الانتخابات المحلية فى العراق.. قوى الإطار تسيطر على مجالس المحافظات

الانتخابات المحلية فى العراق.. قوى الإطار تسيطر على مجالس المحافظات

نجحت الحكومة العراقية برئاسة محمد شياع السودانى فى إجراء انتخابات مجالس المحافظات فى 18 ديسمبر 2023؛ بعد توقف دام نحو 10 سنوات منذ آخر انتخابات مماثلة تم إجراؤها عام 2013؛ نتيجة لعدم الاستقرار الأمنى والسياسى، ووقوع العديد من المدن تحت سيطرة تنظيم “داعش” خلال الفترة (2014- 2017).

وشهدت الانتخابات المحلية مشاركة العديد من القوى السياسية الشيعية والسنية. وقد عبر رئيس الوزراء شياع السودانى عن أهميتها فى تصريحاته التى أدلى بها خلال اقتراعه بأنها “تمثل ركناً مهماً لتطبيق اللامركزية الإدارية، وتمثيل أبناء المحافظات فى الحكومات المحلية”.

وتتمتع مجالس المحافظات بعدة صلاحيات أبرزها؛ إصدار التشريعات المحلية وفقاً لآلية اللامركزية الإدارية بشرط أن لا تتعارض مع القوانين الاتحادية، ولا مع عمل السلطات الاتحادية. كما أنها لا تخضع لسيطرة أو إشراف الجهات التنفيذية كالوزارات مما يكسبها القدرة على اتخاذ القرار بصورة منفردة، لكنها تخضع لرقابة مجلس النواب بصورة مباشرة.

ويلاحظ أن الانتخابات لا تشمل إقليم كردستان الذى يتمتع بنمط من الاستقلال الذاتى وتربطه بالحكومة المركزية علاقة فيدرالية، وله نظامه الانتخابى المنفرد. ويستثنى من ذلك محافظة كركوك – إحدى المناطق المتنازع عليها بين الحكومة المركزية وحكومة الإقليم – والتى تخضع للانتخابات التى تجريها الحكومة الاتحادية منذ عام 2017، بعد فشل محاولة الانفصال التى تبناها الإقليم، وضمت الحكومة المركزية فى بغداد المحافظة إلى نطاق سلطتها منذ التاريخ المذكور.

معطيات مُحفِّزة
تأتى الانتخابات المحلية (مجالس المحافظات) وسط عدة معطيات فى المشهد السياسى العراقى قد تفسر أسباب نجاح حكومة السودانى فى إجرائها فى موعدها المتفق عليه ومنها؛

1- خفوت حالة الاحتقان السياسى وتراجع مؤشراتها إلى حد كبير مع مرور 18 شهراً على تولى السودانى منصبه فى مايو 2022؛ كمرشح لقوى الإطار التنسيقى وبدعم من تحالف إدارة الدولة الذى يضم قوى شيعية وسنية وكردية، وما يحمله هذا التراجع من مؤشرات بشأن “توازن القوى” وإمكانية إجراء الانتخابات البرلمانية المقرر لها فى 2025.

2- نجاح البرلمان الاتحادى فى إقرار الميزانية والمخصصات المالية لمجالس المحافظات فى يوليو 2023، الأمر الذى دفع القوى السياسية إلى رفع وتيرة مطالبتها بضرورة إجراء الانتخابات المحلية فى موعدها دون تأجيل؛ بهدف العودة إلى إحكام السيطرة على مجالس المحافظات وشئونها المالية، ومن ثم السيطرة على الحكم المحلى، تمهيداً لمرحلة أكثر تقدماً تنعكس نتائجها فى الانتخابات البرلمانية المقبلة.

3- استمرار مقاطعة التيار الصدرى لكل الفعاليات السياسية استكمالاً لمسار الانسحاب من المشهد السياسى الذى بدأه فى أغسطس 2022، مما فتح المجال أمام القوى السياسية الشيعية المناوئة له من قوى الإطار التنسيقى إلى العودة وبقوة إلى السيطرة على مجالس المحافظات، عبر آلية الانتخابات.

4- دعم المرجعية الدينية فى النجف لمسار استكمال الاستحقاقات الدستورية بإجراء الانتخابات المحلية، بالرغم من مقاطعة أحد أهم رموز القوى السياسية/ الدينية لها، وهو التيار الصدرى، وانعكس ذلك فى مشاركة عدد من رموز الحوزة العلمية والمرجعية الدينية فى عمليات الاقتراع .

5- قرارات مواتية صادرة عن المحكمة الاتحادية العليا بجواز عودة انتخابات المجالس المحلية “بوصفها واردة بالنص فى الدستور العراقى”. وجدير بالذكر هنا، أن إلغاء مجالس المحافظات جاء بعد موجة الاحتجاجات الشعبية التى شهدتها العراق فى أكتوبر 2019، خاصة بعد فشلها فى علاج مشاكل الحياة اليومية لسكان المحافظات لاسيما فى مجال الكهرباء، فضلاً عن ضلوعها فى قضايا فساد مالية وإدارية، ناهيك عن ضخامة مواردها المالية التى لم يتم استخدامها لصالح تطوير البنى التحتية فى المحافظات، وإنما وظفت لصالح ضمان نفوذ القوى السياسية المسيطرة على المحافظات آنذاك.

دلالات النتائج
عكس انخفاض مستوى المشاركة فى الاقتراع – شارك حوالى 16 ملايين مواطن من إجمالى 23 مواطن لهم حق الاقتراع وفقاً لبيانات المفوضية العليا للانتخابات- عدم قناعة المواطن العراقى بقدرة مجالس المحافظات على القيام بدور جديد يحقق تطلعاته فى معالجة مشكلات حياته اليومية، وحقه فى التمتع بثمار بنية تحتية وإدارية تمكنه من العيش فى نمط من الحياة الكريمة، وذلك قياساً على الصورة الذهنية المعتادة لديه عن مجالس المحافظات السابقة، والتى يراها سبباً جوهرياً فى معاناته الحياتية، بخلاف اعتبارها مصدراً رئيسياً للمحسوبية والفساد المالى والتجاوز الإدارى.

ويتكون مجلس المحافظة من 10 مقاعد يضاف إليه مقعد واحد لكل 200 ألف نسمة فى المحافظات التى يزيد عدد سكانها عن مليون نسمة. وقد أظهرت النتائج الأوّلية – حتى تاريخه لم تحسم نتائج 3 محافظات هى بغداد وديالى وصلاح الدين – ووفقاً للمفوضية العليا للانتخابات، تقدم قوى الإطار التنسيقى فى معظم المحافظات الجنوبية عبر قوائم انتخابية ثلاثة هى: قائمة تحالف “نبنى” وتضم منظمة بدر لهادى العمرى وعصائب أهل الحق للخزعلى، وقائمة ائتلاف الدولة لنورى المالكى، وقائمة تيار قوى الدولة الوطنية لعمار الحكيم وحيدر العبادى. وبالفعل حصلت قوائم الإطار التنسيقى على 101 مقعد من أصل 285 مقعد لمجالس المحافظات، وهى كتلة تمكنها من الحصة الأكبر بشأن تشكيل الحكومات المحلية. وقد تصدرت قائمة منظمة بدر وعصائب أهل الحق نتائج قوى الإطار، تلتها قائمة ائتلاف إدارة الدولة لنورى المالكى.

وقد أظهرت النتائج تكريس الوجود السياسى لعدد من الأحزاب التقليدية ورموزها داخل مجالس المحافظات، ومنهم: نورى المالكى رئيس ائتلاف دولة القانون فى بغداد، ومحمد الحلبوسى رئيس البرلمان المقال وزعيم ائتلاف تقدم، حيث تفوق فى الأنبار وتقدم أيضاً فى بغداد، وكذلك الأمر بخصوص محافظ البصرة، ومحافظ كربلاء. بينما فقد التيار الصدرى منصب المحافظ فى ميسان والنجف نتيجة لمقاطعة التيار للانتخابات. واستفادت قوى الإطار التنسيقى من هذا الغياب فى المحافظتين، حيث تقدمت كتلة عصائب أهل الحق فى محافظة ميسان، ومن المتوقع أن تتنافس قوى الإطار التنسيقى التى حققت نتائج وازنة فى النجف على منصب المحافظ فيها.

ويلاحظ أن تقدم الحلبوسى فى بغداد، أثار مخاوف قوى الإطار التنسيقى من فقدان المكون السياسى الشيعى حصرية منصب محافظ بغداد الذى تحتكره منذ عام 2003. ويعد تقدم الحلبوسى سواء فى الأنبار – التى حسم نتائجها – أو فى بغداد التى تقدمت نتائجه فيها على نتائج نورى المالكى، بمثابة رسالة موجهة من قبل المواطنين (السنة) الذين رأوا فى إقالة الحلبوسى من منصبه كرئيس للبرلمان – بتحالف كل من خصومه السنة والشيعة على حد سواء وبقرار من المحكمة الاتحادية العليا – نوعاً من محاولات حرمانه من التنافس فى الانتخابات المحلية.

