يأتي مشروع القانون الذي يناقشه الكونغرس الأميركي اليوم، ويتيح لأهالي ضحايا أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 مقاضاة السعودية، ليعزز من الشرخ الكبير في العلاقة بين الدولتين. وهو الشرخ الذي ظهر بقوة منذ تلك الأحداث، ووصل في الأشهر الماضية إلى مرحلة متطوّرة جداً، تؤذن بنهاية التحالف التاريخي الاستراتيجي بين الدولتين!
الإدارة الأميركية اعتبرت مشروع القانون مضرّاً بالأمن القومي الأميركي، وبيد الرئيس في حال إقراره من الكونغرس حق استخدام “الفيتو” ضده، ما يصعّب تصوّر أن يتم تمريره. لكنّ الضرر الكبير حدث فعلاً على الصعيد السياسي والدبلوماسي والرمزي بين الدولتين؛ إذ لم يتردد وزير الخارجية السعودي في التهديد بأنّ بلاده ستسحب أصولها التي تقدرها بأكثر من 700 مليار دولار من الولايات المتحدة الأميركية.
بالعودة إلى مشروع القانون، فهو يرتبط بتقرير استقصائي أجري حول أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، لكن صفحات فيه أخفيت، قيل إنّها تخص مسؤولين سعوديين، ليس على مستوىً عالٍ، متورطين في الأحداث. وهو الأمر الذي تطالب السعودية نفسها بكشفه، حتى تتمكن من التحقيق في الأمر والتأكد منه، بدلاً من أن يبقى سيفاً مصلتاً على رقبتها.
بغض الطرف عمّا في التقرير، فإنّ القناعة الأكيدة لدى المحافظين الجدد -الذين كانوا في موقع القوة لحظة تلك الأحداث، وتيار واسع في الأوساط الثقافية والسياسية الأميركية- تتمثل في تحميل السعودية مسؤولية جسيمة عن صعود “القاعدة” وتصدير الإرهاب إلى الدول الغربية، عبر التزاوج بين التيار السلفي العام والحكم السعودي من جهة، وبسبب أنّ أغلبية من قاموا بتلك الأحداث هم سعوديون.
ومن يعود إلى الأدبيات الهائلة التي خرجت بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر)؛ على صعيد الكتب ومراكز الدراسات والتفكير في واشنطن، سيجد هذه القناعة الناضجة، والتي تُرجمت لاحقاً عبر الفرضيات التي تقول بأنّ صعود الراديكالية الدينية في العالم العربي ناجم بدرجة كبيرة عن تصدير مشكلاته للغرب، وذلك يعود لضعف عملية الإدماج والدمقرطة والتمثيل السياسي، وأنّ الولايات المتحدة الأميركية تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية بسبب “الصفقة التاريخية” التي عقدتها مع أنظمة الاستبداد الأتوقراطية في المنطقة العربية، ما جعل الشعوب تنظر إلى الولايات المتحدة بوصفها عدواً لها، وهي العقيدة التي تبنتها “القاعدة” عبر عكس مصادر العداء، لجعل “العدو البعيد” (الولايات المتحدة) مقدّماً على “العدو القريب” (الأنظمة العربية).
هذه الاستخلاصات الاستراتيجية انبثق منها ما سمي “مبادرة الشراكة الأوسطية”، أو مبادرة كولن باول؛ وزير الخارجية الأميركي حينها، بتوسيع العملية الديمقراطية في العالم العربي، وتبني الإدارة الأميركية مفهوم الإصلاح بدلاً من مفهوم الاحتواء والإسناد.
وقد تعرّضت تلك العقيدة لهزة عنيفة ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق وأفغانستان، وتراجعت عنها إدارة جورج بوش الابن في الفترة الأخيرة، وعزز هذا التراجع الرئيس أوباما. لكن القناعة حول السعودية بقيت مكبوتة في دوائر القرار والأوساط السياسية والثقافية الأميركية، إلى أن انفجرت لاحقاً مع الأعوام الأخيرة وصعود “داعش”، والصفقة النووية الإيرانية-الأميركية، وتراجع قيمة النفط في العلاقات الدولية، وكذلك أولوية الشرق الأوسط في الاستراتيجيات الأميركية.
ظهر “الشك” بوضوح في مربع العلاقات الأميركية-السعودية، ولم تعد المملكة بحاجة إلى أدلة أو براهين جديدة حول الموقف الأميركي الحقيقي منها، بعد صدور مقال جفري غولدبرغ الشهير “عقيدة أوباما”، والذي يعيد تأكيد الرؤية السلبية الشديدة تجاه السعودية، لدرجة وصفها من قبل الرئيس الأميركي بـ”من يسمون حلفاءنا”.
الطلاق التام لم يحدث بعد بصورة كاملة بين الدولتين، بما يؤثر على مجمل العلاقات الدبلوماسية. لكن عملية الطلاق بدأت منذ قرابة عقد ونصف العقد، وهي متدحرجة، وما حدث مؤخراً رأس جبل الثلج فقط !
محمد ابو رمان
الخليج الجديد