الديمقراطية المستقرة وإشكالية المجتمع المتعدد في العراق

الديمقراطية المستقرة وإشكالية المجتمع المتعدد في العراق

index

في زمن الأزمات التي تهدد أمن بلد ما تتماثل الزعامات التي كانت بالأمس تتسابق نحو مكاسب ما لكي تقف متوحدة صفًا لردم الهوة التي تتسع لتبتلع البلد بأكمله، وبالرغم من كون طبيعة الحرب مع تنظيم الدولة ذو مؤثر داخلي وخارجي، فإنّ بإمكاننا القول أنّ طبيعة مواجهته تتطلب مجهودًا متفردًا يضع استقرار النظام السياسي في البلد ضمن أولى الاهتمامات.

إنّ التغيير الذي كان من المؤمّل المضي به في عراق ما بعد استبعاد المالكي أضفى شعورًا بالتفاؤل، بالرغم من كون الإرهاب أطلّ برأسه على العاصمة من كل جانب، فكان بالإمكان أن يمهّد مثل هكذا توافق بين مختلف القطاعات لحصول أُلفة مع نظام الائتلاف الواسع للحكم الذي شعر الجميع بضرورته لاسيّما في ظرف حاسم كهذا الذي يمّر به البلد، حيث كان من الأرجح أن يؤدي إلى ثبات نسبي للنظام السياسي والديمقراطية الناشئة، بعدما تختبره النخب وقيادات القطاعات وتستشعر الحاجة لتطبيقه من أجل بلوغ ديمقراطية توافقية مستقرة.

لكن طبيعة انقسام المجتمع إلى قطاعات متعددة والذي يتبلور نشاطها بشكل حاد من خلال جماعات المصلحة والأحزاب ووسائل إعلامها إتّبعت منحا غير إيجابي، غير أنّ المشكل الذي يجعل ميزة التعدد عبئا يثقل كاهل البلد ويولّد المشكلات والإنشطارت العميقة ويشعل فتيل الحروب الأهلية هو الولاءات المغلوبة بتأثير قوى خارجية إقليمية أو دولية، فكون المصالح تلقتي وتتقاطع مع القوى الخارجية فهذه مادة الحركة السياسة والتنمية الاقتصادية، لكن أن تغلب الولاءات الخارجية الولاء للوطن ومصلحة الحفاظ على النظام السياسي الديمقراطي فهنا مستودع الخطر الجسيم ومكمن التهديد المباشر.

لقد حظي المجتمع العراقي بتعدد فسيفسائي مميز، لغوي ومذاهبي شبه متوازن، حيث أكبر القطاعات (الشيعة والسنة والكورد) تتقارب في مستوى الحجم وتتوزع كل منها على حدى في جغرافية تعتبر الأكثرية فيها مقارنة بالقطاعات الأخرى، فضلا عن كونها تكتلات كبيرة تسهّل مسألة توسدة الحلول وموائمتها وبناء ديمقراطية توافقية مستقرة لا مركزية المركز ومركزية الأطراف، لا يمكن الاستغناء عن أي من القطاعات في ظلها أو تهميش واحدة على حساب أخرى وإن كانت متفاوتة قليلاً.

وتبقى مسائل تعتبر شائكة تأتي على المساواة والعدالة وتُبقي على شعور أكثر من قطاع بالظلم إذا لم تُدر الأمور بطريقة تضمن الحقوق الكاملة لجميع القطاعات المتعددة، ولربما تأتي على رأس تلك العقبات مسألة توزيع الثروة، فإذا كانت حقول النفط وخزانات المياة تقع تحت سيطرة قطاعات على حساب قطاعات أخرى فإنّ وضعًا كهذا لن يجعل منه أرضًا منسبطة لحلول ناجعة ما لم تُوزّع تلك الثروات بعدالة مطلقة من القيود والشروط والمساومات الآنية والمستقبلية، والعقبة الثانية تتعلق بالعاصمة بغداد ومدينة كركوك المدينتان اللتان تتداخل فيهما بكثافة سكانٌ من كافة القطاعات المتنوعة، ممّا يجعلهما عصيّتان على أي حلّ دون الرضوخ لإدارة ائتلافية متوافقة أو إعادة توطين السكان، ويكاد يعدّ الأخير أمرًا مستحيلاً، وتعتبر الجغرافية المتنازع عليها بين مختلف تلك القطاعات فتيلا موقوتًا قابلاً لإشعال الحروب الأهلية جراء أطماع قطاعية خاصة على حساب قطاعات أخرى، واللّافت في الأمر أن يطلب بعض قادة القطاع العربي السني الذي يعتبر المتضرر الأكبر والحلقة الأضعف بين تلك القطاعات بنظام الأقاليم على أساس ديموغرافي دون الوقوف على مصير تلك المسائل المصيرية.

الحلول السلبية:

أولاً: إنّ من شأن تلك التقاطعات العميقة أن تأتي على أخضر البلاد ويابسه، ولذلك تأتي من بين أسوء الحلول التي قد تجنّب البلاد الويلات والتطاحن الدموي المضي نحو تقسيم البلاد إلى ثلاثة دول مجاورة تأخذ الأمن الاقتصادي والبعد الجيوثقافي لكل منها بعين الاعتبار؛ لتكون حلاً نهائيًا لفض نزاع لن ينتزع فتيله كائن من كان إلا بالتسوية الشاملة المرضية للجميع.

ثانيًا: أما ثاني الحلول السيئة فهي العودة بالبلاد إلى نظام الحزب الواحد حيث تعمل آلات السلطويّات ومبررات حماية الوحدة والمصلحة الوطنية عملها لإعادة تكوين مجتمع جديد يمجّد المستبد، ولا تبرر إشكالية تعدد المجتمعات الحنين للماضي الغابر وما جرى فيه من جرائم لم تستثني أحدًا، فضلاً عن كون الأنظمة الشمولية فاشلة في مجال التنمية الإقتصادية وناجحة في تبديد الثروة القومية الطبيعية والموارد البشرية، كما لن يكون بمقدور أحد أو باستطاعته أن يحرف مسار الولاءات الخاصة بالقطاعات المتجذرة، لكونها تعصي ذاتيًا على التصفية لتَجذر الإنتماء الخاص فيها، فكيف بها وهي تستمد العون من الخارج.

ثالثًا: يتبقى حلّ من بين تلك الحلول الذي يعتبر الأقل سوءً، وهو نظام الحزب المتآلف الواحد الذي يتمثل فيه قيادات كافة القطاعات المتعددة، وقد يعتوره خللان رئيسان، الأول صعوبة تمثيل تلك القطاعات بقيادات تعبّر بصدق عن الأنشطة السياسية الحزبية لها ويعني أيضًا صعوبة ضبط الأتباع وأنشطتهم المحتملة، ثم احتمالية أن يتجه رأس السلطة باتفاقات ضمنية نحو احتكار النفوذ العام وخصخصته على اعتبار كون النظام غير ديمقراطي وإن كان توافقيًا.

الحلول الإيجابية:

أولاً: نظام الحزبين المعمول به في أنظمة تتمتع بنسيج اجتماعي معتدل كالولايات المتحدة وبريطانيا يعتبر حلاً مثاليًا، بالرغم من كون مجتمعات العالم الثالث تتمتع بنسيج اجتماعي عالي التنوع، فلو أخذنا بنظر الاعتبار انتشار الوعي لدى النخبة وقدرتها على ضبط الأتباع وقيادتهم نحو هدف يحقق مصلحة القطاع الخاص إلى جانب المصلحة العامة للبلاد، فإنّ هذا النوع من الأنظمة الديمقراطية ستفرز شكل الحكومة إلى جانب المعارضة ويؤدي إلى نظام ديمقراطي مستقر على المدى البعيد، لكن الأمر سيتوقف على ظهور قيادات مدنية جديدة للساحتين الاجتماعية والسياسية منفتحة للاختلافات والتقاطعات بدلا من الحالية ذات المواقف الصلبة، بحيث تتساقط جميع الأحزاب الصغيرة والضعيفة في عملية انتخابية محددة بعتبات معينة ويتبقى أقوى حزبين يمثّلان توجهات الشارع بأطيافه وتوجهاته لينتقل الصراع من كونه محصور بين دفتي القومية والطائفية ليكون صراعًا سياسيًا براغماتيًا بحتًا، لكن قد يقول قائل من سيضمن كون الحزبين الأوّلين لن يكونا ممثلين لقطاع من القطاعات وإن كان تمثيلاً غير مباشر؟ في الحقيقة هذا ما يجعل هذا النظام يبدو أقرب للمثالية من كونه واقعي قابل لجني ثماره، ومهما تتعاظم الجهود تجاه الميل لتحقيق الديمقراطية فإنّ مسألة عودة تأثير الولاءات الخاصة تكون أكبر من أي جهد، وإن سُنّت قوانين تمنع قيام الأحزاب على أسس طائفية أو قومية فإنّ هذا يختلف مع روح الديمقراطية إلى جانب امتلاك جميع القطاعات القدرة على المناورة والالتفاف على مثل تلك القوانين بطريقة غير مباشرة عبر تأسيس أحزاب بعناوين وأشكال مدنية مع بقاء التوجه أو المضمون على حاله، كما يفعل الإسلاميون الذين يمتلكون باعًا طويلاً من الخبرة في مرواغة مثل هذه الموانع، لذا الأمر مرهون بمدى وعي وتطور الممارسة الديمقراطية لدى الشعب وشعوره بحاجته لها كحاجته للأمن والغذاء والماء والدواء.

ثانيًا: نظام الأحزاب الثلاثة : إذا سلّمنا بكون أكبر القطاعات في المجتمع العراقي هي الشيعية والسنية والكوردية، فإنّ إجراء الإنتخابات ضمن كل قطاع على حدى يعتبر حلاً مقبولاً ليخرج حزب واحد فقط يمثّل أنشطة قطاعه، ومن ثم تشكيل حكومة إئتلافية واسعة على أن تُمثّل وبنصّ دستوري الأقليات فيها تمثيلا ثابتًا يراعي حقوقها في السلطة والثروة ومختلف الواجبات والاستحقاقات الأساسية والثانوية الأخرى بغض النظر عن أحجامها، لا

مثل هذا النظام يقلّل التفتّت ويقرّب الفجوة المتباعدة بين مختلف الأطراف ويسهّل من مسألة اتخاذ القرارت والوصول إلى اتفاقات بطرق الحوار والتشاور الشخصي المباشر بين قيادات القطاعات بعيدا عن الاستعراضات البرلمانية أمام عدسة الكامرات، وكلما تعدّدت الأحزاب كلما جعل مسألة استقرار الديمقراطية يبدو أمرا أبعد منالا وأكثر صعوبة وأشدّ تعقيدا، بمعنى أنّ الديمقراطيات لا تستقر غالبا عندما تتجاوز عدد الأحزاب خمسة أحزاب كحد أقصى أو تقلّ عن حزبين كحد أدنى، والوضع الأمثل في الديمقراطية التوافقية هي ثلاثة أحزاب فحسب، حيث يبدأ المطاف بتشكيل حكومة إئتلافية وينتهي بديمقراطية مستقرة قائمة على التوافق .

ثالثًا: لا شك أنّ الحلول السابقة تتجاوز مسألة التعويل على القوة المركزية للحكم كضمان للحقوق والوحدة والسيادة والحفاظ على الأمن وعدم التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية لكلّ إقليم إذا ما تمتع باللاّ مركزية في الحكم، لكن كل ذلك لا يعد شيئًا أمام غبن دفين يجثم باطن صدور أتباع قطاع على قطاعات أخرى يتبلور في لحظة ثورية ما على شكل انفعالات صفراء خارجة عن السيطرة وبدواعي الانتقام وانتزاع الحقوق تندلع حروب أهلية دموية، فيفسد كل شيء وتزداد المواقف تطرفًا والجروح تعمقًا والفوضى انتشارًا ولا يسمع سوى صوت أزيز الرصاص، حينها سنقول لماذا لم نعش مستقلين على أن نعيش قتلة أو مقتولين أو مشردين ومذعورين ؟

يكمن إذاً هذا الحل في تفعيل النصوص الواردة بالدستور العراقي الحالي فيما يتعلق بالفدرالية، أو تعديل تلك النصوص لتناسب وضعًا يحقق مصلحة الجميع ويعزز إلى حدّ ما قوة المركز إلى جانب تحقيق طموحات الأقاليم أو المحافظات، إنّ ما أدعو إليه هنا بتواضع شديد هو الفدرلة على أساس جغرافي لا قومي ولا طائفي، تشكل وحدات حكومية صغيرة في كل محافظة من الـ ١٩ محافظة، تُعطى حكوماتها صلاحيات كبيرة في إدارة الشؤون العامة كالخدمية والتنمية المحلية فضلا عن إدارة الملف الأمني بقوة مشكّلة من بين أبناء المحافظة نفسها، ويعتبر إعادة تطبيق التجنيد الإلزامي مسألة ملحا لتتجدد الدماء داخل المؤسسة العسكرية وتتمتع بالاستقلالية، وتكون بعيدة كل البعد عن التجاذبات الضيقة مقتصرة على وظيفتها في تأمين الحدود بعيدًا عن المدن والمدنيين.

وتعتبر الموارد الاقتصادية للبلاد في جغرافية أي محافظة ملكا لكل الشعب العراقي تُوزّع مساواةً من خلال المركز، كما تُوزّع حاليا على مختلف الإدارات المحلية، كما ينطوي ذلك كله على العاصمة بغداد وكذلك كركوك المتنازع عليها رغم تمتعهما بتنوع طائفي ولغوي محلي، لكن تبقى مسألة إدارة الحكومات بالائتلافات الحل الأفضل في مثل هذه الظروف، خصوصًا وأنّ صُغر حجم الحكومة يسهّل من عملية التوافق واتخاذ القرارت وحلّ المشكلات وتقليل التقاطعات، ويعاد ترسيم الحدود بما يرضي مختلف القطاعات دون أن يكون على حساب أي قطاع آخر، وقد تساهم مسألة تشكيل مجالس من الزعامات القطاعية بصلاحيات تشريفية في ردم الهوة الحاصلة بين مختلف القطاعات، لاسيّما إن كانت تلك الزعامات حقيقية وتمتلك القدرة على توجيه الأتباع نحو ما يحقق التصالح والعدالة المنشودة وضمان الحقوق للجميع، تتوزع إذاً الصلاحيات بين المركز والأطراف ويُدار المركز بأي من أنظمة الحلول الإيجابية أو غيرها، على اعتبار أنّ الديمقراطية والثروة والحقوق باتت مضمونة للجميع فلا يتبقى له سوى شكل حكومة تسيير الأعمال وما نحو ذلك.

لا شك إنّ عدم وجود مهندسين للديمقراطية التوافقية عطّل التنمية السياسية والإجتماعية بحيث بات السياسي إلى جانب الاجتماعي يلحقان بالحدث ولا يكادان يواكبانه، في الوقت الذي يجدر بهما أن يكونا عاملين مؤثرين في استقرار النظام الديمقراطي بدل أن يكونا مزعزعين له في تقديم المصالح الفئوية على العامة أو الرؤى الخاطئة بغية الحلول، كما يخطأ حين يبادر الصدر كقائد اجتماعي وسيسيّوه بالبرلمان وأتباعه بالساحات ليطلّ رأس الفساد والاستبداد ممثَّلا بالمالكي وأعوانه إلى الواجهة من جديد، مستغلّين اجتهادات ليست بالمناسبة في الوقت الذي يعيش فيه البلد حالة حرب شرسة مع الإرهاب وأزمة اقتصادية خانقة وانشطار مجتمعي حاد.

إنّ القيم الأساسية كالتمسك بالديمقراطية كمسار وحيد للحلّ والمنادة بإحقاق الحقوق المشتركة كالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، تبقى حديث العمق من الأتباع لاسيّما أتباع تلك القطاعات التي تشعر بالحيف والتآمر، فعدم المساواة في توزيع الثروة أو قضم الأراضي أو التحكم بالشرايين المائية تعتبر قضية جرم بحقّ قطاع من قبل قطاع لا ولن تسقط بالتقادم، وما كانت ولم تكن لتُنسى بل يتوارثها الحفدة من الأجداد كابرًا عن كابر كما هي اليوم قضية الفلسطينين مع الاحتلال الإسرائيلي وقضية الكورد مع أنظمة البلدان التي يتوزعون فيها، وقضية العرب السنة مع الشيعة والكورد في العراق.

 زيد الهاشمي
نقلا عن التقرير