وهم حل الدولتين

وهم حل الدولتين

US President Bill Clinton (C) stands between PLO leader Yasser Arafat (R) and Israeli Prime Minister Yitzahk Rabin (L) as they shake hands for the first time, on September 13, 1993 at the White House in Washington DC, after signing the historic Israel-PLO Oslo Accords on Palestinian autonomy in the occupied territories. AFP PHOTO J.DAVID AKE (Photo by J. DAVID AKE / AFP) (Photo credit should read J. DAVID AKE/AFP/Getty Images)

أدى الرد الإسرائيلي المدمر على الهجوم المفجع الذي شنته حركة “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) إلى كارثة إنسانية. خلال الأيام المئة الأولى من الصراع، ألقت إسرائيل على قطاع غزة متفجرات تصل قوتها التدميرية بالكيلوطن [وحدة تُقاس بها قوة السلاح النووي التفجيرية، وتوازي قوة ألف طن من مادة تي أن تي] إلى ما يعادل تأثير ثلاث قنابل نووية مجتمعة، مما أسفر عن مقتل ما يقارب 24 ألف فلسطيني، من بينهم أكثر من 10 آلاف طفل، وجرح عشرات الآلاف الآخرين، وتدمير أو تخريب 70 في المئة من منازل غزة، وتشريد 1.9 مليون شخص، أي حوالى 85 في المئة من سكان القطاع. وفي هذه المرحلة، كان ما يقدر بنحو 400 ألف من سكان غزة عرضة لخطر المجاعة، وفقاً للأمم المتحدة، وأن الأمراض المعدية كانت تتفشى بسرعة. وخلال الفترة نفسها في الضفة الغربية، قُتل مئات الفلسطينيين على يد المستوطنين الإسرائيليين أو القوات الإسرائيلية، واعتُقل أكثر من 3 آلاف فلسطيني، من بينهم عدد كبير ممن لم توجه إليه أي تهمة.

منذ البداية تقريباً، كان من الواضح أن إسرائيل لم تضع هدفاً نهائياً لحربها في غزة، مما دفع الولايات المتحدة إلى اللجوء إلى نهج مألوف. في الـ29 من أكتوبر، بينما كان الجيش الإسرائيلي يشن غزوه البري، قال الرئيس الأميركي جو بايدن “من الضروري أن نرسم رؤية مستقبلية لما سيأتي بعد ذلك. ومن وجهة نظرنا، يجب أن تتمحور تلك الرؤية حول حل الدولتين”. وبعد ثلاثة أسابيع، في أعقاب الدمار الهائل الذي لحق بشمال غزة، قال بايدن مرة أخرى: “لا أعتقد بأن الصراع سينتهي من دون تحقيق حل الدولتين”. وفي التاسع من يناير (كانون الثاني)، أي بعد أكثر من ثلاثة أشهر على بدء الحرب، كرر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن هذه العبارة، قائلاً للحكومة الإسرائيلية إن الحل الدائم “لا يمكن التوصل إليه إلا من خلال نهج إقليمي يتضمن مساراً يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية”.

إن هذه الدعوات إلى إحياء حل الدولتين ربما تنبع من نوايا حسنة. فلأعوام عدة، كان حل الدولتين هو الهدف المعلن للدبلوماسية التي تقودها الولايات المتحدة، ولا يزال يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه الترتيب الوحيد الذي يمكن أن يلبي بصورة معقولة التطلعات الوطنية لشعبين يعيشان في أرض واحدة. كذلك، فإن إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل يشكل أيضاً المطلب الأساسي لغالبية الحكومات العربية والغربية، فضلاً عن الأمم المتحدة وغيرها من الهيئات الدولية. ونتيجة لذلك، لجأ المسؤولون الأميركيون إلى خطابات ومفاهيم مألوفة من العقود السابقة في سبيل العثور على بصيص أمل وسط الدمار الكبير. ونظراً إلى فظائع هجوم السابع من أكتوبر، والحرب الدائرة في غزة، من الواضح أن الوضع الراهن لا يمكن أن يستمر. ويجادل أولئك المسؤولون الأميركيون بأن هناك فرصة تلوح في الأفق الآن لتحقيق تسوية أكبر، إذ إن واشنطن تستطيع أن تحث الإسرائيليين والفلسطينيين على تبني الهدف البعيد المنال المتمثل في وجود دولتين تتعايشان بسلام جنباً إلى جنب بينما تعمل في الوقت نفسه على تحقيق السلام بين إسرائيل والعالم العربي.

لكن فكرة دولة فلسطينية تنشأ من تحت أنقاض غزة ليس لها أي أساس على أرض الواقع. قبل فترة طويلة من هجوم السابع من أكتوبر، كان من الواضح أن العناصر الأساسية اللازمة لحل الدولتين لم تعُد موجودة. لقد انتخبت إسرائيل حكومة يمينية ضمت مسؤولين يعارضون علناً حل الدولتين، ولم تعُد القيادة الفلسطينية المعترف بها من الغرب، أي السلطة الفلسطينية، تحظى بشعبية كبيرة بين الفلسطينيين. بطريقة موازية، توسعت المستوطنات الإسرائيلية إلى درجة أصبح معها من شبه المستحيل إنشاء دولة فلسطينية مترابطة جغرافياً وقادرة على البقاء. كما أنه وعلى مدى ربع قرن من الزمن تقريباً، لم تكن هناك أية مفاوضات إسرائيلية- فلسطينية جادة، ولم تؤيد أي جماعة سياسية إسرائيلية مؤثرة استئناف تلك المفاوضات. ثم أدى الهجوم الصاعق الذي شنته “حماس” على إسرائيل، وما تلا ذلك من تدمير إسرائيل لغزة على مدى أشهر، إلى تفاقم هذه الاتجاهات وتسريعها.

لذا، فإن الحديث مرة أخرى عن حل الدولتين من شأنه أن يخفي واقع الدولة الواحدة الذي من المتوقع أن يزداد رسوخاً في أعقاب الحرب. في الحقيقة، سيكون من الجيد أن يتمكن الإسرائيليون والفلسطينيون من التفاوض على التقسيم السلمي للأرض والشعب إلى دولتين مستقلتين، بيد أن هذا الأمر غير قابل للتحقيق. وفي تصريحات علنية متكررة في يناير، أوضح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه لا يعارض قيام دولة فلسطينية فحسب، بل يعتزم أيضاً، على حد تعبيره، “فرض سيطرة أمنية إسرائيلية كاملة على جميع الأراضي الواقعة غرب [نهر] الأردن”، وهذه الأراضي تشمل القدس الشرقية والضفة الغربية وغزة. وبعبارة أخرى، يبدو أنه من المرجح أن تستمر إسرائيل في حكم ملايين الفلسطينيين غير المواطنين وإخضاعهم لنظام يشبه الفصل العنصري، يحرمهم من حقوقهم الكاملة إلى أجل غير مسمى.

ويتحمل السياسيون الإسرائيليون القسم الأعظم من المسؤولية عن هذا الواقع المرير الذي تطور على مدى عقود من الزمن، وقام القادة الفلسطينيون الضعفاء والحكومات العربية غير المبالية بدور في ذلك أيضاً. لكن أكثر طرف خارجي يتحمل اللوم هو الولايات المتحدة التي دعمت الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل ودافعت عنها. لا يمكن لإدارة بايدن أن تحقق السلام بمجرد الدعوة إليه، ولكن يمكنها أن تدرك أن خطابها حول مستقبل حل الدولتين فشل، فتتحول نحو نهج يركز على التعامل مع الوضع القائم كما هو. وهذا يستلزم ضمان التزام إسرائيل بالقانون الدولي والمعايير الليبرالية لجميع الناس في الأراضي الخاضعة لسيطرتها، والوفاء بتعهد بايدن بتعزيز “تدابير متساوية من الحرية والعدالة والأمن والرخاء للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء”. ومن المرجح أن مثل هذا النهج الذي يجعل سياسة الولايات المتحدة أكثر توافقاً مع تطلعاتها المعلنة، سيؤدي إلى حماية كل من الإسرائيليين والفلسطينيين وخدمتهم، ودعم المصالح الأميركية العالمية.

الظروف المؤدية إلى الفوضى

يوصف الهجوم المروع الذي شنته “حماس” في السابع من أكتوبر في بعض الأحيان بأنه “غزو” اخترق فيه المسلحون “الحدود” بين إسرائيل وغزة. لكن في الحقيقة لا تفصل بين القطاع وإسرائيل أي حدود، ولا بين إسرائيل والضفة الغربية، إذ إن الحدود ترسم خطوط السيادة بين الدول، والفلسطينيون ليست لديهم دولة.

بالاسترجاع، خضع قطاع غزة للسيطرة المصرية خلال حرب عام 1948، عندما تأسست دولة إسرائيل. وفي 1967، احتلت إسرائيل قطاع غزة والضفة الغربية وشبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان. وعلى مدى الأعوام الـ26 التي تلت ذلك، سيطرت إسرائيل بصورة مباشرة على القطاع الصغير المكتظ بالسكان، وأقامت المستوطنات اليهودية كما فعلت في الأراضي الأخرى التي استولت عليها. وعام 1993، في أعقاب اتفاقات أوسلو، سلمت إسرائيل بعض مهمات إدارة شؤون غزة إلى السلطة الفلسطينية، لكنها احتفظت بالهيمنة الفعلية مع وجود عسكري دائم لها هناك، وسيطرت على حدود أراضي القطاع ومجاله الجوي، وكذلك تحكمت بموارده المالية وعائدات الضرائب.

