من وجهة نظرى المتواضعة لن يعود توازن القوة فى القمة الدولية إلى ما كان عليه قبل تسعين يوما، ولن تعود تراتيب المكانة فى النظام الإقليمى العربى إلى سابق عهدها، ولن تستعيد الصهيونية بعض وربما أكثر ما فقدته من قدسية ونفوذ فى كثير من دول الغرب نتيجة تهور وتعصب سياسيين فى إسرائيل، ولن تعود أفريقيا السمراء إلى أوضاع سمحت باستباحة ثرواتها أو مهدت لإفريقيين أقل سمرة فى شمال القارة باحتكار القيادة والتوجيه.
• • •
أبدأ بالاعتذار عن قصور فى العنوان. فالعنوان ليكون دقيقا كان يجب ألا يغفل أو يتغافل عن حقيقة أن الحرب الناشبة ضد فلسطين لا بد وأن تمس دولا فى الجوار ودولا للضرورة التى تفرضها قواعد الاشتباك التقليدية والمتوارثة فى هذه المنطقة. بالتالى هى حرب ناشبة بكل أنواع الأسلحة ضد فلسطين وضد جاراتها الأقرب وحتى الأبعد. أيضا هى حرب كغيرها من الحروب الكبرى فى التاريخ، وهى فى نظرى واحدة من هذا النوع من الحروب، حرب كاشفة عن نهاية مرحلة. لا شك أن وجود أمريكا فى هذه الحرب كان أحد العناصر اللازمة لتثبيت صفة الحرب الكبرى على عديد الأعمال الهجومية والعدوانية ضد الشعب الفلسطينى خلال الأسابيع الأخيرة. هذا الوجود لم يكن عفويا وهناك ما يثبت وجود توطؤ فى حال وجدت الحرب طريقها إلى محكمة دولية ذات يوم فى المستقبل. تعددت أركان هذا التواطؤ، منها على سبيل المثال:
أولا: نذكر بكثير من الاستغراب والاندهاش ولن نكون آخر المندهشين، نذكر ما نقلته وكالات الأنباء والتصريحات الرسمية عن اشتراك الرئيس الأمريكى جوزيف بايدن فى جلسة لمجلس الحرب الإسرائيلى فى الساعات الأولى من نشوب هذه الحرب. كان مبعث الاندهاش أن الرئيس كان قد اطلع على خطط تجهز للتخلص من سكان فى قطاع غزة وإجلاء آخرين، وأنه كان قد أعلن قبل أيام أنه صهيونى العقيدة، بمعنى آخر التزم بأن بلاده فى عهده شريك متضامن فى كل حرب تقرر إسرائيل شنها فى أى مكان وتحت أى حجة. وهو التزام لا يلتزم بمثله تلقائيا أو خارج المواثيق رئيس أمريكى مع دولة عضو فى الأحلاف التى أقامتها أمريكا كالناتو وغيره.
ثانيا: لم يقتصر الأمر على موقف رئيس الدولة الأمريكية. إذ إن وزير خارجيته الذى أساء إلى سمعة الدبلوماسية الأمريكية حين تعمد التعريف بنفسه كيهودى الديانة فى أول رحلة له بعد نشوب الحرب إلى الشرق الأوسط. أثار هذا الإعلان قلقا مبررا داخل وزارة الخارجية التى راحت منذ سنوات تعانى من سلوكيات تمييز عرقى ودينى، مثلها مثل أجهزة أخرى فى الدولة الأمريكية. أعتقد أن هذه المعاناة الساكتة وجدت فى شراكة أمريكا فى حرب لا إنسانية وربما عرقية فى أحد أهدافها دافعا للتصريح علنا بهذه المعاناة. ثم وجدت ما يشجعها فى قرار وزير الخارجية غير المسبوق حسب ما سمعنا إرسال أسلحة إلى إسرائيل بدون العودة إلى الكونجرس وبعيدا عن وعى الرأى العام الأمريكى. ربما فات على الوزير أن دولا فى أوروبا وخارجها سوف تفسر هذا القرار بأنه أزاح أوكرانيا من موقع الأسبقية فى اهتمامات الحلف الغربى لصالح حرب إسرائيل ضد فلسطين.
ثالثا: بهذا المعنى وبهذه التصرفات صارت الولايات المتحدة فى نظر التاريخ طرفا فى أحدث عملية إبادة بشرية. الأهم من وجهة نظرى أن الولايات المتحدة أراها من موقعى تتخلى طوعيا وفى أحد أشد مسيرتها حرجا عن دور هو الأسمى فى تاريخ العلاقات الدولية منذ أقدم العصور، أراها وهى فى مرحلة انحدار لا شك فيه وصعوبات داخلية راهنة ومتوقعة لا قبل لها بمثلها، أراها بسلوكيات مضطربة ومستوى يزداد تدنيا لمرشحى الرئاسة فى الانتخابات القادمة ومثال على هذا المستوى المرشحة الهندية الأصل ورئيس وفد أمريكا فى الأمم المتحدة سابقا نيكى هالى، رأيناها، وأقصد أمريكا، فى تجارب فشل مذهلة فى أفغانستان والعراق وفيتنام، ونراها تتخلى عن وظيفة صانعة وراعية مرحلة هى الأطول بين مختلف مراحل «السلم الدولى»، مرحلة «السلم الأمريكى» Pax Americana.
رابعا: أتصور، للأسف، أن أمريكا باشتراكها فى حرب تشنها وتقودها فعليا إسرائيل أساءت إساءة بالغة إلى سمعتها ومكانتها. صارت على المحك «إنسانية» أمريكا وديموقراطيتها، وبخاصة بعد التعتيم على قرار تزويد إسرائيل بأسلحة فى غمار حملة إبادة صريحة ومتعمدة. أيضا صار يقينا شك دول الجنوب فى انتهاج واشنطن سياسة القيم المزدوجة. لم يمر علينا مرور الكرام قرار حكومة جنوب أفريقيا اللجوء إلى محكمة دولية شاكية أعمال الإبادة الجارية فى فلسطين. هذا القرار يعنى فى نظرنا أن أفريقيا جديدة تحاول إثبات وجودها واستعادة حقوقها المنهوبة والتمرد على تقاليد الهيمنة. ليست أفريقيا وحدها بل نرى حركة غير عادية فى أمريكا الجنوبية وبخاصة فى المكسيك والبرازيل. بمعنى آخر نرى عالم الجنوب ينهض. ينهض معه وللغرابة الشديدة شباب فى مختلف أنحاء العالم متآلف مع شعوب الجنوب وإن عن بعد. الاستثناء الباحث عن دراسة تفسر وتحلل ولا تعذر أو تبرر هو حال العالم العربى نظاما إقليميا رسميا أو حالة أمة وشعوبا مرهقة ولكن بوعى جديد فى طور النهوض وقبلها الاستفاقة.
• • •
قبل يومين كانت بداية العام الجديد. أول أيام العام الجديد يعنى السؤال المتكرر فى اليوم الأول من كل عام عن الاستمرار والتغيير فى توجهات العام المنفرط. هل يستمر السلم الأمريكى فى تدحرجه بعيدا عن الأهداف الإنسانية والديموقراطية ومقتربا من أساليب فاشية ووحشية ومدافعا عن تفوق عنصر أو عرق بعينه؟. هل تستمر الصين وروسيا وكوريا الشمالية، لسنوات قادمة وليس فقط العام الذى بدأ اليوم، منشغلة بتعظيم قوتها المادية والعسكرية منتهزة فرصة انشغال أمريكا بتحقيق أهداف إسرائيل التوسعية، وكل من الثلاثة مستفيد من استمرار انحدار المكانة الأخلاقية للقطب الأوحد الأمريكى ومن نهوض عالم الجنوب والتوسع المستمر فى تجمع البريكس؟. هل يستمر النظام العربى فى العام الجديد فى سعيه ابتكار مظلة شرق أوسطية أو إسلامية أو أفروآسيوية يحتمى بها أو يكتسب بها عزوة خلال فترة الاستفاقة أو خلال فترة استئناف مسيرات البحث عن الذات أو خلال فترة إعادة ترتيب البيت العربى، كل فترة على حدة أو كلها مجتمعة فى مرحلة واحدة؟