الخلايا الامبريالية النائمة

الخلايا الامبريالية النائمة

207

أجري استطلاع الرأي العام الذي بيّن أن أكثرية البريطانيين يشعرون بالفخر والاعتزاز بماضي بريطانيا الاستعماري قبيل التصويت في كلية أوريول بجامعة أوكسفورد على مسألة إزالة تمثال سسيل رودس الموجود أمام مدخل الكلية. ذلك أن رودس شخصية مثيرة للجدل، فقد كان من أثرى رجال الأعمال البريطانيين في القرن التاسع عشر ومن عتاة الساسة الاستعماريين، وهو الذي تولى الدور الأكبر في توطيد دعائم الحكم الاستعماري البريطاني في إقليم إفريقيا الجنوبية. كما أنه أنشأ شركة ديبيرز لاستخراج الماس. وقد كانت منطقة بأسرها تنسب إليه نسبة المزرعة لمالكها، حيث أن كلا من دولتي زمبابوي وزامبيا كانتا تسميان، حتى زمن قريب، روديسيا.
أما علاقة رودس بجامعة أوكسفورد، فإنها ترجع (على ما في ذلك من المخالفة الظاهرية لطبائع الأشياء) إلى أنه أمر في وصيته بإنشاء وقف خيري يخصص ريعه لطلاب الجامعة الأجانب في شكل منح دراسية مجزية. وتوجد لرودس كثير من النصب والتماثيل، بما فيها التمثال الذي أمام مدخل كلية أوريول. وليس من المستغرب أن يرى بعض الطلاب والمثقفين في رودس رمزا لعنصرية الاستعمار البريطاني ومظالمه، وأن يعتقدوا أن من غير اللائق أن يستمر البريطانيون في إقامة النصب والتماثيل له إلى اليوم. ولهذا فقد صوتت الأغلبية في اتحاد طلاب أوكسفورد لصالح إزالة التمثال. إلا أن اللافت حقا أن استطلاع الرأي العام الذي أظهر أن 44 بالمائة من البريطانيين يفخرون بماضي بلادهم الاستعماري وأن 43 بالمائة يعتبرون أن الامبراطورية البريطانية عممت المنافع ونشرت الخير، قد أظهر أيضا أن ما لا يقل عن 59 بالمائة من البريطانيين لا يرون أي سبب يدعو إلى إزالة تمثال رودس!
ذلك أن هنالك تيارا من الحنين الدفين لدى كثير من البريطانيين إلى «الامبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس» – حنين مبعثه أن شمس الامبراطورية ذاتها قد غربت لتصير بريطانيا، حسب قولة دين آتشسون الشهيرة، بلادا «فقدت امبراطورية ولم تعثر بعد على دور». ومعروف أن الامبراطورية البريطانية بلغت أوجها عام 1922، حيث كانت تحكم خمس البشرية وتسيطر على ربع مساحة أراضي المعمورة.
وقد ارتكبت الامبراطورية البريطانية فظائع كثيرة شملت، على سبيل المثال، زرب حوالي سدس شعب البوير (في جنوب إفريقيا)، إبان حرب البوير الثانية أول القرن العشرين، في معسكرات اعتقال، فقضى منهم حوالي 28 ألفا جراء الجوع والعطش والأمراض. أما عدد الموتى من السود، فقد أهمله الإحصاء! وردّ جنود الامبراطورية على مظاهرة سلمية مناهضة للاستعمار في منطقة أمريتسار الهندية عام 1919 بإطلاق مستمر للنيران حتى نفاد الذخيرة كليا، فأردوا عددا يتراوح بين 400 وألف هندي وأصابوا حوالي 1100 آخرين في غضون عشر دقائق. فماذا كان رد فعل البريطانيين؟ امتدحوا البريغاديير رجينالد داير، قائد هؤلاء الجنود، ورفعوه إلى مقام الأبطال وجمعوا له مكافأة مالية بالغة السخاء.
والواضح أن تعوّد عموم الأوروبيين، عبر الأجيال، على استعمار البلدان الأخرى قد سبب لديهم صعوبة في فهم قضية توق الأمم الأخرى إلى التحرر من الحكم الأجنبي. ولا شك عندي أن عدم قدرة أكثرية البريطانيين على فهم قضية الحق الفلسطيني، في مقابل أباطيل الأسطورة الصهيونية، إنما تندرج في السياق العام لهذا التعود على التحكم في الشعوب المعتبرة أقل تقدما أو تحضرا.
وقد تزامن نشر نتائج استطلاع الرأي المذكور مع بدء قراءتي لكتاب أرمتيس كوبر عن «القاهرة في الحرب: من 1939 إلى 1945». كتاب موثق ومشوق عن حقبة هامة في تاريخ مصر الحديث، مع وفر من الملح والنوادر والتفاصيل، ولكنه يشي عن عقلية استعمارية كامنة أو ذهنية امبراطورية نائمة (مثلما يقال: خلايا نائمة!) يكفي أن تنشطها بعض المعطيات التاريخية حتى «تعلن لونها»، كما يقول التعبير الفرنسي، وتجهر بحقيقتها. ومن أمثلة ذلك أن الكاتبة تقول إن مصر كانت في مطلع القرن العشرين «تسير سيرا حسنا جدا تحت «نظام الحماية المقنّع». إذ كان المصريون، باستثناء قطاعي الصحة والتعليم اللذين أهملا بالغ الإهمال، في وضع أفضل مما لو كانوا تحت حكم الأتراك – ولكنهم كانوا مع ذلك ساخطين». وتشرح أن اللورد كرومر كان يعترض على تعليم المصريين ويعتبر أن أي قدر من التعليم، ولو كان محدودا، هو «أمر خطير». أما العصارة، فهي في قولها البريء: «.. رغم منافع الحكم البريطاني، فإن المصريين كانوا يشعرون بأنهم مقموعون».
ذلك أن المشكلة ليست في القمع، بل هي في الشعور به!

مالك التريكي

نقلا عن القدس العربي