تعتبر “أوراق بنما” هي التسريب الأكبر حتى الآن فيما يتعلق بـ”شبكات الملاذات الضريبية السرية”، والتي امتدت صلاتها لتشمل تجار المخدرات والتنظيمات الإرهابية والمتهربين الضريبين، وكذلك بعض المسؤولين السياسيين البارزين. وتتنوع استخدامات الشركات المسجلة في الخارج التي كشفت عنها أوراق بنما بين أنشطة مشروعة وغير مشروعة، وهو ما تسبب في مشكلات لعدد كبير من المسؤولين السياسيين البارزين، حتى في الدول الغربية، وفي مقدمتهم ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني.
ما هي الملاذات الضريبية؟
تعتبر دولة بنما أحد المقاصد الاستثمارية الجاذبة للمستثمرين الأجانب، نظراً لما تتيحه من تسهيلات لهم مثل سهولة إنشاء الشركات فيها، وعدم فرض أي ضريبة على الدخل الناتج عن استثمارات من خارج الدولة، بما في ذلك عائدات المبيعات التي تتم خارجها، فضلاً عن غياب أية قيود على حركة الأموال من بنما إلى الخارج، ووجود قوانين تحمي المعلومات المصرفية والمعلومات الخاصة بسجل الشركات الخاصة، بل والحكومات الأجنبية أيضاً.
ووفقاً لذلك تعتبر بنما بذلك إحدى الملاذات الضريبية، والتي يمكن تعريفها بأنها “أي دولة يمكن أو ولاية أو إقليم داخل دولة قد يتم الاستفادة من قوانينها للتهرب من دفع الضرائب التي تكون واجبة قانوناً في دول أخرى”. ووفقاً لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD)، فإن الملاذات الضريبية، إما لا تفرض ضرائب تماماً أو أنها تفرض ضرائب زهيدة على أنشطة غير المقيمين.
وقد ساعدت مثل هذه الملاذات الضريبية على تصاعد ظاهرة “التجنب الضريبي”، أي عدم دفع الضريبة من خلال الاستفادة من قصور النظام الضريبي، ومثال على ذلك استغلال بعض الشركات اختلاف النظم الضريبية في الدول المختلفة من خلال إنشاء مراكز وفروع وشركات وهمية (Shell Companies) تابعة لهم في الدول التي لا تفرض ضرائب مرتفعة (عادة الملاذات الضريبية).
وما يزيد من أهمية هذه الملاذات الضريبية أنها لا تتبادل المعلومات الضريبية والمصرفية فعلياً مع الدول الأخرى، بل وتضمن قانونياً سرية الأنشطة المتمركزة بها من جهة، كما إنها لا تُلزم الشركات المحلية المملوكة بواسطة غير المقيمين بتنفيذ أي أنشطة محلية كبيرة من جهة أخرى، بل على النقيض، فإنه يكون محظوراً – في بعض الأحيان – على هذه الشركات أداء الأعمال في الولايات القضائية التي تدرج بها.
ملامح أوراق بنما
تتمثل أوراق بنما في مجموعة من الوثائق التي تم تسريبها يوم 3 أبريل الجاري، من قِبل شركة موساك فونيسكا للمحاماة (مقرها بنما)، والمتخصصة في إنشاء الشركات المسجلة في الخارج (Offshore Companies). وقد بلغ عدد هذه الوثائق ما يقترب من 11.5 مليون وثيقة وحوالي 214 ألف شركة صورية (Shell Companies) في نحو 200 دولة، كما أن بعض هذه الشركات كانت مملوكة لحوالي 72 من قيادات دول سابقين وحاليين، وذلك على مدار الأربعين سنة الأخيرة (الفترة من عام 1977 وحتى عام 2015).
وقد ساهمت تلك الوثائق المسربة في توجيه الاهتمام إلى الشركات المسجلة في الملاذات الضريبية، والشركات الوهمية التي يستخدمها الأثرياء والسياسيون في العالم لإخفاء ثرواتهم أو للتهرب والتجنب الضريبي أو لغسيل الأموال أو خرق العقوبات المفروضة من قِبل الولايات المتحدة، إذ تضمنت الوثائق 33 شخصاً وشركة على الأقل من المدرجين على القوائم السوداء الخاصة بواشنطن بسبب ممارسة الأعمال مع تجار مخدرات مكسيكيين أو لصلتهم بمنظمات إرهابية ودول مارقة، من وجهة نظر الجانب الأمريكي.
وقد عملت شركة “موساك فونيسكا للمحاماة” في نحو 21 ملاذاً ضريبياً، وفي مقدمتها جزر فيرجن البريطانية وبنما وسيشل. وقد تضمنت قائمة أكثر البنوك طلباً لإنشاء شركات وهمية مسجلة في الخارج لعملائها، بعض البنوك في لوكسمبرج والمملكة المتحدة، وعدد من البنوك السويسرية التي قد سبق أن دفع بعضها ملايين الدولارات كغرامة في أعقاب الحملة الأمريكية على البنوك، والتي تساعد عملاء الولايات المتحدة على التهرب الضريبي.
وتشير أوراق بنما إلى صلة المملكة المتحدة بآلاف الشركات التي يقع مقرها في الملاذات الضريبية، والتي تقوم باستثمار أموالها سراً في الأصول البريطانية، خاصةً في سوق عقارات لندن، وهو ما يبدو أنه على عكس رغبة بريطانيا في زيادة درجة شفافية الأنشطة المالية، سواءً في جزر التاج البريطاني ما وراء البحار، والذي يقف اللوبي المالي والمصرفي البريطاني ضده بشكل دائم.
أما الولايات المتحدة، فلم يتم الإشارة إليها في أوراق بنما المُسربة. وكانت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية قد ذكرت أن تأسيس شركات صورية مبهمة داخلها أمر سهل نسبياً، كما أن الشركات الوهمية المنشأة في ولايتي ديلاوير ونيفادا ارتبطت بعمليات احتيال وفساد. وقد أدت الأزمة المالية العالمية وما نتج عنها من برامج للتقشف المالي والحاجة إلى زيادة الإيرادات الضريبية والإيرادات العامة، إلى اتخاذ الولايات المتحدة عدداً من الإجراءات لمواجهة الملاذات الضريبية، وذلك بغرض منع التهرب الضريبي.
شكوك في شركة “موساك فونيسكا”
لا يعد تسجيل الشركات بالخارج في حد ذاته مُخالفاً للقوانين، كما أنه لم يتم تحديد حجم الأنشطة غير المشروعة من مجمل أنشطة أوراق بنما، غير أن السرية التي تحيط بالشركات ومالكيها، فضلاً عن تعاون شركة “موساك فونيسكا للمحاماة” مع تجار المخدرات وشركات السلاح والإرهابيين والدول المارقة، يعكس عدم مشروعية جزء كبير من الأنشطة المتصلة بأوراق بنما.
ولا ينفي ذلك إعلان شركة “موساك فونيسكا” عدم توجيه أي اتهامات لها من قبل بارتكاب مخالفات جنائية، إذ إن ذلك لا يُبرأ ساحة الشركة، بقدر ما يكشف عن تورط المراقبين الماليين والشرطة والقضاء، بل والنظام السياسي في بنما، في ذلك النظام الفاسد الذي لا يهتم سوى بتدفقات المال.
ويتضح ذلك في رفض بنما أن تكون جزءاً من الاتفاق الدولي بشأن تبادل المعلومات بناءً على الطلب (International Agreement on the Exchange of Information on request)، والذي تعمل على تنفيذه منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، وذلك منذ عام 2009، كما أنها لم توافق على تعديل تشريعاتها المحلية لتتناسب مع الاتفاق إلا في عام 2015.
التداعيات السياسية والقانونية
تتمثل أكبر التداعيات السياسية بالنسبة للمسؤولين السياسيين في الدول المتقدمة، في أن هذه التسريبات كشفت الازدواجية الطبقية، إذ يمتلك البعض شركات مسجلة في الخارج بهدف التهرب الضريبي، وبالتالي فإن الأغنياء والأثرياء والشركات متعددة الجنسيات المتصلين بالملاذات الضريبية يستطيعون تخفيض أعباءهم الضريبية، بينما يلتزم المواطنون العاديون بدفع الضرائب على رواتبهم ودخولهم.
وقد انعكست تداعيات أوراق بنما على “الدول المختلفة”، ومن ذلك مثلاً، إجبار رئيس وزراء أيسلندا، “سيغموندور غونلوغسون”، على الاستقالة من منصبه، نتيجة تصاعد الاحتجاجات ضده، وبعد أن كشفت أوراق بنما عن أنه كان شريكاً في ملكية شركة مسجلة في الخارج تم تأسيسها بمساعدة مكتب “موساك فونيسكا للمحاماة”.
وعلى الرغم من أن تلك الشركة أصبحت مملوكة بالكامل لزوجته منذ عام 2009، إلا أنها جنت الملايين نتيجة الاتفاقات التي تفاوض عليها “غونلوغسون” مع المدعين على المؤسسات المالية الأيسلندية المُفلسة؛ وبالتالي فإن فضيحة غونلوغسون لم تتضمن أدلة تهرب ضريبي من جانب الشركة، بل باستخدام نفوذه لحصول زوجته على أرباح غير مشروعة، وهو ما أطاح بمنصبة السياسي.
وفي المملكة المتحدة، وعقب تسريبات أوراق بنما، صرح رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بعدم امتلاكه أي أسهم وصناديق ائتمان مسجلة في الخارج، كما أكد متحدث رسمي بأن رئيس الوزراء وزوجته وأطفالهم لا يستفيدوا من الصناديق المسجلة في الخارج.
وقد أعقب ذلك قيام مكتب ديفيد كاميرون بنشر جزء مختصر من سجلاته الضريبية التي تضمنت امتلاكه لعدد 3000 سهم في صندوق استثمار بليرمور (Blairmore Investment Trust)، الذي قام والده إيان كاميرون بتأسيسه في بنما، وفقاً لما أشارت إليه تسريبات بنما.
وفي عام 2010 باع ديفيد كاميرون هذه الأسهم بقيمة 31.5 ألف جنيه إسترليني، ليحقق بذلك مكاسب رأسمالية بلغت قيمتها حوالي 9501 جنيه إسترليني، والتي تقل بقدر ضئيل عن الحد الأدنى الذي تطبق عليه ضريبة أرباح رأس المال.
ويتخوف بعض السياسيين في الحملة المؤيدة لبقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي، في الاستفتاء المقرر عقدة في 23 يونيو 2016، من أن تؤدي أوراق بنما وما تضمنته بشأن ديفيد كاميرون إلى الإضرار بحملتها، خاصةً وأن كاميرون يعتبر من أبرز المؤيدين للبقاء داخل الاتحاد.
على الجانب الآخر، قامت فرنسا بإدراج بنما على قائمة الدول التي تفشل في التعاون بشأن التهرب الضريبي، وردت بنما بأنها ستدرس اتخاذ إجراء ضد باريس، ولكنها كررت استعدادها للتعاون في أي تحقيق ينجم عن الأوراق. وبدأ عدد من الدول إجراء تحقيقات في أوراق بنما، ومنها أستراليا وهولندا والنمسا وسويسرا وباكستان وبنما نفسها.
وفي إطار ذلك يُتوقع أن تؤدي تسريبات “أوراق بنما” إلى تحرك دولي لتسريع تطبيق الاتفاقيات متعددة الأطراف الخاصة بشأن تبادل المعلومات الضريبية لمواجهة الدور الذي تلعبه بنما كملاذ ضريبي تتحالف فيه شبكات تساعد على التهرب الضريبي وغسيل الأموال وإخفاء الثروات.
أخيراً، يمكن القول إن أوراق بنما لن تكون الأخيرة في سلسلة تسريبات الملاذات الضريبية؛ فمنذ ثلاث سنوات طالبت شركة “موساك فونيسكا” عملائها بعدم القلق من تسريب بياناتهم نظراً لأن مركز البيانات الخاص بها يستخدم أحدث تكنولوجيا وأفضل نظم التشفير، غير أن أوراق بنما الأخيرة خالفت ذلك تماماً.
وفي ظل استمرار تطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات سوف يستمر الكشف عن خبايا شبكات الملاذات الضريبية. وفي حالة عدم تفعيل الاتفاقيات متعددة الأطراف الخاصة بتبادل المعلومات الضريبية، سوف تستطيع شبكات الملاذات الضريبية أيضاً الاستمرار في أداء عملها، كما لا يجب تجاهل حقيقة أن شركة “موساك فونيسكا للمحاماة” تمتلك حوالي 5 – 10% من السوق العالمي للشركات الوهمية.
مريم محمود
مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة