أي شرق أوسط جديد؟

أي شرق أوسط جديد؟

new-map-crop-edited-arabic

«مارينا أوتاوي» كبيرة الباحثين في شؤون الشرق الأوسط بمعهد ويلسون تتساءل في مقالة منشورة مؤخراً في «فورين افيرز»: هل يحتاج الشرق الأوسط إلى حدود جديدةتعدل تركة «اتفاقية سايس بيكو» التي مضى عليها قرن كامل لتسوية أزماتها المتفاقمة الراهنة؟

ليس السؤال بالجديد، فقد قرأنا في السنتين الأخيرتين العديد من الدراسات والتحليلات التي اتجهت في مجملها إلى التبشير بمرحلة ما بعد سايس بيكو، وتوقع قيام خريطة شرق أوسطية جديدة بحدود مغايرة وتركيبة مختلفة، بالانطلاق من رصد أوضاع إقليم المشرق العربي الذي تحللت فيه الدولة المركزية وظهرت فيه بؤر لكيانات طائفية وقومية ستتحول إلى دول كاملة السيادة تضاف إلى البلدان القائمة حالياً.

من هذه التحليلات مقالة «جفري غولبرس» بعنوان «خريطة الشرق الأوسط الجديد» في مجلة «ذي انتلانتيك» الأميركية (يونيو 2014) التي ذهب فيها إلى أن حركيّة «الربيع العربي» كشفت عن هشاشة الدولة الشرق أوسطية، وطرحت مجدداً شكل الخارطة السياسية للمنطقة الممتدة من المتوسط إلى الفرات بل إلى المحيط الهندي التي ستشهد حسب توقعه بروز عدد من الكيانات الوطنية الجديدة على خط الصراعات الطائفية والقومية التي فجرت توازنات المنطقة الموروثة عن معاهدة سايس بيكو.

وفي الاتجاه نفسه ذهب «جوزف يعقوب» في صحيفة «لوموند» الفرنسية (25 يناير 2016) إلى أن المشرق العربي يعرف حالياً تحولا مذهلا طرحه تهجير وإبادة مكوناته الإيزيدية والأرمنية والآشورية الكلدانية، بعد أن انهارت الدولة المركزية في العراق وسوريا، متسائلا: هل يكون الحل هو سايس بيكو جديدة تعيد رسم خريطة المنطقة أم إنجاح الحل الديمقراطي التعددي القادر على حماية هذه الأقليات من الانقراض؟

هذه المقالات وغيرها من التحليلات الكثيرة التي نقرؤها هذه الأيام في الأدبيات الاستراتيجية وأعمدة الصحف الغربية تعبر عن أزمة عميقة في قراءة المشهد الشرق أوسطي والتعامل مع أزماته التي خرجت عن نطاق التحكم.

ولعل الميزة الكبرى لمقالة مارينا أوتاوي هي وعيها الصريح بأن تعديل خريطة المنطقة من خلال الموازين الجديدة القائمة على الأرض (الحالة الكردية في العراق التي اقتربت من الدولة المستقلة، الحالة الداعشية، الكيان العلوي في الساحل السوري..) لن يجلب الحل لأزمات المنطقة لأن اتفاقية سايس بيكو لم تكن هي مصدر المشاكل الراهنة، ولم تكن الحدود التي رسمتها مصطنعة (لغياب حدود طبيعية أصلا). ما تراه أوتاوي هو أن مصدر الأزمات الراهنة هو طبيعة النموذج السلطوي المركزي والأحادي الذي قامت عليه الدولة المشرقية، وقد حافظ بالقوة مؤقتاً على السلم الأهلي، وعندما طرح «الربيع العربي» خيار الديمقراطية الادماجية بديلا عن الاستقرار القمعي، لم ينجح هذا الحل لأن التجربة المعاصرة أثبتت أن الانتقال الديمقراطي يحتاج إلى دولة قوية المؤسسات مستقرة الجسم الاجتماعي، وإلا كان التحول ذاته مصدراً للتفكك والصراع الأهلي (التجربة اليوغسلافية عام 1990).

لقد حاولت سلطات الاحتلال الأميركي بلورة نموذج ديمقراطي تشاركي في المنطقة قائم على التوازنات الطائفية القومية، بيد أنه تحول في عهد رئيس الحكومة السابق نوري المالكي إلى نمط من الاستبداد الأحادي والهيمنة الشيعية التي أفضت إلى تفكيك العراق وظهور الحالة الداعشية، ولذا فإن هذه النموذج لن يكون الحل المنشود لأزمات الانتقال السياسي المطروحة في العديد من بلدان المنطقة.

ما تخلص إليه الباحثة الأميركية هو أن خريطة سايس بيكو قد انفجرت عملياً، لكن لا يبدو في الأفق أن أي حل بديل عنها ممكن التحقق في المدى المنظور.

من الجلي في ضوء هذه التحليلات التي توقفنا عندها غياب أي رؤية استراتيجية منسجمة لدى القوى الدولية الفاعلة في المنطقة، في حين لا يمكن التعويل على المسارات التفاوضية الجارية في احتواء وتسوية الأزمات الداخلية المتفاقمة التي مزقت أوصال الشرق الأوسط التقليدي. الأمل يبقى معقوداً على المبادرات الجريئة الأخيرة لترميم محور عربي إسلامي فاعل ومستقل ومؤثر، بما عكسته انتصارات التحالف العسكري الخليجي العربي في اليمن ونتائج زيارة الملك سلمان للقاهرة وقرارات القمة الإسلامية الأخيرة التي أظهرت حالة إجماع واسعة ضد السياسات الإيرانية العدوانية وكشفت عن قوة وفاعلية النواة الجديدة للنظام الإقليمي الشرق أوسطي.

د.السيد ولد أباه

صحيفة الاتحاد