ولفت التقدم الذى أحرزه تيار “تقدم” للحلبوسى فى بغداد نظر الإطار التنسيقى فقرر تشكيل “جبهة موحدة” للتفاوض فى جميع المحافظات بشأن تشكيل المجالس المحلية فيها، بهدف ضمان الأغلبية المطلقة – النصف زائد واحد – التى تكفى لحسم منصب المحافظ لصالحها. فى المقابل وعلى جهة التيار السياسى السنى أعلن الحلبوسى – التى حسمت قائمته الانتخابات فى الأنبار وتقدمت فى بغداد وحققت نتائج نسبية فى ديالى وكركوك – انفتاحه على جميع القوى السياسية فى محافظة بغداد سواء من التيارات السنية الأخرى أو الأحزاب الشيعية فى الإطار التنسيقى؛ بهدف تشكيل مجلس محلى قوى “يركز أهدافه على تقديم الخدمات” على حد تعبيره. ويلاحظ هنا، أن التيار السنى منقسم بين اتجاهين أحدهما يمثله تيار “تقدم” للحلبوسى ويتسق فى رؤياه السياسية مع تيار “السيادة” لخميس الخنجر. أما الثانى، فيمثله حزب “الجماهير الوطنية” بزعامة أحمد الجبورى، وتحالف “العزم” بزعامة مثنى السامرائى، وتحالف “الحسم” بزعامة وزير الدفاع ثابت العباسى.

وبالرغم من الحسابات الخاصة لكل من التيارات الثلاثة التى تتعارض أحياناً مع تيار “تقدم” و”السيادة”، إلا أن النتائج المتقدمة التى حققها الحلبوسى “تيار تقدم” دفع نظرائه فى التيارات السنية الأخرى إلى خيار “التفاهمات المشتركة” بهدف التنسيق فى تشكيل مجالس المحافظات. وبصفة عامة فإن كل الكتل الفائزة ستسعى إلى اتفاق مع غيرها من القوى لتوزيع المناصب المحلية –منصبى المحافظ ورئيس المجلس المحلى- فى كل محافظة على حدة.

في مقابل تصدر الأحزاب التقليدية نتائج الانتخابات المحلية سجلت التيارات المدنية والأحزاب الناشئة من رحم حراك أكتوبر 2019، خسارة كبيرة فى الانتخابات نفسها؛ حيث حصلت على 6 مقاعد فى جميع المحافظات؛ ما يعنى عدم قدرتها على لعب أى دور من شأنه التأثير على “توازنات القوى” بين الأحزاب السياسية داخل المحافظات.

المشهد السياسى بعد الانتخابات المحلية
عكس نمط التصويت الانتخابى فى الانتخابات المحلية التصويت على أساس “هوية المكونات المحلية” للمحافظات؛ وكان أكثر انعكاساً فى محافظات: كركروك وديالى ونينوى؛ حيث تتميز بتنوع فى هوية سكانها ما بين شيعة وسنة وأكراد وتركمان. فضلاً عن أن تقدم الحلبوسى فى بغداد أثار الجدل حول “هوية بغداد” التى سجلت نمطاً تصويتياً نشطاً فى أوساط الناخبين السنة.

وثمة تساؤلات حول مدى تأثير نتائج الانتخابات المحلية على المشهد السياسى العام فى العراق. فثمة آراء تقول بأن غياب التيار الصدرى عن المشهد السياسى، وخسارة القوى المدنية فى الانتخابات المحلية، وتصدر قوى الإطار التنسيقى للنتائج، كلها تؤشر على أن خريطة الانتخابات البرلمانية المقبلة فى 2025 لن تأتى بنتائج مغايرة عن تلك النتائج على المستوى المحلى؛ لاسيما وأن تصدر قوى الإطار لنتائج الانتخابات المحلية يعنى أنها باتت قادرة على أن تشكل كتلة موحدة تستعيد بها هيمنتها عبر امتلاكها للأغلبية.

بينما يتجه آخرون إلى القول بأنه من المحتمل أن يوجد “تغيير نسبى” يقتصر على تغيير فى خريطة المشهد السياسى المحلى؛ أى على مستوى التفاعلات بين القوى السياسية الفائزة فى الانتخابات المحلية داخل مجالس إدارة هذه المحافظات، دون أن ينطبق ذلك على التفاعلات بين القوى نفسها على مستوى الدولة ككل. فضلاً عن رأى ثالث يقول بأن التأثير سيتوقف على حجم استثمار القوى الفائزة فى الانتخابات المحلية لفوزها وتوظيفه فى مسارين: الأول، معادلة الانتخابات البرلمانية المقبلة، وأنماط التحالفات التى سترتبط بها. والثانى؛ السعى إلى تقاسم السلطة مع باقى القوى السياسية بشأن إدارة مجالس المحافظات؛ لاسيما فى العاصمة بغداد وبعض المحافظات فى غرب وشمال البلاد.

فى الأخير، يتضح أن الانتخابات المحلية فى العراق لتشكيل مجالس المحافظات لم تأت بتغيير كبير فى الخريطة السياسية لتفاعلات القوى الرئيسية بها من الشيعة والسنة، حيث احتفظت تلك القوى بوزنها الانتخابى فى المحافظات دون تغيير حاد.