انسحاب إسرائيل من غزة عام 2005 لم يغير واقع الاحتلال

وفي 2005، قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون الانسحاب من غزة بصورة أحادية الجانب وتفكيك المستوطنات الإسرائيلية هناك. لكن ذلك لم يغير الحقائق الأساسية المرتبطة بالاحتلال. على رغم السماح للفلسطينيين بإدارة الشؤون الداخلية في القطاع، إلا أن إسرائيل احتفظت بالسلطة المطلقة على الحدود المشتركة والشواطئ والمجال الجوي، فيما تولت مصر مراقبة الحدود الوحيدة الفاصلة بين القطاع وشبه جزيرة سيناء، بالتعاون الوثيق مع إسرائيل. ونتيجةً لذلك، سيطرت إسرائيل، بمساعدة مصر، على كل ما يدخل إلى غزة أو يخرج منها، من غذاء ولوازم بناء وأدوية وبشر.

وبعد فوز حركة “حماس” بالانتخابات في غزة عام 2006 وتعزيز سلطتها هناك في 2007، وجدت الحكومة الإسرائيلية أنه من المفيد للمنظمة الإسلامية أن تدير القطاع إلى أجل غير مسمى، بذلك ترك القيادة الفلسطينية منقسمة وتخفيف أي ضغوط دولية على إسرائيل تحثّها على المشاركة في المفاوضات. وفي الوقت نفسه، فرضت إسرائيل حصاراً على القطاع، مما أدى فعلياً إلى عزله عن بقية العالم. وفي المقابل، وسعت “حماس” شبكة الأنفاق تحت الأرض التي ورثتها عن إسرائيل لكي تتجاوز الحصار وتعزز قبضتها على الاقتصاد والسياسة في غزة، وتبني قدراتها العسكرية. وأتاح اندلاع الصراع بصورة متكررة الذي انطوى عادة على هجمات صاروخية من “حماس” تليها ضربات انتقامية إسرائيلية، لـ”حماس” إظهار مؤهلات المقاومة التي تتمتع بها، فيما سمح لإسرائيل بإظهار اعتمادها تكتيك “جز العشب” الذي أضعف قدرات “حماس” العسكرية وبنيتها التحتية وأدى إلى مقتل مئات المدنيين في كثير من الأحيان، في وقت تجنبت التحدي المباشر لسيطرة الحركة على القطاع. عانى الشباب في غزة الأمرّين بسبب الحصار والعنف المتقطع، لكن “حماس” حافظت على قبضة محكمة على السلطة.

في الأعوام التي سبقت أحداث السابع من أكتوبر، بدا بالنسبة إلى كثير من المراقبين في المنطقة والغرب أن هذه الأوضاع القائمة في غزة، إلى جانب الإدارة الموازية التي تمارسها السلطة الفلسطينية الضعيفة في الضفة الغربية، مزرية، ولكن مستدامة، مما مكن إدارة بايدن ببساطة من تنحية القضية الفلسطينية جانباً ضمن سعيها إلى عقد اتفاق سلام بين إسرائيل والسعودية، وسمح للسياسيين الإسرائيليين بالتناحر حول الإصلاحات القضائية غير الديمقراطية واستيلاء نتنياهو على السلطة، حتى في وقت تتغاضى الاحتجاجات الإسرائيلية المستمرة بصورة واضحة عن ضم الحكومة التدريجي للضفة الغربية. وقامت الصدمة والغضب الناجمان عن الهجوم الوحشي الذي شنته “حماس” والانتقام الإسرائيلي غير العادي بدور في تحطيم هذا الوهم، والكشف عن أن تجاهل الوضع الظالم لم يكن أمراً غير مستدام فحسب، بل كان يشكل خطراً جسيماً، لذا بات من الواضح أنه لا يمكن إعادة تشكيل النظام الإقليمي من دون الاعتراف بمحنة الفلسطينيين.

لا حل الدولتين ولا الدولة الواحدة

مع تطور الحرب في غزة، زعم بعض الإسرائيليين أنه لا يمكن العودة للوضع الذي كان قائماً، بمعنى أنه لا وقف لإطلاق النار من دون “تدمير” “حماس” بالكامل. ولكن البدائل التي اقترحها القادة الإسرائيليون لحكم “حماس” تشكل إلى حد كبير استمراراً للوضع القائم الذي يحاولون تغييره. إن غزو إسرائيل لغزة لم يحدث بصورة مفاجئة، فهي لم تتوقف قط عن السيطرة على القطاع، وهذا واقع صارخ بالنسبة إلى سكان غزة الذين عانوا طوال 17 عاماً تحت الحصار الإسرائيلي. وسيكون من الأدق القول إن إسرائيل التي ظلت لمدة 56 عاماً قوة الاحتلال الوحيدة ذات السيادة في غزة بموجب ترتيبات سياسية مختلفة، تحاول مرة أخرى إعادة تحديد قواعد هيمنتها. وكما أوضحت الحكومة الإسرائيلية، فهي لا تنوي استئناف الجهود الرامية إلى إقامة دولة فلسطينية.

اقرأ المزيد

مع اشتداد حرب غزة… هل بات حل الدولتين مستحيلا؟

الانبعاث الغريب لحل الدولتين

مجموعة الـ20: لا سلام من دون حل الدولتين

نتنياهو يرتكب خطأ فادحا برفضه حل الدولتين

حل الدولتين إلى النقاش مجددا

ماذا لو طبق حل الدولتين في الشرق الأوسط؟

حل الدولتين إذ تفرضه الكارثة
كان الإسرائيليون فقدوا حماستهم وأملهم في حل الدولتين قبل فترة طويلة من السابع من أكتوبر. على مدى العقد الماضي، تراجع الدعم الانتخابي لمعسكر السلام الإسرائيلي الذي يمثله حزب ميرتس، إلى درجة أنه كان على وشك الاختفاء من المشهد السياسي حتى إنه عام 2022، فشل في الحصول على الحد الأدنى المطلوب من الأصوات التي تؤمن تمثيله في الكنيست. تخلت الحكومة الإسرائيلية الحالية بصورة شبه كاملة عن فكرة حل الدولتين وضمت في صفوفها أعضاء يمينيين يتطلعون علناً إلى الضم الكامل لقطاع غزة والضفة الغربية. ولم تؤدِّ أحداث السابع من أكتوبر إلا إلى تسريع هذا الاتجاه. لقد فقد الجمهور الإسرائيلي بغالبية ساحقة ما تبقى من إيمان ضئيل في إمكان التوصل إلى حل الدولتين، خصوصاً بعدما اكتسبت حركة المستوطنين العازمة على السيطرة على كامل الأراضي بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط نفوذاً كبيراً.

وربما يجادل بعضهم بأن أولئك المستوطنين لا يتمتعون بمثل هذا النفوذ إلا لأن نتنياهو يعتمد عليهم للبقاء في السلطة. لكن المشكلة أكبر من ذلك بكثير، إذ إن معظم الإسرائيليين اليوم، غير مهتمين بحل الدولتين أو حل الدولة الواحدة القائم على أساس المساواة بين جميع السكان في الأراضي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، ويشعر كثيرون بأن هجوم السابع من أكتوبر أكد أسوأ مخاوفهم في ما يتعلق بالفلسطينيين. سواء جرى الاعتراف بذلك أو لا، فإن رفض حل الدولتين والدولة الواحدة على أساس المساواة للجميع لا يترك سوى سيناريوهين محتملين، الأول هو التعزيز المتزايد للهيمنة اليهودية والضوابط الشبيهة بالفصل العنصري على السكان غير اليهود الذين سيفوق عددهم عدد الإسرائيليين اليهود قريباً، والثاني هو الترحيل الجماعي للفلسطينيين من الأراضي، وفق ما دعا إليه بعض الوزراء الإسرائيليين علناً.

وعلى الجانب الفلسطيني، تراجعت مكانة السلطة الفلسطينية التي كان دورها أساسياً في اعتبارات واشنطن حيال غزة ما بعد الحرب. وإلى جانب عدم قدرتها على وقف السياسات الإسرائيلية، ومزاعم الفساد وانعدام الشرعية الانتخابية، تضاءل الدعم الذي يحظى به رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. (أظهر استطلاع للرأي أجري في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) أثناء فترة وقف إطلاق النار القصيرة في غزة أن نسبة تأييد عباس لم تتخطَّ حاجز السبعة في المئة). وفي الوقت نفسه، تزايدت شعبية “حماس” بين الفلسطينيين، خصوصاً في الضفة الغربية. في الواقع، تبيّن من استطلاعات الرأي الأخيرة أنه لا يزال هناك بعض التأييد لحل الدولتين بين الفلسطينيين، ولكن الثقة معدومة تقريباً بقدرة الولايات المتحدة على تحقيقه.

هذه هي الحقيقة السياسية الصارخة التي سيواجهها أولئك الذين يدفعون باتجاه إطار تفاوضي قائم على حل الدولتين. فلا القيادة ولا الشعب على أي من الجانبين يدعمون مثل هذه العملية. إن الحقائق على الأرض، المتمثلة في بنية تحتية إسرائيلية أمنية وشبكات طرقات واسعة ومتنامية باستمرار تهدف إلى ربط وحماية المستوطنات اليهودية في مختلف أنحاء الضفة الغربية، إلى جانب الدمار شبه الكامل الذي لحق بغزة، تجعل من إقامة دولة فلسطينية قادرة على البقاء فكرة غير واردة تقريباً. ولم تبدِ الولايات المتحدة أي مؤشر إلى رغبتها في ممارسة القوة اللازمة للتغلب على تلك العقبات.

حالياً، يشعر بعضهم بالأسى لأن هجوم السابع من أكتوبر وجه ضربة قاصمة لحل الدولتين وللحل البديل المتمثل في دولة واحدة عادلة وسلمية. ولكن الواقع هو أن أيّاً من الحلين لم يكن متاحاً عملياً. وكانت النتيجة الرئيسة للحرب حتى هذه اللحظة هي فضح وتضخيم المظالم المرتكبة في دولة واحدة تمارس فيها مجموعة معينة قمعاً اقتصادياً وقانونياً وعسكرياً على مجموعة أخرى، وهو وضع ينتهك القانون الدولي ويسيء إلى القيم الليبرالية. هذا هو الواقع الذي يجب معالجته قبل طرح مسألة الدولتين. وهنا تستطيع الولايات المتحدة أن تحدث فرقاً كبيراً.

ظروف حرجة

عوضاً عن الضغط من أجل التوصل إلى حل الدولتين وهو أمر من غير المرجح أن يحدث، يجب على واشنطن الاعتراف بالواقع الحالي واستخدام نفوذها لكي تفرض على جميع الأطراف الالتزام بالقوانين والأعراف الدولية. لقد تجنبت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة مطالبة إسرائيل بالامتثال لهذه المعايير، وذهبت إدارة بايدن إلى أبعد من ذلك، إذ أمّنت حماية لإسرائيل من قوانين الولايات المتحدة نفسها. في يناير، كشف تحقيق أجرته صحيفة “ذا غارديان” البريطانية عن أنه منذ عام 2020، استخدمت وزارة الخارجية الأميركية “آليات خاصة” لمواصلة توفير الأسلحة لإسرائيل على رغم القانون الأميركي الذي يحظر مساعدة الوحدات العسكرية الأجنبية المتورطة في ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وهذا ينبغي أن يتغير. وببساطة، من خلال دعم النظام الليبرالي الدولي القائم على القواعد، يمكن لواشنطن أن تسهم بصورة كبيرة في تخفيف أسوأ المظالم المرتكبة حالياً. لا يتعلق هذا النهج بإملاء واشنطن على الإسرائيليين والفلسطينيين ما يجب فعله، بل بإنهاء الاستخدام الشاذ لموارد أميركية كبيرة من أجل دعم سلوك تجده واشنطن مرفوضاً ويتعارض حتى مع مصالح الولايات المتحدة.

إذاً، فإن النهج القائم على القواعد لإدارة الوضع في أعقاب الحرب في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية يجب أن يشمل عناصر وجوانب متعددة. أولاً، يتعين على الولايات المتحدة أن تتخلى عن رفضها الدعوة إلى وقف إطلاق النار (وهو رفض ما زالت تتبناه في الأقل حتى تاريخ كتابة هذه المقالة) وأن تسعى إلى إنهاء الحرب في غزة وإعادة الرهائن الإسرائيليين في أسرع وقت ممكن. ومن شأن وقف إطلاق النار أن يضع حداً للقتل اليومي الذي يتعرض له مئات الفلسطينيين ويسمح للمساعدات الإنسانية بدخول القطاع، ويحول دون التفشي السريع للمجاعة والأمراض المعدية. ومن شأنه أيضاً أن ينهي هجمات “حماس” الصاروخية على إسرائيل، ويخفف من تصعيد التوترات مع “حزب الله” على الحدود الإسرائيلية- اللبنانية، ويمكّن الإسرائيليين المهجرين من العودة لبلداتهم الواقعة على الحدود. وربما يؤدي ذلك حتى إلى إقناع الحوثيين في اليمن بإنهاء حملتهم ضد سفن الشحن البحري في البحر الأحمر التي أسهمت في توسيع نطاق الحرب على نحو خطر. (قال كل من الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله وأعضاء في جماعة الحوثي في تصريحات علنية إنهم سينهون الهجمات في حال وقف إطلاق النار، وأكد نصرالله أن هجمات الميليشيات المدعومة من إيران ضد القوات الأميركية في العراق وسوريا ستتوقف أيضاً).

من خلال فشلها في الدعوة إلى وقف إطلاق النار طوال خريف عام 2023 وحتى عام 2024، لم تسمح إدارة بايدن للحرب بالامتداد بصورة خطرة فحسب، بل شجعت أيضاً حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل على تكثيف قمعها وتدميرها للمجتمعات الفلسطينية على نحو كبير، بما في ذلك في الضفة الغربية والقدس الشرقية. إذا كان بايدن غير قادر على المطالبة بإنهاء الحرب وسط إجماع شبه دولي على ضرورة وقف إطلاق النار، وفي ظل دعم محلي لهذه الخطوة من غالبية واضحة من الأميركيين توازي حوالى ثلاثة من بين كل خمسة مواطنين وفق استطلاع للرأي أجري في أواخر ديسمبر، فهو سيجد صعوبة في جعل الولايات المتحدة في موقع يمكّنها من قيادة ما يسمى “اليوم التالي” [أو مرحلة ما بعد الصراع] بجرأة وشجاعة.

لكن وقف إطلاق النار وحده لا يكفي لإنهاء السلوك غير القانوني. لقد بلغت تجاوزات الحرب على غزة حداً كبيراً من التطرف فتركت القانون الدولي في حال يرثى لها في نظر كثير من المراقبين الدوليين. وكانت إحدى النتائج هي عزل واشنطن وتقويض ادعائها بالدفاع عن الأعراف الدولية والنظام الدولي الليبرالي. إن حقيقة أن جمهورية جنوب أفريقيا، وهي واحدة من قادة دول الجنوب العالمي، وجّهت إلى إسرائيل تهمة الإبادة الجماعية غير العادية أمام محكمة العدل الدولية، تشير إلى أن أجزاء كثيرة من العالم لم تعُد تتوافق مع واشنطن وحلفائها الغربيين، مما يضعف زعامة الولايات المتحدة في المؤسسات الدولية. وفي حكم أولي صدر في الـ26 من يناير، وجدت المحكمة أن بعض الأعمال الإسرائيلية المزعومة في غزة تشكل انتهاكاً واضحاً لاتفاقية الأمم المتحدة في شأن منع الإبادة الجماعية. وعلى رغم أن المحكمة لم تطالب بوقف إطلاق النار، إلا أنها فرضت مجموعة واسعة من الإجراءات التي يجب على إسرائيل اتخاذها للحد من الأذى الذي يلحق بالمدنيين الفلسطينيين. وإذا واصلت واشنطن دعمها غير المشروط لإسرائيل في غزة من دون المطالبة بالتزام هذه التدابير، فقد تبدو أكثر تواطؤاً في الحرب. لذا، من الضروري أن تدعم الولايات المتحدة المساءلة الدولية عن جرائم الحرب المزعومة المرتكبة من جميع الأطراف.

وقف إطلاق النار وحده لا يكفي لإنهاء السلوك غير القانوني

بعد وقف إطلاق النار، يتعين على الولايات المتحدة أن تتخذ إجراءات أكثر جدية لدفع إسرائيل إلى تغيير مسارها. حتى الآن، قوبلت جهود صناع القرار الأميركيين الرامية إلى وضع الخطوط العريضة لخطة ما بعد الحرب في غزة بالرفض مراراً وتكراراً من المسؤولين الإسرائيليين. رفضت إسرائيل فكرة إعادة السلطة الفلسطينية إلى غزة، على رغم أنها تشكل حجر زاوية في الاستراتيجية الأميركية الحالية. وعوضاً عن ذلك، يتحدث السياسيون الإسرائيليون علناً عن عودة المستوطنات غير القانونية وإنشاء منطقة عازلة في شمال غزة، ويبدو أنهم عازمون على إجبار أعداد كبيرة من الفلسطينيين على مغادرة القطاع، وهي مفاهيم تتناقض مع الخطوط الأميركية الحمراء الصريحة. وبطريقة موازية، تجاهلت حكومة نتنياهو بصورة منهجية أبسط المطالب وأكثرها حيادية حتى للحد من الخسائر في صفوف المدنيين والسماح بتسليم المساعدات الإنسانية والتخطيط لغزة ما بعد الحرب والمساعدة في إعادة بناء السلطة الفلسطينية. ويبدو من المرجح أن تنتهي استراتيجية إسرائيل الحالية إما بالترحيل الجماعي لسكان غزة أو بحملة مكافحة تمرد متواصلة ومكلفة وعنيفة. وعارضت الولايات المتحدة بشدة الخيار الأول، تماشياً مع المواقف الحازمة التي أعرب عنها حلفاؤها في الأردن ومصر، وسيزداد الوضع سوءاً بالنسبة إلى الخيار الثاني كلما طال أمد بقاء القوات الإسرائيلية في غزة. لكن إدارة بايدن رفضت فرض أي عقوبات في محاولة لإجبار إسرائيل على قبول تلك المطالب.

ومن أجل مواجهة التعنت الإسرائيلي، يجب على الولايات المتحدة أن تتوقف عن حماية إسرائيل من تداعيات انتهاكاتها الجسيمة للقانون الدولي والمعايير الدولية في الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية. ومن الممكن أن تؤدي هذه الخطوة في حد ذاتها إلى إطلاق العنان لنقاش سياسي جوهري داخل إسرائيل وبين الفلسطينيين، مما قد يتيح خيارات وفرصاً جديدة. وفي الوقت نفسه، يجب على البيت الأبيض أن يربط المساعدات الإضافية لإسرائيل بالتزام القانون الأميركي والمعايير الدولية، ويجب عليه تشجيع مبادرات مماثلة في الكونغرس بدلاً من معارضتها. علاوة على ذلك، عليه أن يطلب من الوكالات الحكومية الأميركية أن تراعي القانون والقواعد الدولية عند تقديم أي مساعدة لإسرائيل بدلاً من البحث عن طرق مبتكرة لتقويض تلك القواعد.

في الواقع، إن إحجام بايدن عن ربط المساعدات العسكرية لإسرائيل بحقوق الإنسان أو حتى بالقانون الأميركي أدى بالفعل إلى تحركات وإجراءات غير عادية من جانب أعضاء حزبه. لننظر مثلاً إلى القرار الذي اقترحه السيناتور الديمقراطي كريس فان هولين، من ولاية ماريلاند، و12 من زملائه في ديسمبر الماضي، وهو قرار يرمي إلى جعل أي مساعدات عسكرية إضافية لإسرائيل وأوكرانيا مشروطة باستخدام الأسلحة بما يتوافق مع القانون الأميركي والقانون الدولي الإنساني وقانون النزاع المسلح. وعلى نحو مماثل، اقترح بيرني ساندرز، السيناتور المستقل عن ولاية فيرمونت، قراراً يجعل المساعدات العسكرية لإسرائيل مشروطة بتقييم وزارة الخارجية الأميركية لانتهاكات حقوق الإنسان المحتملة في الحرب. ولكن مثلما تبين بالفعل من فشل اقتراح ساندرز في يناير، فمن غير المرجح أن تنجح هذه الجهود في غياب القيادة من موقع الرئاسة، خصوصاً في عام الانتخابات الذي يتردد فيه الديمقراطيون في الكونغرس في تقويض فرص انتخاب رئيسهم الذي لا يحظى بشعبية كبيرة بالفعل. وحده البيت الأبيض قادر على أخذ زمام المبادرة بفاعلية ونجاح في هذه القضية.

قواعد عملية وقابلة للتطبيق

ومن عجيب المفارقات هنا أن الصدمات التي عاشها الفلسطينيون والإسرائيليون منذ السابع من أكتوبر أظهرت الحاجة الملحة إلى حل الدولتين، في حين سلطت الضوء أيضاً على عدم احتمالية تحقيقه. ولكن ما زال بإمكان البيت الأبيض المحاولة، إذا كان على استعداد لاستخدام القوة الأميركية من أجل إعادة فتح الطريق نحو إقامة دولة فلسطينية. لكن لا شيء في نهجه الحالي يشير إلى أنه سيفعل شيئاً أكثر من مجرد الاستمرار في تقديم الوعود الفارغة إزاء هذا الهدف بينما يعمل على إدامة الواقع المروع.

إن الآلام والصدمة التي سببتها الحرب لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين من الممكن أن تؤدي إلى إعادة تقييم داخلي وتكوين قيادات جديدة على الجانبين في وقت لا تظهر أي نتائج إيجابية أخرى [في وقت تبدو الخيارات البديلة المواتية بعيدة المنال]. وربما يكون بايدن قادراً على حشد الدعم من الدول العربية لتحقيق السلام مع إسرائيل، وهو هدف يتوق البيت الأبيض إلى تحقيقه ويتوقف على موافقة إسرائيل على حل الدولتين. لكن يبدو أن قلة من الفلسطينيين، أو الأطراف الأخرى المحتملة المعنية في مثل هذه الخطة، قد تضع ثقتها بالقيادة الأميركية، بالنظر إلى سجل الإدارة أثناء الحرب وقبلها. لقد وصلت مصداقية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق.

