي لها هي الأخرى ذكريات موجعة مرتبطة بالحروب التي كانت بينها وبينها روسيا في مختلف المراحل وصولاً إلى أيام الحرب العالمية الأولى 1914-1918. والجدير بالذكر هنا أن التوترات بين الدولتين استمرت نتيجة الحرب الباردة بين حلفي الأطلسي ووارسو، وبفعل الحروب الإقليمية التي كانت في مناطق عدة من العالم، ويشار هنا على سبيل المثال إلى الحرب الكورية 1950-1953، وهي التي شاركت فيها تركيا بقوات عسكرية إلى جانب قوات أطلسية في مواجهة القوات الكورية الشمالية التي تتلقى الدعم من الصين بقيادة ماو تسي تونغ، والاتحاد السوفياتي في عهد ستالين.
ولكن مع انتهاء الحرب الباردة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تراجعت مكانة تركيا بعض الشيء في الحسابات الأطلسية والأمريكية تحديدا، بل حتى الحلف الأطلسي نفسه لم يعد حلفا له هيبته وقوته كالسابق، وذلك في أجواء تلاشي حلف وارسو المنافس. ومع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002 برزت جملة تباينات بين تركيا بقيادة رجب طيب اردوغان والأمريكان حول مستقبل المعادلات الإقليمية وتفاعلاتها الدولية، وموقع تركيا من كل ذلك. وكان لافتاً رفض البرلمان التركي الموافقة على فتح المجال أمام القوات الأمريكية، وقوات التحالف الدولي بصورة عامة، لاستخدام مطارات تركيا وأراضيها قاعدة لمهاجمة العراق بهدف إسقاط نظام صدام حسين عام 2003.
وتباينت المقاربات بين الطرفين بشأن العديد من المسائل الإقليمية الأخرى سواء من جهة العلاقة مع إسرائيل والفلسطينيين أم مع الإيرانيين.
وجاء انقلاب عام 2016 لترتفع وتيرة الاتهامات والشكوك المتبادلة بين الطرفين. ومن ثم كان الاعتماد الأمريكي على قوات حزب العمال الكردستاني في سوريا تحت يافطة «قسد» لمحاربة داعش، رغم التحذيرات والعروض التركية، وهو ما دفع بالأمور نحو مستويات أعمق من البرود والشكوك، بلغت حد اتخاذ العقوبات، وفرض حظر بيع الأسلحة النوعية الأمريكية إلى تركيا، وإقدام الأخيرة على شراء منظومة الصواريخ الروسية أس 400، لتكون سابقة غير معهودة في حلف الناتو، كما دخلت تركيا مع الروس والإيرانيين في مسار أستانا الذي كان في الأصل فكرة روسية للمصادرة على مسار جنيف، ومرجعيته المتمثلة في بيان جنيف1 عام 2012.
وكل ذلك أسهم في التشدد التركي إزاء موضوع انضمام السويد إلى الناتو. واليوم هناك تقارير سويدية خاصة بالاختراقات والتهديدات الأمنية التي تتعرض لها السويد من جانب روسيا تبين أن الروس لهم مصلحة مباشرة في إبعاد السويد عن الناتو، وذلك بحكم موقعها الجيوستراتيجي، ودورها الداعم مستقبلاً لدول حوض البلطيق وفنلندا العضوة في الناتو، هذا بالإضافة إلى قربها اللافت من كل من أوكرانيا وبولندا وروسيا نفسها، إلى جانب بيلوروسيا، ولا تستبعد هذه التقارير العلنية الصادرة عن مسؤولين سويديين أمنيين كبار وجود جهود روسية خلف التحركات التي تقوم بها بعض الجماعات لإثارة تركيا أو دعم حججها، خاصة من جانب الاتهامات الخاصة بسياسة غض النظر التي تتبعها السويد في مواجهة نشاطات حزب العمال الكردستاني والواجهات الخاصة به.
واللافت في الأمر أن هنغاريا/المجر، أو بكلام أدق حكومة أوربان في هنغاريا تختبئ من جانبها خلف الموقف التركي، وتلجأ إلى المماطلة والتسويف بخصوص عرض موضوع الموافقة على انضمام السويد إلى الناتو على البرلمان، وذلك في انتظار الموقف التركي النهائي؛ وهذا الأمر ينسجم من دون شك مع رغبات القيادة الروسية.
هل ستستمر تركيا في موقفها المعرقل لانضمام السويد إلى الناتو، وهو الأمر الذي سيؤثر على علاقاتها الأطلسية خاصة مع الأمريكان؟ أم أنها تستخدم هذه الورقة التي تدرك مدى أهميتها للأطلسي في سبيل التوصل إلى تفاهمات وتوافقات مع الأمريكان بشأن الأسلحة الأمريكية المطلوبة تركياً، وحول الترتيبات الميدانية في شرق الفرات، ومناقشة الدور التركي في المعادلات الإقليمية المحتملة؟
أسئلة تحتمل إجابات متباينة. ولكن المؤكد الواضح هو أن تركيا لن تكون سعيدة بانتصار روسي حاسم في أوكرانيا؛ لأن ذلك سيفتح الآفاق أمام المشروع الإمبراطوري الروسي الذي يتوق إليه بوتين، وسيفتح شهية الأخير للاندفاع نحو مناطق أخرى لا تستوعب مشاريع ثلاث دول (روسيا تركيا وإيران) تمتلك تراثا إمبراطورياً ما زال يمثل بالنسبة للكثير من أصحاب القرار في الدول المعنية مصدر إلهام، وانموذجاً للاقتداء.
أما إذا خسرت روسيا، وهذا احتمال ترجحه المعطيات الميدانية، والمؤشرات الاقتصادية، أو حتى إذا اضطرت روسيا للقبول بتسوية سياسية تنقذهم بعض الشيء من الورطة التي أوقعوا أنفسهم فيها، فإن ذلك لن يكون هو الآخر في صالح تركيا إذا ابتعدت عن التزاماتها الأطلسية، وخسرت مصالحها التجارية الضخمة جداً مع الغرب وحلفائه، ومع الأوروبيين تحديداً.
التاريخ لا يتكرر أو لا يكرر نفسه بتفصيلاته ودقائقه، ولكن دراسة التاريخ في سياق التمعن في أهمية الدور الجيوستراتيجي للموقع، وفي ضوء واقع تفاعلات المعادلات الإقليمية والدولية المستجدة، تعد من المسائل الأكثر أهمية في الحالة التركية، فتركيا لديها تجربة غنية في الحربين العالميتين، وهي تدرك، قبل غيرها، أهمية وضرورة الحسابات الدقيقة في الأوضاع المعقدة.

القدس العربي