وقع عدد قليل بأن الحكومات الاستبدادية مستقرة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ستسقط في غضون أشهر في سنة 2011، كما أعلن البعض أن الربيع العربي قد انتهى بفشل الثورة أمام أعدائها الذين يستخدمون تارة السياسة وتارة العنف للمواجهة.
فأخبار الشرق الأوسط بعد الربيع العربي في مجملها غير سارة، ولكن الحقيقة أكثر تعقيدًا من هذا، فالإطار الزمني قصير جدًا لفهم الوضع فهمًا شموليًا كاملًا.
فالقول المتشائم والذي يصرح بأن فشل الربيع العربي في سنة 2016 قول ساذج، كما أن القول المتفائل الذي صرّح بنجاح الثورة في بدايتها سنة 2011 ساذج أيضًا. ولكن شيء ما سيحدث بعد كل هذا، ولكن ما هو؟
قد يستغرق الأمر جيلًا أو أكثر لإدراك آثار الربيع العربي. وهذا ما توصل له أيضًا مهران كامرافا، الأستاذ بجامعة جورج تاون، واعتبر أن “قرارات الصفقة” في الشرق الأوسط في تغير مع بداية الربيع العربي، كما أن المخرجات لم تحدد بعد. ولا أحد يعلم ما هي هذه المخرجات.
في عديد من الدول مع بداية الاحتجاجات، حدثت بعض التغيرات المتنامية والصغيرة الهادئة، حتى في مصر. عند البحث في جذور هذه التغيرات نجد اكتشافًا جديدًا للشعور المشترك لدى شعوب الشرق الأوسط وحذر من التغيرات السريعة التي قد تخلق الفوضى.
فرض الربيع العربي بعض التعديلات والمراجعات على بعض الدساتير، مع ظهور دعوات لعقود اجتماعية جديدة وإدراج التعددية في المجتمع، والمساءلة والمشاركة. كما أعيد تعريف علاقة الشعوب بمختلف الديانات والطوائف والقوميات.
كما أن مجادلات إدارة قيم الإسلام للمجتمع تجري على شقين؛ السلمي والحربي، أعيدت صياغة دور النساء وحقوقهن ومسؤولياتهن في المجتمع، رفض الشباب الانصياع لأوامر الركود والاستقرار الذي رضخ له الآباء. بالإضافة لإدراك رجال الأعمال والقيادات الحكومية ضرورة إعادة صياغة النظم التعليمية والنماذج الاقتصادية التي بالكاد توفر بعض الفرص للشعوب.
ولكن في دول أخرى تغيرت الحدود وظهرت أمواج المهاجرين والنازحين من مناطق الصراع، وكانت سببًا في معانات البشرية، في هذه الدول كشف الربيع العربي بشكل واضح انشقاقات عدة ذات أبعاد دينية واجتماعية أساسها السياسة والعرق.
بعض المناطق في الشرق الأوسط من المستبعد أن تعرف الاستقرار والازدهار لعقد آخر أو أكثر؛ بسبب معاناة المدنيين؛ البدنية والعقلية، والمجتمعات المحلية والتي قد تستغرق أجيالًا لتشفى منها.
هناك قناعة واضحة بأن دول الشرق الأوسط في مجملها لم تعد تبحث عن الديمقراطية بعد أحداث الربيع العربي سنة 2011، وهذا ما استنتجه طارق مسعود، أستاذ بجامعة هارفرد، فقال: “يبدو أن الديمقراطية العربية بعيدة اليوم عن المتناول أكثر من 25 سنة الماضية”.
كما اقترح أن الديمقراطية الليبرالية ليست المقياس الوحيد الذي يمكن اعتباره بعد الربيع العربي، فأهداف الربيع العربي كثيرة من بينها أهداف سياسية، واقتصادية، واجتماعية وقانونية، يجب أن تجتمع كلها لبناء مجتمع قوي. فنحن نخلط مصطلح الديمقراطية بمجموعة من العناصر التي تبني مجتمعًا صالحًا، رغم أن الانتخابات الديمقراطية عنصر مهم.
هناك تغيرات أخرى في دول الشرق الأوسط ولم تغرق في مستنقع الحرب الأهلية، وتبعث على التفاؤل على المدى البعيد؛ من أبرز هذه التغيرات: الإطاحة بالحكومات الراكدة، المساءلة، تجربة نماذج حكومية، السعي إلى إنشاء عقود اجتماعية جديدة من خلال إعادة صياغة الدساتير، ظهور محفزات اقتصادية، زيادة الاستثمار في الخدمات العامة، كبح جماح سلوك الشرطة أو على الأقل فتح نقاشات عمومية حول هذه السلوكيات، والشعور الشعبي الذي ساد بأن حرية التعبير حق لا رجوع فيه، وغيرها من الإنجازات.
ما يمكن أن نتعلمه من خلال الموجات العظيمة من ثورات التاريخ المعاصر؟ الثورة الأمريكية، الثورة الفرنسية، ثورة “الربيع الأوروبي” سنة 1848، الثورة الروسية وثورات 1989 التي اجتاحت أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي. على الرغم من أنها وقعت بأشكال مختلفة، إلا أن تأثيراتها لم تفهم إلا بعد عقود من الزمن. بينما ما زلنا نتعلم من التاريخ إلا أن كل ثورة فريدة من نوعها.
لا أحد بإمكانه توقع المستقبل، لم يتوقع أحد أن تسقط بعض حكومات الشرق الأوسط في غضون أشهر في سنة 2011. قبل خمس سنوات لم يتوقع كثيرون أن تعلن مجموعة إسلامية في القرون الوسطى خلافاتها، وترتكب عنفًا وحشيًا ضد سكان المنطقة وتسيطر على أراضٍ بالعراق وسوريا. كما أنه بعد ثورة مصر 2011 لم يتوقع كثيرون ثورة ثانية في 2013.
كيف سيكون حال الشرق الأوسط بعد عقود من الآن؟ فما زلنا تحت وقع الصدمة حتى الآن. بعيدًا عن اضطرابات الربيع العربي اليوم، من بين السيناريوهات المتشائمة؛ تتوقع تواصل العنف والحرب وتتوقع أن يصبح تنظيم الدولة دولةً، وتتوقع أن تقوم ثورة أخرى في مصر جراء القمع الواقع الآن.
ولكن هناك سيناريو آخر متفائل؛ يتوقع أن تترجم المثل العليا إلى مؤسسات وأن تبنى المجتمعات المزدهرة وينمو الاقتصاد وتتحسن جودة التعليم، وتصبح التعددية والمساواة في الحقوق أمام القانون بغض النظر عن الهوية أمرًا واقعًا، كما سيمنح المواطنين الحق في تحديد مستقبلهم.
لكن من المؤسف أن هذا الجيل لن يكون شاهدًا على نتائج ثورته، ولكن ما سيحدث بعد عقدين عندما يصبح جيل الشباب الذي أسقط الحكومات حاضرًا في دور القيادة في المجتمع؟
عندما ينتفض الشباب للإطاحة بالحكومات والمطالبة بالتغيير القسري، سيضطر يومًا إلى تحديد التطور التدريجي الضروري لدعم المثل العليا للربيع العربي.
نيوز ويك – التقرير