في ذروة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، وتكديس كل طرف لكميات هائلة من الأسلحة النووية التي تكفي لتدمير الحياة على كوكب الأرض بأكمله عدة مرات، ظهرت مفاهيم “الدمار المتبادل المؤكد” و”الدمار المؤكد” و”توازن الرعب”. وتصورَ البعض في الغرب، مع خروجه من الحرب الباردة منتصراً، وتفكك الاتحاد السوفيتي، ومعه الكتلة لشرقية وحلف وارسو، أن هذه المفاهيم ستختفي، ولن يكون لها محل من الإعراب في عصر القطب الأوحد.
لكن المؤرخ الاسكتلندي نيال فيرغسون يقول، في تحليل نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء، إن مفهوم الدمار المتبادل المؤكد أثبت أنه “معمر”، ومازال صالحاً لوصف توازن القوة في عالم العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وبخاصة في الصراع الدائر حالياً بين الولايات المتحدة والصين.
بيل برنز: نحن نعرف من منظور استخباراتي أن الرئيس الصيني وجّهَ جيش التحرير الشعبي الصيني بأن يكون مستعداً لغزو تايوان بنجاح بحلول عام 2027.
واليوم، وفي المراحل الأولى من الحرب الباردة الثانية بين بكين وواشنطن، يمكن استعادة كل مفاهيم الحرب الباردة الأولى؛ من “الدمار المؤكد” و”الدمار المتبادل المؤكد” و”توازن الرعب”. فالصراع بين الدولتين له بعده النووي أيضاً في ظل امتلاك الدولتين ترسانة نووية كبيرة. لكن لا يبدو أن كثيرين قلقون من هذا البعد في التنافس الصيني الأمريكي. وبدلاً من ذلك يتجه أغلب الاهتمام والقلق إلى الدمار المالي والاقتصادي الذي يقيد القوتين العظميين حالياً، ويميّز بوضوح الحرب الباردة الثانية عن الحرب الباردة الأولى.
بالفعل ظهرت بوادر باهتة لانفراجة في الصراع الأمريكي الصيني. فبحسب كورت كامبل، رئيس إدارة منطقة المحيطين الهندي والهادئ في مجلس الأمن القومي الأمريكي، تسعى إدارة الرئيس جو بايدن إلى إيجاد “تفاعل حذر ومثمر وإستراتيجي مع الصين… في صورة مجموعة من التفاعلات التي يمكن التنبؤ بنتائجها وأكثر حكمة في عدد كبير من المجالات”.
وخلال زيارتها الأخيرة للصين، أكدت وزيرة التجارة الأمريكية جينا رايموندو التزاماً بتشكيل “مجموعات عمل” جديدة لمناقشة الخلافات التجارية بين البلدين، وأخرى لمناقشة القيود المفروضة على التصدير.
في الوقت نفسه، رفضت رايموندو طلباً صينياً لتخفيض الرسوم الأمريكية على السلع الصينية. كما أن قواعد وزارة التجارة الأمريكية الموضوعة، في تشرين الأول/أكتوبر 2022، لمنع حصول الصين على أشباه الموصلات المتقدمة، والمعدات التي تصنعها من الولايات المتحدة، لم تخضع للنقاش. وفي أوائل آب/أغسطس الماضي، أعلن البيت الأبيض قيوداً جديدة على استثمارات صناديق الاستثمار وشركات الاستثمار الأمريكية في مشروعات الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية وأشباه الموصلات الصينية.
ويقول فيرغسون، المحاضر في جامعة هارفارد الأمريكية، إنه بسبب هذه الإجراءات وتوقّع المزيد منها، يحدث الانفصال الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة بسرعة. كما تتراجع حصة الصين من الواردات الأمريكية بسرعة، منذ 2016. وفي آب/أغسطس الماضي، باع المستثمرون الأجانب أسهماً صينية بقيمة 12 مليار دولار، وهو أكبر خروج لهم منذ بدء التداول الدولي في بورصتي شنغهاي وشينشن الصينيتين، في أواخر 2014. كما يشهد الاقتصاد الصيني مشكلات عديدة، أبرزها تدهور القطاع العقاري وتنامي الدين الحكومي.
في المقابل، فإن مشكلات الاقتصاد الأمريكي مختلفة بصورة ما. فهذا الاقتصاد يحقق أداء جيداً، مع الوصول إلى درجة التوظيف الكامل واستمرار الإنفاق الاستهلاكي وتراجع التضخم بعد وصوله إلى مستوى قياسي في 2020. هذا المظهر الصحي للاقتصاد الأمريكي يخفي ضعفاً هيكلياً على الجانب المالي. فالعجز المالي لدى الولايات المتحدة يتزايد بصورة مطردة. وفي حين كان حجم الدين الأمريكي مع بداية حكم الرئيس السابق دونالد ترامب 9ر19 تريليون دولار، فإنه وصل الآن إلى 3ر32 تريليون دولار.
تسعى إدارة بايدن إلى إيجاد تفاعل حذر ومثمر وإستراتيجي مع الصين… في صورة مجموعة من التفاعلات التي يمكن التنبؤ بنتائجها وأكثر حكمة في عدد كبير من المجالات.
وفي ظل هذه الظروف يرى فيرغسون أنه من الصعب تخيل كيف يمكن لأي مواجهة جيوسياسية بين الصين والولايات المتحدة أن تكون مجدية من الناحية المالية، بعيداً عن الصعوبات العسكرية والبحرية التي يمكن مواجهتها.
