من وقت لآخر، السياسيون يعنون ما يقولونه. هذا يبدو أنه الحال مع تيريزا ماي، رئيسة وزراء بريطانيا الجديدة. بالنسبة لديفيد كاميرون، الحقيقة البسيطة لتوليه منصب رئاسة الوزارة كانت كافية في الغالب. السيدة ماي، التي مُنحت الوظيفة بسبب فشل مقامرة كاميرون في استفتاء خروج بريطانيا، تُقدّم كل مظهر لوجود خطط لفترة توليها منصب رئاسة الوزارة.
من غير الشائع إيلاء الكثير من الاهتمام للخطابات السياسية. الأكثر إثارة للاهتمام هو اكتشاف الأخطاء وأوجه التضارب المُفترضة. غير أن بيان ماي القصير خارج مقر الرئاسة في أول يوم لها في المنصب يحمل لمحة ثانية. وفقاً لحساباتي، الخطاب يتكون من 650 كلمة فقط. الأمر الواضح هو أن القضية التي دفعتها إلى السلطة، والتي لا تزال يُمكن أن تجعلها دون مستوى الأنظار، لم تحصل سوى على 75 كلمة منها.
مع الطاقم الوزاري
بالنسبة لمعظم بقية الخطاب، وعدت ماي على الفور بعلامة تجارية ألطف للرأسمالية وحكومة مستعدة للتدخل لتسوية الفوارق وتحدّي المصالح الخاصة. وقد سلّطت الضوء على العمر الأقصر وضعف مستوى التعليم للأقل حظاً، والتمييز العِرقي والتمييز بين الجنسين، وفرص العمل وانعدام أمن الدخل بين ما يحب السياسيون وصفه بطبقات الكادحين. “عندما يتعلّق الأمر بالفرصة، لن نقوم بترسيخ مزايا القلّة المحظوظة”.
هذه التعليقات تستحق النظر جنباً إلى جنب مع الخطاب الوحيد الذي ألقته ماي في سباق قيادة حزب المحافظين المُختصر. هذا أيضاً يتعلّق بالسياسة الداخلية وليس القرار المهم جداً لإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. في الخطاب، طرحت مجموعة من الأفكار لتحسين الطريقة التي يعمل بها الاقتصاد، بما في ذلك تعيين ممثلين عن العمال والمستهلكين في مجالس إدارة الشركات، وإلزام تصويت المساهمين فيما يتعلّق برواتب المسؤولين التنفيذيين وضوابط أقوى على عمليات الاستحواذ الأجنبية.
رد الفعل غير المحسوب لهذه الاقتراحات الأخيرة كان أن الحكومات لا ينبغي أن تتدخل في عمل السوق. النقّاد لم يصدروا أي تعليق. تطورت الأمور منذ السبعينيات. طريقة تعامُل السير فيليب جرين مع بيع متجر بي إتش إس المُنحلّ – الذي تمت إدانته بحق وبشدة هذا الأسبوع من قِبل لجنة من أعضاء البرلمان، باعتباره الوجه غير المقبول للرأسمالية – كان في النهاية البعيدة من النطاق. لكن لمحة على الطريقة حيث الزيادات في أجر مجلس الإدارة تفوقت عليها تحسينات كبيرة في أداء الشركات خلال العقد الماضي، أو نحو ذلك هو دليل كاف على وجود مشكلة أعمق بكثير. هناك الكثير من تحقيق الأرباح والقليل جداً من إيجاد الثروات.
هناك رد سطحي آخر يقول إن جميع رؤساء الوزارة الجُدد يعدون بحُكم البلاد ككل. ماي بالكاد وقفت على عتبات داونينج ستريت ووعدت بتنفيذ مبادئ حزب المحافظين، لأمة واحدة وليس لأمتين. هناك كلمات وكلمات. عندما صاغ جورج أوزبورن، وزير المالية السابق، عبارة “نحن جميعاً في هذا معاً” لوصف نهجه نحو التقشف، تمت مناقضة هذه المشاعر من قِبل الإجراءات التي اتّخذتها وزراة الخزانة. تم تحميل التقشف المالي بشكل كبير على تخفيضات الإنفاق وليس على الضرائب الأعلى، لضمان أن الألم شعر به الأقل ثراءً بشكل غير متناسب. يغلب على الظن أن ماي لن تُكرر هذا الخطأ.
حتى مع وضع اضطراب خروج بريطانيا جانباً، يقول مسؤولون في وايتهول إن انتقالها إلى داونينج ستريت يبدو كثيراً كأنه تغيير في الحكومة بدلاً من مجرد تغيير رئيس الوزراء. لقد أعادت بعض الشكلية بدلاً من لُطف مجموعة نوتينج هيل التابعة لكاميرون. الأهم من ذلك، هي لا تشاطر الليبرالية الحضرية لأسلافها الأخيرين. بحسب تفكيرها، الحقوق تأتي مع مسؤوليات، بالنسبة لرجال الأعمال بقدر ما هو لأي شخص آخر. هذه المسؤوليات تتجاوز مراعاة نص القانون.
سيكون من المثير للدهشة إذا لم يكُن تهرب الشركات العملاقة الرقمية مثل أبل وأمازون وجوجل من دفع الضرائب على رأس قائمتها فيما يتعلّق بهذا الشأن. هذه الشركات – التي تتجاوز عالم التكنولوجيا – تكتفي مُدّعية أن الهياكل الضريبية عبر الحدود المُعقدة الخاصة بها من الناحية التقنية لا تنتهك القانون. لقد فشلت في إدراك أن اقتصادات السوق الناجحة تعتمد على الاعتراف بالمعايير والقواعد والمسؤوليات المشتركة التي تتجاوز كتاب القوانين.
من الإنصاف القول إن الاحتمالات تعمل ضد رئيسة الوزراء. من الممكن تماماً أن عملية خروج بريطانيا ستغمر كل شيء آخر. الآليات الأساسية لسحب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ستستهلك كميات هائلة من الطاقة السياسية والإدارية. بريطانيا لا تستطيع حتى البدء بالتفاوض على صفقات تجارية جديدة قبل أن تضع أولاً أُطر العمل الزراعية والبيئية والتنظيمية في الوقت الحاضر، التي تُقدّمها بروكسل.
الهيكلة التي أنشأتها ماي لتنفيذ المهمة – الفصل بين وزارة الخارجية ووزارات خروج بريطانيا والتجارة الجديدة – تبدو غير مستقرة بطبيعتها. وهذا قبل أن تواجه رئيسة الوزراء الحجج التي تنفجر داخل حزبها حول ما إذا كان التصويت في الثالث والعشرين من حزيران (يونيو) الماضي، هو لخروج بريطانيا على نحو “صعب” أو “سهل”.
على أن ما ينبغي أن يكون واضحاً هو أن ماي تنوي شيئاً ما. تصويت الاستفتاء كان تعبيراً عن الاستياء من النخب وعمل اقتصاد السوق الليبرالية بقدر ما هو رفض لأعمال بروكسل. الشيء نفسه يُمكن قوله عن صعود الحركات الشعبوية في جميع أنحاء أوروبا. “حزب العمّال غير ناجح”، هذا ما صرّح به المُلصق الانتخابي الشهير لحزب المحافظين، قبل أن تجتاح مارجريت تاتشر السلطة عام 1979. يُمكن قول الشيء نفسه الآن عن النموذج الحالي للرأسمالية، الذي يقول إن كل شيء مقبول. وبالتالي فإن إصلاح الرأسمالية يعني أن تصبح أكثر إنصافا.
*نقلاً عن “الإقتصادية”