“لن نقبل مطلقا أن يطال أي شخص سوء بسبب أنه أجنبي”.. بهذه الكلمات الحازمة تحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فيما بدا تدشينا لمرحلة جديدة في مواجهة عنصرية متصاعدة في تركيا تستهدف الأجانب، خصوصا العرب واللاجئين.
وجاءت تصريحات أردوغان بعد اجتماع لحكومته مساء الثلاثاء، وهاجم فيها من وصفهم بـ”أصحاب العقلية الفاشية” الذين يستهدفون المواطنين الأتراك على خلفية انتماءاتهم الدينية، أو اللاجئين، مهددا بمحاسبتهم أمام القضاء.
وشدد أردوغان “لن نقبل مطلقا أن يطال أي شخص سوء، بالقول أو بالفعل، بسبب أنه أجنبي أو يتحدث لغة مختلفة أو بسبب الحجاب واللحية أو أي شيء آخر، وكل من يتورط في الإساءة لأحد سيعاقب”.
وتابع “كل شخص في تركيا سواء كان تركيا أم أجنبيا يحق له العيش بسلام والتعبير عن رأيه”.
وهذه ليست المرة الأولى التي يُصرّح فيها الرئيس التركي بحزم في مواجهة العنصرية المتصاعدة ضد الأجانب في بلاده، ففي خطاب سابق قال أردوغان إنه في الوقت الذي تتخذ فيه جميع التدابير ضد الهجرة غير النظامية، فإن تركيا ترحب بضيوفها الأجانب الذين يسهمون في الاقتصاد التركي.
وشدد بالقول “لا يمكننا أن نسمح للعنصرية وكراهية الأجانب التي ليس لها مكان في تاريخنا وثقافتنا ومعتقداتنا بالانتشار في مجتمعنا”.
وأضاف أن “تركيا لن تسمح لعدد قليل من الجهلاء بتلطيخ السجل النظيف لتركيا، التي كانت ملجأ للمضطهدين والمظلومين لعدة قرون”.
عنصرية لا تستثني الأتراك
لكن يبدو أن تصريحات أردوغان تخطت انتقاد العنصرية ضد الأجانب إلى الاستياء من استهداف داخلي يتعرض له كثير من الأتراك، بقوله “انقضى منذ زمن عهد المتكبرين الذين يرون هذا البلد ملكا لأقلية صغيرة وأن هذا الشعب عبيد لها”.
وفي تغريدة على منصة “إكس”، كتب أردوغان إن “البعض يحاولون حرف المجالات التي ينبغي أن توحدنا جميعا، حول قيمنا وأفراحنا، وفخرنا المشترك، مثل الثقافة والفنون والرياضة، إلى أدوات للانهزامية”.
وسبق لأردوغان أن تحدث إلى جمهور عريض من مواطنيه، في عام 2015 قائلا “إن الأتراك البيض يصفونكم ويصفوننا بأننا أتراك سود، وأنا فخور بأني تركي أسود”.
ولعل تصريحات أردوغان -القديمة منها والجديدة- تشير إلى أن العنصرية والتعامل الاستعلائي في تركيا ليسا موجهين في الأصل ضد العرب أو غيرهم من المهاجرين، بل هما موجهان -قبل ذلك وبالدرجة الأولى- ضد القطاع المحافظ المتديِّن من المجتمع التركي، وأن لهذه الظاهرة جذورا تاريخية وبنيوية تتجاوز الأحداث السياسية العابرة، كما يقول أستاذ الشؤون الدولية في جامعة قطر محمد الشنقيطي.
وقبل أيام، حذر ياسين أقطاي، الأكاديمي والمستشار السابق لرئيس حزب العدالة والتنمية، من التزايد المقلق لظاهرة “العنصرية القبيحة” في تركيا وانعكاساتها السلبية على المجتمع التركي.
وأعرب عن أسفه لرؤية “بذور كراهية الأجانب والعنصرية التي تم زراعتها في تركيا بتحريض من بعض السياسيين والتي بدأت الآن تؤتي ثمارها السامة”.
وقال “لا تظن أن البلد الذي يصبح غير آمن للسوريين، سيكون أكثر أمانا وراحة لمواطنيه، فالكراهية الفاشية والعنصرية البشعة ستطال الجميع حتى تقتل صاحبها”.
أوزداغ أوغلو (يمين) اتفق مع كليجدار أوغلو على إعادة المهاجرين في تركيا إلى بلدانهم الأصلية في غضون عام بعد الانتخابات (الأناضول)
لواء العنصرية
ومع ارتفاع وتيرة التحريض ضد العرب، تكررت حوادث الاعتداء على سائحين أو مقيمين عرب في تركيا، وكان أشدها اعتداء عشرات الأتراك بشكل وحشي على فتى يمني (15 عاما) في أحد المجمعات السكنية بمنطقة إسنيورت بإسطنبول.
