سعت القيادة الإيرانية إلى تثبيت قواعد عقيدتها الأمنية والعسكرية والتزام مشروعها السياسي عندما أكد المرشد الأعلى علي خامنئي يوم الثامن من كانون الثاني 2025 (ضرورة الحفاظ على الحشد الشعبي العراقي) وأن (الأدلة والبراهين تشير إلى أن الأميركيين يحاولون تثبيت وتوسيع وجودهم في العراق، وهو ما يجب التصدي له بشكل جدي).
لا تزال الرؤية الإيرانية قائمة على محددات تخدم مصالحها ومنافعها في منطقة الشرق الأوسط وبسط نفوذها وامتداداتها على عديد من العواصم العربية وتنفيذ مشروعها الإقليمي القائم على ولاية الفقيه واعتماد الأسس والركائز التي جاء بها الدستور الإيراني في تصدير (الثورة الإسلامية) إلى خارج الحدود الجغرافية للأراضي الإيرانية واعتماد العمق الاستراتيجي لأدواتها وشركائها في المنطقة وملاذ حي لتحقيق غايتها وإبعاد سياستها القائمة على حماية أمنها القومي دون أي مشاركة فعلية لقواتها العسكرية ومؤسساتها الأمنية، فهي لا تحارب بقدراتها وإمكانياتها الذاتية وإنما عبر مليشياتها وفصائلها المسلحة التابعة لحرسها الثوري.
إن حديث المرشد علي خامنئي يعني أن إيران لازلت متمسكة بنهجها وسلوكها في معالجة الأحداث القائمة في المنطقة العربية، وتحاول إظهار مبدأ القوة العسكرية والتعنت السياسي وتؤكد عدم استيعابها لهزيمة وانتكاس مشروعها الإقليمي في سوريا والجنوب اللبناني، وتتمسك بالصورة الميدانية التي تعبر عن استراتيجيتها في تحويل عديد من عواصم الأقطار العربية ومنها العراق إلى ساحة حرب ومسرح للعمليات العسكرية تحقيقًا لأهدافها ومكتسباتها السياسية والتي اثبت معظمها فشلها الذريع وعدم تمكنها من مواجهة الأحداث والتفاعل مع المتغيرات السياسية.
الأساس الذي يعتمده حديث علي خامنئي قائم على مبدأ الاستقراء الإيراني الذي يرى أنه لا يزال محتفظًا بفائض من الثقة التي تساعده على تحقيق مبتغاه واستمرار تأثيره على مجمل الأوضاع السائدة في المنطقة، والاعتماد على ما حققه من نتائج كبيرة وتواجد ميداني واسع، الفائض الذي أوجده قاسم سليماني القائد العسكري السابق لفيلق القدس عبر توسيع مدارات المشروع السياسي الإيراني والذي بموجبه أصبحت إيران لاعبًا مؤثرًا وفاعلًا في الشرق الأوسط.
ولكن قراءتها الأخيرة لا تنسجم والمعطيات المتلاحقة والمتغيرات المستمرة والأزمات السياسية التي تجتاح المنطقة، وأصبحت جميع توقعاتها مخالفة لما يحدث بل أصابتها بحالة من عدم التركيز والانكسار النفسي الذي أصاب مؤسساتها العسكرية والأمنية.
وأصبحت قيادتها العسكرية تخالف الوقائع الميدانية بل تذهب بعيداً في حالة من التيه وعدم الانضباط في الكلام وذكر الحقائق، ويمكن الاستناد إلى هذه الرؤية عند قراءتنا لما صرح به قائد الحرس الثوري (حسين سلامي) في التاسع من كانون الثاني 2025 بقوله (إيران لم تؤسس قوة الردع لديها على أرض أخرى، ولم نستفد عسكريًا من سوريا)، وتناسى أو تجاهل حقيقة التواجد الإيراني في الميدان السوري والقوة العسكرية التي كانت تمثلها المليشيات الأفغانية والباكستانية وبعض من الفصائل والمليشيات العراقية التابعة للحرس الثوري الإيراني والتي تدار عملياتها وواجباتها من قبل عدد من مستشاري فيلق القدس، واعتبارها أداة ميدانية لتنفيذ واجبات وتوجيهات القيادات العسكرية والأمنية في الحرس الثوري والتي تتلقى الدعم المباشر من المرشد الأعلى، وأنها تمثل العمق الاستراتيجي الذي يدعم حركة ونشاط حزب الله اللبناني وقواه العسكرية والأمنية، فكيف لم تستفد إيران عسكريًا من تواجدها على الأراضي السورية، وهل قوة الردع العسكرية والأمنية التي كان يمتلكها حزب الله لا تعتبر أساسا لقوة ردع إيرانية؟ وهل يمكن أن يُنسى ما صرح به الأمين العام السابق حسن نصر الله من أن جميع ما يمتلكه الحزب من إمكانيات مادية وعسكرية ومعدات ثقيلة وصواريخ موجهة وطائرات مسيرة هي بدعم من (الجمهورية الإسلامية).
إن العقيدة الإيرانية العسكرية قائمة على مبادئ ثابتة تمثل حالة التواصل بين ما يقرره المرشد الأعلى وما على المؤسسات والجهات السياسية والأمنية تنفيذه، لهذا فهي لا زالت تستخدم أوراقها السياسية في خدمة مخططاتها في المنطقة وتحقيق مكتسباتها الفعالة بالحفاظ على برنامجها النووي، ورفع سقف خطابها في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل عبر ساحات أخرى خارج حدودها، ومنها الساحة العراقية والتي كانت ضمن نطاق الكلام الذي أعلنه المرشد الأعلى علي خامنئي باعتبار (الحشد الشعبي أحد مكونات السلطة المهمة في العراق والذي ينبغي الحرص عليه وتعزيزه) وهو ما يمكن أن يعرض العراق وشعبه إلى عمليات عسكرية أمريكية إسرائيلية وتحويل الميدان العراقي لساحة مواجهة لأغراض دولية إقليمية.
إن إيران لم يعد أمامها سوى ورقة سياسية تلوح بها هي عملية استمرار تواصلها مع الدول الأوروبية ومحاولة إيجاد فرص للتفاوض معها بخصوص برنامجها النووي، وهو المسعى الذي تنتهجه إيران حاليًا في التهيئة لعقد جلسة ثنائية في العاصمة السويسرية (جنيف) بحضورها ودول ألمانيا وفرنسا وبريطانيا بتاريخ 14_15 كانون الثاني 2025، وبدأت بالإعداد له بشكل يتلائم ومقتضيات مكتسباتها وتمسكها بالحفاظ على نظامها السياسي وإبداء تعاونها واستخدام سياسة الاحتواء وضبط النفس والمراهنة على المرونة السياسية التي ستبديها خلال جلسة المباحثات القادمة، وتجنب أي تطورات في مواقف الإدارة الأمريكية مع مجيء الرئيس دونالد ترامب وتسنمه رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية بعد أيام، واعتماد أسلوب تعزيز الفرص الدبلوماسية والتفاوض من أجل الوصول إلى اتفاق جديد حول البرنامج النووي بما يحقق الأهداف والغايات لجميع الأطراف.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتجية