معمر فيصل خولي
بعد عقود من المواجهات الدموية بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني، حيث شكلت هذه المواجهات للدولة التركية أحد مصادر القلق الاجتماعي فيها، وبعد أشهر من دعوة أوجلان التاريخية لرفاقه بإلقاء السلاح، ولهذه الدعوة أسبابها التي قد تتعلق بأوجلان وعزلته التي استمرت أكثر من ربع القرن، وعلى ضوئها أجرى مراجعات فكرية وسياسية عن جدوى المواجهات الدموية ضد الدولة التركية، هذه المواجهات التي لم تحقق أي هدف من أهداف الحزب.
كما أن هذه المراجعة ليست بعيدة تمامًا عن التغيرات الاستراتيجية التي لحقت سواء بحلفائه أو داعميه في البيئة الإقليمية بمرحلة ما بعد السابع من أكتوبر 2023م، فما يسمى بمحور المقاومة الذي تتزعمه إيران، تعرض إلى ضربات موجعة من قبل إسرائيل، أثرت بشكل كبير على ثقلها الإقليمي، كما أن سقوط حكم الأسد الديكتاتوري ساهم بشكل كبير في تلك المراجعة. كل هذه العوامل أدت إلى أن تشاهد الجماعة الدولية بأسرها كيف أحرق حزب العمال الكوردستاني أسلحته على هواء مباشرة؟ في مشهد كان يصعب تخيله قبل سنوات.
وقد رد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على هذه الخطوة بخطاب سياسي وصف بأنه “تاريخي” أكد فيه على أواصر الأخوة بين الأتراك والكرد والعرب، واعتبر هذه الأواصر هي السبب الرئيسي في انتصارات الأمة الاسلامية عبر التاريخ. حاليًا، يدرك الرئيس التركي أن إلقاء وحرق حزب العمال الكردستاني سلاحه هي أحدى النتائج المباشرة للتغييرات الاستراتيجية للسابع من أكتوبر، لذلك عليه أن يوظف هذا الحدث التاريخي بما يخدم مصالح الدولة التركية الداخلية العليا، ولعل أهم تلك المصالح تسوية المسألة الكوردية في الإطار الوطني للدولة التركية.
ليس بوسع أحد أن ينكر دور حزب العدالة والتنمية بشكل عام والرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشكل خاص، في نقل تركيا من دولة ذات تأثير محدود في بيئتها الإقليمية إلى دولة إقليمية ذات تأثير بالغ في بيئة الشرق الأوسط، وحتى على المستوى الدولي، يمكن القول أن رجب طيب أردوغان دخل تاريخ الدولة التركية المعاصر نتيجة الانجازات المتعددة المستويات التي حققتها تركيا خلال حكمه سواء حينما كان رئيسًا للوزراء أو في منصبه الحالي كرئيس لجمهورية تركيا، فهو لا يقل أهمية عن مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك، ولا نبالغ إذ قلنا بأنه أكثر أهمية منه.
ومع ذلك يطمح الرئيس أردوغان في تحقيق إنجاز آخر لا يقل أهمية على الاطلاق عن الإنجازات التي تحققت، ألا وهو تغيير الدستور التركي، سواء كان هذا التغيير كما ترى بعض التحليلات السياسية لاعتبارات شخصية من أجل إطالة مدة رئاسته لتركيا، أو لاعتبارات أخرى، وبغض النظر عن تلم التحليلات، فإن تغيير الدستور يكاد يكون مطلبًا وطنيًا، فتركيا بحاجة إلى دستور جديد يستجيب لتطلعات الشعب التركي.
فالفرصة التاريخية مواتية لتحقيق ذلك بعد إلقاء حزب العمال الكردستاني سلاحه، إذ بوسعه أن يشكل تحالفًا وطنيًا يجمع أكراد تركيا والحركة القومية التركية وحزب العدالة والتنمية، هذا التحالف الوطني من شأنه أن يقرب الأتراك أكثر وأكثر من حلم كان يراودهم منذ عقود ليس في تعديل الدستور وإنما في تغييره ليكون دستورًا مدنيًا يضمن حقوق جميع مواطني الدولة التركية، وبهذا التغيير – إن حدث – يمكن القول بأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كتب شهادة وفاة دستور كنعان إفرين عام 1982م، ويختم حياته السياسية بأعظم انجاز له طيلة مسيرته السياسية، فهل رياح السياسة الداخلية التركية ستجري بما تشتهيه سفينة أردوغان؟
وحدة الدراسات التركية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية
