منذ ستينيات القرن الماضي حاولت أمريكا التأكيد على أن بإمكان قواتها المسلحة خوض حربين كبيرين في منطقتين مختلفتين جغرافياً في وقت واحد. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لا تفعل الكثير في القتال الفعلي، تشير الحرب بين روسيا وأوكرانيا، والحرب بين “حماس” وإسرائيل إلى أنه يمكن القول إن ما تحدثت عنه أمريكا كان نبوءة.
أوكرانيا وإسرائيل تقاتلان وهما على علم بأن أي إنهاء للدعم الأمريكي لهما ستكون له عواقب وخيمة بالنسبة لقدراتهما على القتال
ويقول نيكولاي كوزانوف، أستاذ مساعد للبحوث في مركز دراسات الخليج بجامعة قطر، وجيمس نيكسي، مدير برنامج روسيا وأوراسيا بالمعهد الملكي للشؤون الدولية ( تشاتام هاوس) البريطاني، في تقرير نشره المعهد، إن الحربين تختلفان إلى حد كبير بالنسبة لأصلهما ومحور تركيزهما. ولكن أوكرانيا وإسرائيل تقاتلان وهما على علم بأن أي إنهاء للدعم الأمريكي لهما ستكون له عواقب وخيمة بالنسبة لقدراتهما على القتال. وفي حالة أوكرانيا ، سوف يؤدي هذا بكل تأكيد إلى هزيمتها في غضون شهور، إن لم يكن أسابيع.
وحاولت إدارة بايدن تأمين دعمها لأوكرانيا في المستقبل، بتضمينها داخل حزمة مساعدات شاملة تبلغ 105 مليار دولار، تم تخصيص 4ر61 مليار دولار منها لأوكرانيا. لكن ما تزال هناك حاجة لموافقة الكونغرس على ذلك، ومن المحتم أن الحرب الجديدة بين إسرائيل و”حماس” تجذب اهتمام السياسيين والإعلام والرأي العام في أمريكا بعيداً عن أوكرانيا.
وفي هذا الصدد، تخدم الحرب الجديدة في الشرق الوسط مصالح الكرملين، إذ إنها تضعف تركيز الولايات المتحدة على روسيا، وتخيّم بظلالها على أنشطتها الماكرة. (فانسحاب روسيا من التصديق على معاهدة حظر التجارب النووية، وتخريب خط أنابيب الاتصال ببحر البلطيق، يحظيان بقدر من التدقيق أقل مما كان يمكن أن يكون عليه الحال خلال الشهر الماضي).
ويرى جيمس نيكسي ونيكولاي كوزانوف، وهو زميل استشاري في برنامج روسيا وأوراسيا في تشاتام هاوس، أن الحرب أيضاً وضعت نهاية لسياسة موسكو القائمة منذ وقت طويل المتعلقة بموازنة علاقاتها في الشرق الأوسط بين إسرائيل والدول المجاورة لها. ونظراً لأن الحرب في أوكرانيا دفعت روسيا بدرجة أكبر نحو الحصول على الأسلحة الإيرانية، لذلك تعتبر تل أبيب الكرملين الآن وسيطاً مشكوك فيه في أحسن الأحوال، وحليفاً لـ “حماس” في أسوأ الأحوال.
وتخدم الحرب بين “حماس” وإسرائيل تماماً الآن ما يردّده الكرملين على نطاق واسع من أنه يعمل كحصن في مواجهة التوسع العدواني الأمريكي.
ولا تتمتع روسيا بنفس الولاءات مثلما هو حال الولايات المتحدة مع إسرائيل، وهو ما يتيح لها فرصة التعبير عن التعاطف بالنسبة لإسرائيل وفلسطين على السواء بطرق تسعى كثير من الدول الغربية، وخاصة أمريكا، أن تتحقق لها.
تخدم الحرب الجديدة مصالح الكرملين، إذ إنها تضعف تركيز الولايات المتحدة على روسيا، وتخيّم بظلالها على أنشطتها الماكرة
ويقول الكرملين، وهناك قدر من التبرير لذلك، إن الولايات المتحدة قوّضت باستمرار الجهود الدولية لحلّ القضية الفلسطينية.
ولكن من المؤكد أن روسيا بالغت بزعمها أن الولايات المتحدة مسؤولة عن كل من هجوم “حماس”، في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وردّ الفعل الإسرائيلي الذي استتبع ذلك. بل إنها حتى اتهمت أوكرانيا بأنها تبيع أسلحة لـ “حماس”، على أمل أن تخلق شقاقاً بين إسرائيل وأوكرانيا.
ويقول نيكسي و كوزانوف إن روسيا لم تحظ مطلقاً بالثقة من جانب الإسرائيليين أو الفلسطينيين، لكن روسيا استغلت التناقضات وأقامت علاقات عمل مع الجانبين عبر السنين، ويرى البعض أنها يمكن أن تكون وسيطاً محتملاً بين إسرائيل والفلسطينيين.