وإن كانت العنصرية في تركيا -شأنها شأن كثير من الدول والمجتمعات- قديمة جديدة، فإن أوميت أوزداغ رئيس حزب “الظفر” المعروف بعدائه للمهاجرين عموما والعرب خاصة، بدا كمن يرفع “لواء العنصرية”، شيطنة للأجانب والمهاجرين خصوصا، وتخويفا للأتراك من قادم الأيام إذا لم “ينتفضوا للتخلص من المهاجرين”.
وتعالت الأصوات العنصرية المعادية لوجود اللاجئين في تركيا مع بداية الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فقد لعبت المعارضة -وإن بتباينات داخل تحالفها- كثيرا على وتر التخويف والتحذير من الأجانب، خصوصا اللاجئين وعلى رأسهم السوريون.
وتعهد مرشح المعارضة للانتخابات الرئاسية، كمال كليجدار أوغلو، بترحيل اللاجئين خلال عام إذا أصبح رئيسا، مما شجّع بعض الأتراك على تجاوز الحدود الأخلاقية والإنسانية في التعامل مع اللاجئين العرب الذين تُقدّر أعدادهم بنحو 7 ملايين نسمة، أكثر من 3.5 ملايين منهم سوريون.
وقام سياسيون محسوبون على المعارضة بالتوجه إلى مناطق توجد فيها محلات سورية في ولايات جنوبية لانتقاد ما وصفوه بسيطرة الثقافة العربية، مطالبين الباعة السوريين باستخدام الألفاظ التركية وليس العربية، ونزع بعضهم اللافتات المكتوبة باللغة العربية لبعض المحلات.
وتداولت وسائل الإعلام مقطع فيديو للنائب التركي جمال إنجينورت وهو ينتقد إلقاء التحية “بالسلام عليكم”، بحجة أنه تركي وليس عربي.
وفي إزمير -التي تعد أبرز معاقل حزب الشعب الجمهوري المعارض- حمّل رئيس البلدية تونج سوير المهاجرين في المدينة مسؤولية التسبب بانتشار التلوث فيها. وردا على ذلك، اتهم أيوب قدير إنان، رئيس الذراع الشبابية لحزب العدالة والتنمية والنائب عن إزمير، سوير “بالتذرع بالسوريين لتبرير تقاعسه”.
أسباب متعددة
وإضافة إلى الدور الكبير الذي يقوم به سياسيون أتراك، يُرجع مراقبون تنامي العنصرية في تركيا في الآونة الأخيرة إلى عدد من الأسباب:
أولا: تاريخية، فالعلاقة بين العرب والأتراك اتسمت بشيء من التعقيد ومرّت بمراحل متباينة، وخضعت لعوامل سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، كان للقوى الاستعمارية دور كبير في تغذية العداء بين الطرفين، خصوصا في المرحلة التي واكبت تفكك الدولة العثمانية.
ثانيا: اقتصادية، فوجود عدد كبير من اللاجئين وقبولهم العمل غير الرسمي بأجور مخفضة جعلهم ينافسون العمالة المحلية، وهو جانب له تداعيات اقتصادية سلبية على الأتراك، رغم مزاياه التي لا تُنكر من جانب آخر.
ثالثا: إعلامية، فثمة وسائل إعلام تلعب دورا كبيرا في تعميق العنصرية ضد اللاجئين من خلال تضخيم الحوادث السلبية وتكريس مشاعر الخوف والقلق، وهو تحريض يرى الباحث محمد رقيب أوغلو أنه مدعوم من جهات دولية ليست سعيدة باستقرار تركيا.
رابعا: سياسات حكومية، فقد صرح وزير الداخلية علي يرلي كايا، في التاسع من يوليو/تموز الجاري، أن وزارته تكافح الهجرة في 81 ولاية وليس فقط في إسطنبول، وأن تركيا ستشهد خلال 4 إلى 5 أشهر “انخفاضا ملحوظا في أعداد المهاجرين غير الشرعيين”.
وتحدث كايا عن المستهدفين بإجراءات الوزارة قائلا “هم الأشخاص الذين يدخلون البلاد بشكل غير قانوني، والذين لم يغادروا البلاد رغم انتهاء مدة إقاماتهم، وهؤلاء يعدون مهاجرين غير شرعيين”.
لكن الوزير نفسه شدد أيضا -في لقاء مع الجزيرة- على أن حكومة بلاده لا يمكن أن تسمح بانتشار العنصرية وكراهية الأجانب في المجتمع.
وأضاف كايا أن المدعين العامين يتابعون الخطاب العنصري في إطار القانون. وقال إنه لا مكان للعنصرية والكراهية في تاريخ وثقافة ومعتقدات الأتراك.
ومع تأكيد المسؤولين الأتراك أنهم لا يستهدفون المهاجرين عموما، وإنما من يصفونهم بـ”غير الشرعيين”، فإن البعض يرى أن هذه التصريحات قد يكون لها دور في تشكيل سياق العنصرية والتمييز ضد اللاجئين والمهاجرين في البلاد.
وبذلك فإن الحكومة التركية تجد نفسها بين مطرقة اتهامات المعارضة وتزايد التذمر لدى بعض الأتراك من اللاجئين، وسندان المواقف المبدئية والأخلاقية التي حرص الرئيس أردوغان دوما على بثها في هذا الملف.