22.jpg
فلسطينية مهجرة في رفح بقطاع غزة فبراير 2024 (رويترز)

في هذه المرحلة، ستحتاج أي مبادرة تصب في اتجاه حل الدولتين إلى تحقيق نتائج ملموسة وفورية لكي تحظى بفرصة للنجاح. ويجب ترجيح كفة هذه الفوائد الملموسة لمصلحة الفلسطينيين بصورة أكبر، نظراً إلى ظروفهم القاسية. على سبيل المثال، يمكن لبايدن أن يعترف على الفور بدولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة، وأن يلتزم عدم الدفاع عن المستوطنات الإسرائيلية في الأمم المتحدة، وأن يجعل المساعدات العسكرية لإسرائيل مشروطة بامتثال إسرائيل للقانون الدولي والامتناع عن أي أعمال تعرقل قيام دولة فلسطينية. إضافة إلى ذلك، يمكن للولايات المتحدة أيضاً أن تتعهد بضمان أمن إسرائيل داخل الحدود الإسرائيلية المتفق عليها دولياً. لكن من المستبعد إلى حد كبير أن تقبل إسرائيل أياً من هذه الشروط، وليس هناك ما يشير في تاريخ بايدن إلى أنه قادر على ممارسة الضغط اللازم لتنفيذها.

سيزعم المدافعون عن إحياء مسعى حل الدولتين أنه الخيار الأكثر واقعية. ولكن من الواضح أنه ليس كذلك. وبغض النظر عن الطريقة التي ستنتهي بها الحرب في غزة، فمن غير المحتمل أن يكون حل الدولتين، أو حل الدولة الواحدة العادلة، متاحاً. في الحقيقة، لا يوجد مسار فوري للمضي قدماً من دون الاعتراف بالواقع الأكثر قتامة المتمثل في هيمنة إسرائيل على الدولة الواحدة. ولذلك، ليس من المفترض أن تركّز سياسة الولايات المتحدة على بذل جهود غير واقعية لإحياء المحادثات حول نتائج بعيدة المنال، بل ينبغي أن تعطي الأولوية لتحديد المعايير القانونية ومعايير حقوق الإنسان التي تنتظر الوفاء بها. يمكن لواشنطن أن تستخدم قوتها لمعارضة الحالات والسياسات التي ترفض الولايات المتحدة أن تدعمها، سواء كان ذلك ترحيل الفلسطينيين من غزة، أو مواصلة الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، أو إدامة وترسيخ نظام إدارة عسكرية يشبه الفصل العنصري في المناطق الفلسطينية. ويجب رسم هذه الحدود بوضوح، وضمان الالتزام بها بصورة لا لبس فيها. إضافة إلى ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة دعم آليات العدالة الدولية والمساءلة عن جرائم الحرب التي يرتكبها أي طرف، والمطالبة بالتزام القوانين والمعايير الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان في التعامل مع جميع الأفراد الخاضعين للسيطرة الإسرائيلية الفعلية، سواء كانوا مواطنين إسرائيليين أو لا. وعليها أن ترفض العمل كالمعتاد أو بقاء الأمور على حالها مع أي حكومة تنتهك هذه المعايير.

ومن خلال وضع حدود قانونية ملموسة للوضع الحالي، ستستعيد الولايات المتحدة جزءاً من المصداقية التي فقدتها في الشرق الأوسط والجنوب العالمي. وإذا جعلت الواقع الحالي أكثر توافقاً وانسجاماً مع القانون الدولي، تستطيع واشنطن أن تبدأ بخلق ظروف يمكن أن يظهر فيها مشهد سياسي أفضل في يوم من الأيام. لقد حان الوقت لحكومة الولايات المتحدة أن تتحمل مسؤولية النهج الفاشل الذي أدى إلى هذه الحرب المدمرة، إذ إن عقوداً من إعفاء إسرائيل من المعايير الدولية، ومواصلة الحديث الفارغ العقيم عن مستقبل الدولتين الذي لا يمكن تحقيقه، أضعفتا بشدة مكانة الولايات المتحدة في العالم. كذلك، يجب على واشنطن التوقف عن استخدام نفوذها لتمكين الانتهاكات الواضحة للحقوق والأعراف الدولية. وإلى أن تفعل ذلك، سيستمر الوضع الراهن غير العادل وغير الليبرالي على الإطلاق، وستعمل الولايات المتحدة على إدامة المشكلة عوضاً عن حلها.