وحتى وقت قريب، حاولت روسيا تطوير علاقات جيدة مع تل أبيب، واعتبرتها شريكاً صامتاً في المنطقة، متجاهلة الهجمات الإسرائيلية ضد من يعملون بالوكالة لحساب إيران في سوريا.
من ناحية أخرى، تدعم موسكو على الدوام حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية. وهي، منذ عام 2022، عضو في ما يسمى بـ” الرباعية”، وهي مجموعة تضم الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا، والتي تهدف إلى دعم عملية التفاوض الإسرائيلية الفلسطينية.
وتعتبر روسيا أكثر اهتماماً بصيغة الرباعية باعتبارها وسيلة سهلة لإظهار قوتها. وأدى تمتع روسيا بمقعد في مجلس الأمن الدولي، وحجمها، وتاريخها، وقوتها الاقتصادية النسبية وأسلحتها النووية، إلى أن تكون لها أهمية دبلوماسية في المنطقة. وسوف يكون لأي وساطة تقودها روسيا، حتى لو فشلت، مكاسب أكبر للكرملين من ” مجرد” التوسط لتحقيق السلام بين الطرفين المتحاربين في غزة. فسوف ينظر إليها بصورة إيجابية من جانب الكثيرين في الجنوب العالمي، ما يعزز خطاب الكرملين.
وعلى أي حال، فإن من المرجح أن تعني الحرب بين “حماس” وإسرائيل نهاية سياسة روسيا القائمة منذ عقود، المتمثلة في تحقيق التوازن بين مختلف الأطراف في الشرق الأوسط.
وفي ضوء ترحيب روسيا بوفد فلسطيني، في موسكو الشهر الماضي، ورفضها إدانة هجوم “حماس” على إسرائيل، وتحالفها الوثيق مع إيران، لم تعد تل أبيب تعتبر روسيا حليفاً، ومن المرجح أن ترفض أن تكون وسيطاً.
الحرب وضعت نهاية لسياسة موسكو المتعلقة بموازنة علاقاتها في الشرق الأوسط بين إسرائيل والدول المجاورة لهاويتحدث خبراء إسرائيليون صراحة عن احتمال أن تكون روسيا قد علمت مسبقاً بهجوم “حماس”، وحتى احتمال مشاركتها غير المباشرة في الإعداد له. وهذا من شأنه كسب روسيا تدريجياً لقلوب وعقول العرب في الجزء العربي من الشرق الأوسط، حيث لم تكن علاقاتها القوية مع “حماس” غائبة عن الأنظار.
وفي المقابل يساعد الجنوب العالمي، وخاصة الشرق الأوسط، روسيا على مواجهة التداعيات الاقتصادية الناجمة عن الصراع مع الغرب، وجذب موسكو إلى الوقوف إلى جانب “حماس” أكثر من وقوفها إلى جانب إسرائيل. ويعني هذا أيضاً توافقاً مع الصين، التي يعتبر موقفها على نطاق واسع موالياً للفلسطينيين، وعاملَ توازن في مواجهة موقف الغرب.
وفي جميع الأحوال، يشعر الشارع العربي بالارتياح لاستغلال موسكو الموقف لصالحها، طالما أن ذلك يجعل الحياة أكثر صعوبة بالنسبة لأنصار إسرائيل ويوجد بدائل في المسرح الدولي.
وبالنسبة لأوكرانيا، فإنه في ظل ميزة أن ” الحق” في جانبها، أدارت اتصالاتها الإستراتيجية ببراعة، خلال الـ15 شهراً الماضية. لكن الحرب بين “حماس” وإسرائيل مشكلة” سيئة” بالنسبة لها في ما يتعلق بموقف حلفائها.تخدم الحرب بين “حماس” وإسرائيل تماماً الآن ما يردّده الكرملين من أنه يعمل كحصن في مواجهة التوسع العدواني الأمريكي وجدير بالذكر أن دعم أمريكا لأوكرانيا بدأ فعلياً مع غزو روسيا واسع النطاق لأوكرانيا. ويمكن بسهولة القول إنه قبل ذلك كانت الولايات المتحدة تابعة لموسكو.
لكن دعم الولايات المتحدة لإسرائيل بدأ منذ أكثر من 60 عاماً. ولا يربط الاتحاد الأوروبي، أو غالبية دول الناتو علاقات قوية بإسرائيل، لكن دعمهم المادي لأوكرانيا ما زال أقل كثيراً من دعم الولايات المتحدة، التي تقدم نحو 70% من إجمالي الدعم. ولا تزال هناك حرب طويلة يتعيّن على أوكرانيا أن تخوضها. ولا شك أن إسرائيل عنصر جديد غير مرحب به بالنسبة لأوكرانيا، وسوف يحتاج الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى أن يكون حذراً في مساره.