وفي مؤتمر بجامعة جورج تاون، في شباط/فبراير الماضي، ومؤخراً في مؤتمر بمدينة أسبن بولاية كولورادو الأمريكية، أوضح بيل برنز، مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “سي.آي.أيه”، السيناريو الذي يراه الأكثر احتمالاً، فيقول إن “تقييمنا في وكالة المخابرات المركزية هو أنه سيكون خطأ في التقدير من جانبنا لطموحات الرئيس الصيني شي بالنسبة لتايوان. ونحن نعرف من منظور استخباراتي أنه وجّهَ جيش التحرير الشعبي الصيني بأن يكون مستعداً لغزو تايوان بنجاح بحلول عام 2027. والآن لا يعني هذا أنه قرر تنفيذ الغزو عام 2027، ولا في أي عام آخر، لكنه يذكرنا بخطورة تركيزه وطموحه”.
في الوقت نفسه، يقول فيرغسون إنهم يعرفون أن الصينيين يمكنهم محاصرة تايوان. وفي نيسان/أبريل الماضي أجرى الجيش الصيني تدريبات لمدة ثلاثة أيام على كيفية فرض حصار كامل على جزيرة تايوان، مع بيان يقول إن الصين “مستعدة للقتال… ومستعدة في أي وقت لسحق أي شكل من أشكال استقلال تايوان ومحاولات التدخل الأجنبي”. من المستحيل القول إلى أي مدى يمكن أن تكون الصين مستعدة لخوض حرب شاملة ضد الولايات المتحدة، في حال تنفيذ الأولى سيناريو حصار تايوان.
ويقول الخبراء الغربيون إن الجيش الصيني سيحتاج إلى أربعة شهور، كحد أدنى، لكي يستعد لساعة الصفر. والمعضلة التي تواجه الصينيين المسؤولين عن وضع الإستراتيجيات هي أنه في أي حرب مع الولايات المتحدة سيكون من الأفضل توجيه الضربة الأولى، وربما بمهاجمة القواعد البحرية الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، واستغلال نقاط الضعف التقليدية للسفن في الموانئ.
ولكن ماذا سيحدث بعد الهجوم الصيني؟
يقول المؤرخ الاسكتلندي فيرغسون إن الولايات المتحدة وحلفاءها، بما في ذلك جميع أعضاء مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى على الأقل، ستتخذ، قبل هذا الهجوم، أو فور وقوعه، إجراءات اقتصادية صارمة ضد الصين. ويقول شارلي فيست وأجاثا كراتس من مركز أبحاث المجلس الأطلسي إنه في السيناريو الأسوأ ستتعرض تدفقات تجارية ومالية للصين بقيمة 3 تريليونات دولار لخطر الاضطراب الفوري، بعيداً عن الأصول المالية لخارجية للصين التي ستكون عرضة للتجميد.
المظهر الصحي للاقتصاد الأمريكي يخفي ضعفاً هيكلياً على الجانب المالي. فالعجز المالي لدى الولايات المتحدة يتزايد بصورة مطردة.
وفي حالة أي حرب ستلجأ الولايات المتحدة لمحاصرة الصين بهدف منع وصول أي سلع ضرورية، بما في ذلك النفط والغذاء إليها عبر مضيق ملقا، وهو نقطة مرور بحري رئيسية بين شبه جزيرة ملايو وجزيرة سومطرة الإندونيسية. ويشكك بعض الخبراء في جدوى مثل هذا الحصار بسبب ميل أغلب الدول المحايدة إلى الالتفاف عليه، إلى جانب تمتع الصين باكتفاء ذاتي في العديد من المجالات. ومع ذلك فإن أي حصار على هذا المستوى سيؤدي لاضطراب شديد في سلاسل الإمداد العالمية، وارتفاع في الأسعار، كالذي حدث مع الغزو لروسي لأوكرانيا، في العام الماضي، ولكن على نطاق أوسع.
وأخيراً، يمكن القول إنه من الصعب توقع التداعيات الاقتصادية لمثل هذا السيناريو، لكن كلمة “كارثية” ستطرح نفسها بقوة كوصف دقيق لهذه التداعيات. فتايوان تقود العالم في صناعة أكثر أشباه الموصلات تطوراً وتعقيداً. وأي اضطراب في إمدادات هذه المنتجات من تايوان في حال نشوب حرب صينية أمريكية سيؤدي إلى ارتفاعات جنونية في أسعار أشباه الموصلات، التي باتت حيوية لاقتصاد العالم. كما أن الصين ما زالت مركزاً رئيسياً للإنتاج للعديد من الشركات الصناعية الأمريكية الرئيسية، حيث تمثّل الصين أكثر من 80% من واردات الولايات المتحدة من الهواتف الذكية على سبيل المثال.
معنى ذلك أن أي أزمة كبرى بين واشنطن وبكين بسبب تايوان ستكون لها تداعيات مالية وخيمة، حتى قبل أن تنطلق الرصاصة الأولى فيها. لكن افتراض أن هذا الخطر كاف لمنع تصعيد الحرب الباردة الثانية وتحولها إلى حرب عالمية ثالثة ينطوي على نفس الخطأ الذي وقع فيه المفكرون في الستينيات، الذين باركوا، دون وعي، سباق التسلح النووي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لتعزيز مبدأ “الدمار المتبادل المؤكد” كوسيلة لتجنب نشوب الحرب العالمية الثالثة. ففي هذه المرة يمكن أن تحدث الكارثة الاقتصادية بسبب الحرب حتى قبل أن تبدأ تلك الحرب.
(د ب أ)