طرح عضو الكنيست عن حزب الليكود موشيه بيسيل، هذا الأسبوع مشروع قانون لتهجير أهالي غزة بعنوان «اقتراح قانون اتفاق لاستيعاب سكان من قطاع غزة». وينص القانون على منح كل من ينزح عن القطاع مبلغ 6 آلاف دولار، ومبلغ 10 آلاف دولار للدولة التي تستقبله.ويأتي مشروع القانون من عضو هامشي في الليكود، في ظل حمّى الترانسفير المرافقة للحرب الإجرامية على غزة. وبعد سنوات طويلة من البقاء في الهامش وتحت السطح، عاد التهجير ليصبح مجددا سياسية عملية واستراتيجية مركزية للدولة الصهيونية في حرب الدمار الشامل والإبادة الجماعية. لقد قامت إسرائيل، تحت القصف الوحشي والفظيع، بترحيل ما يربو على 1.8 مليون فلسطيني من بيوتهم إلى مناطق أخرى داخل قطاع غزة، بعد أن فشلت محاولاتها في إبعادهم إلى سيناء، ورفض مصر التعاون في تهجير فلسطينيين إلى أراضيها. في كل الأحوال عاد الترانسفير إلى مكانه المركزي في الفعل السياسي الإسرائيلي وفي التنظير الفكري الصهيوني.
إسرائيل بعد السابع من أكتوبر ذئب جريح ومنفلت، وسياساتها وممارساتها أكثر خطورة من السابق، وهناك حاجة لوقفة فلسطينية وعربية أجرأ من السابق
في الأصل كان التهجير
ليس التهجير مجرد سياسة أو فكرة صهيونية عابرة ووليدة السياق والظروف، بل كان (وما زال) شرطا مسبقا لتطبيق المشروع الصهيوني لإقامة دولة يهودية في فلسطين، التي كانت تسكنها أغلبية عربية. فحتى تُقام دولة يهودية، كان لا بد من توفير أغلبية يهودية، وكان الاستنتاج «المنطقي» للقيادة الصهيونية، أنّه من الضروري واللازم اقتلاع الفلسطينيين من وطنهم، حتى تتمكن من إقامة دولتها. قد يقول قائل بأنه كان بالإمكان، بلا تهجير، إقامة دولة يهودية غير ديمقراطية. هذا صحيح، لكن القيادة الصهيونية أصرت على دولة يهودية وديمقراطية، وهذا يتطلب أغلبية يهودية وإبعاد الفلسطينيين لخلق أغلبية يهودية مصطنعة تنعم بالديمقراطية الداخلية. وهكذا فإن التهجير لم يكن وليد إقامة الدولة اليهودية فحسب، بل كان نتيجة حتمية لبناء صرح «الديمقراطية الإسرائيلية». هي ديمقراطية قامت على الترانسفير، وظلّت تضمره كمبدأ في أحشائها لا يفارقها أبدا حتى لو جرى لحين التستّر عليه. الديمقراطية الإسرائيلية، التي انطلقت من جريمة الاقتلاع والإبعاد وقامت على أساسها، تعود إلى موقع الجريمة مرة أخرى، وتتخذ قراراتها بالقتل الجماعي والتدمير الفظيع واقتلاع 1.8 مليون إنسان من بيوتهم، بالأغلبية وبشكل «ديمقراطي»، ما يثير إعجاب العالم الغربي «المتحضّر»، ولكن النظام الإسرائيلي في حقيقته هو «ديمقراطية مستوطنين»، ويأخذ لنفسه الحق في استعباد، أو استبعاد أهل البلاد الأصليين. تتمحور الحالة الإسرائيلية على «المركزية الإثنية»، وتسعى إلى تجسيد ما تعتقد أنّه المصالح الوجودية للذات، وإلى إشباع غرائزها ونزواتها. ومن شدة تمركز هذه الذات حول نفسها، لا تحس بمعاناة الآخر ولا تبالي بها. وإذ هي تجثم على صدر الفلسطيني، نراها تقيم الدنيا ولا تقعدها إن هو تحرّك قليلا من شدة الألم، وتتهمه فورا بالإرهاب وحتى باللا سامية. ولكن هناك من يرى أن الجلوس فوق صدر الفلسطيني لم يعد مريحا، وأن من المفضل أن يبتعد الفلسطيني ليتخلّص من معاناته، وحتى لا يزعج الإسرائيلي في قعدته.
وضوح غير أخلاقي
كان موضوع الغلاف للملحق الثقافي (وليس المحلق السياسي) لصحيفة «مكور ريشون»، حول غزة وجاء بعنوان «أنا لا أسميه ترانسفير: ثلاثة مفكّرين عن حلول اليوم التالي». وكان بين المشاركين، الدكتور يوآف شورك رئيس تحرير مجلة «هشيلوح»، الذي أكّد ضرورة منع الغزيين من العودة إلى بيوتهم. ودعا في كلامه الى تغيير المصطلحات: «أنا عمدا لا استعمل كلمة «ترانسفير» ليس لدلالتها، بل لأن الأمر ليس كذلك حقا.. الحديث هو عن «تحرير الغزيين» من السجن الذي ساهموا في بنائه بأيديهم، والكثيرون منهم يريدون الخروج منه إلى الحرية. وعلى عكس تعبير «ترانسفير» المهدد، نحن نتحدث عن ناس شنّوا علينا حربا، وجرى إخلاؤهم من بيوتهم، ولا نتحدث عن تهجير قسري». «المفكّر» الثاني الدكتور يعقوب بن شيمش، قال «لا تذهبوا بعيدا إلى كاهانا، هذا تماما بن غوريون في حرب التحرير. إبعاد العرب كان الهدف. نحن نعرف ذلك اليوم من خلال مراجعة بروتوكولات تلك الفترة. التهجير واجب أخلاقي، هكذا كان في 48 وهكذا اليوم». أما «المفكرة» جيتا حزاني- ملكيئور، فذهبت إلى أنه إذا لم يكن كل الغزيين مؤيدين لحماس فسيكون «نقلهم الى دول أخرى عملية إنقاذ إنسانية من حكم فظيع»، وكم بالحري «إذا كانوا جميعا مع حماس». لجأ الثلاثة في تسويغ كلامهم إلى مصطلح «الوضوح الأخلاقي»، الذي أصبح المبدأ الناظم للخطاب الفكري والسياسي الإسرائيلي في مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول. ويعود هذا المبدأ إلى سياسة المحافظين الأمريكيين، وجرى تداوله في كتاب السياسي والمفكر الأمريكي اليميني المحافظ ويليام بينيت «لماذا نحارب: الوضوح الأخلاقي والحرب على الإرهاب». ويرمز المصطلح إلى شبكة مركّبة من الادعاءات والمقولات أهمها: أولا، تقسيم العالم الى عالمين: عالم الشر وعالم الخير (وطبعا أمريكا وإسرائيل، مهما فعلتا، فهما في جانب الخير)، وثانيا رفض أي محاولة لتفسير أو تفهم أسباب ودافع النشاط المعادي للولايات المتحدة (وإسرائيل) باعتبارها نوعا من الضعف الأخلاقي، إن لم تكن دعما للإرهاب، وثالثا فإن من يعارض الحرب ضد الإرهاب متهم باعتماد النسبية الأخلاقية أو المساواة بين الخير والشر، ورابعا، فإن ما قد يصيب المدنيين خلال الحرب على الإرهاب هي أضرار جانبية غير متعمدة في إطار الدفاع عن أمن الأخيار. وقد ورد هذا التعبير مؤخّرا في خطابات الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ، وقام رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت بتوبيخ صحافية أمريكية أحرجته بأسئلتها، قائلا «ليس عندك وضوح أخلاقي». يقتضي الوضوح الأخلاقي الإسرائيلي قتل أكثر من ستة آلاف طفل وتدمير عشرات الآلاف من المنازل وتهجير ما يزيد عن 1.8 مليون إنسان، وعلى أساسه تندفع بعض النخب الفكرية الصهيونية للدعوة بأن يكون هذا التهجير دائما وإلى خارج حدود غزة. هذا بالطبع وضوح، لكنه بالتأكيد وضوح غير أخلاقي، فمن يقوم بهذه الأعمال الفظيعة، أو يدعمها يرتكب بوضوح جريمة ضد الإنسانية، كما ينص بوضوح أيضا القانون الدولي الإنساني.
الترانسفير في المركز
تراكم في الأسابيع التي مضت منذ السابع من أكتوبر عدد كبير من المقالات والتصريحات والمخططات الداعية إلى تنفيذ الترانسفير، منها مشروع رسمي لوزارة المخابرات الإسرائيلية لترحيل أهالي غزة إلى سيناء بشكل دائم، ومنها مقال مشترك في «وول ستريت جورنال» لعضوي كنيست: رام بن براك من حزب الوسط «يش عتيد»، والنائب السابق لرئيس الموساد، وداني دانون من حزب الليكود، والممثل السابق لإسرائيل في الأمم المتحدة، الذي تضمن دعوة لترانسفير «طوعي» لأهالي غزة. لقد حاولت إسرائيل في البداية ترحيل الغزيين إلى سيناء، وقام نتنياهو باتصالات دولية حثيثة للضغط على مصر للقبول بذلك، وقد وافقه بايدن بادعاء «توفير ممر إنساني آمن» لحماية المدنيين، كما كان في أرمينيا وأوكرانيا وسوريا. وجرت في هذا الإطار محاولة لاستغلال الوضع الاقتصادي الصعب في مصر وإغرائها بشطب ديونها الخارجية. وكان الرفض المصري هو الذي منع تنفيذ هذا المشروع، الذي يعد جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية وفق معاهدة جنيف الرابعة. لقد ارتفعت دعوات قوية في إسرائيل لجعل الكارثة الإنسانية أكثر كارثية، حتى تضطر مصر لفتح حدودها لإنقاذ الناس، ولكي يكون العالم مجبرا للتعاون في «التخفيف» من معاناة الغزيين، عبر تهجيرهم خارج القطاع، ولكن حتى لو لم يتم ذلك، تبقى نكبة التهجير الداخلي في غزة فظيعة ومرعبة، ويبدو أن إسرائيل لن تسمح للناس بالعودة إلى بيوتهم في المستقبل القريب، هذا إذا بقيت لهم بيوت أصلا.
بموازاة ما يحدث في غزة، بدأ اليمين المتطرف بالدعوة إلى نقل «تجربة» غزة الى الضفة، وتجري في أوساطه بشكل متواصل عملية وضع الأسس الفكرية والسياسية والعملياتية لمخططات ومشاريع التطهير العرقي في الضفة الغربية أيضا. إسرائيل بعد السابع من أكتوبر هي ذئب جريح ومنفلت، وسياساتها وممارساتها أكثر خطورة من السابق، وهناك حاجة لوقفة فلسطينية وعربية أجرأ من السابق.