لم تشهد سوق النقد الأجنبي في مصر ضغوطا كتلك التي تواجهها حاليا، ولم تتراجع قيمة الجنيه أمام الدولار بمثل هذه السرعة التي نراها الآن. فعندما قامت ثورة يناير في 2011، كان معدل صرف الدولار نحو ستة جنيهات. اليوم تشير الأخبار إلى تجاوز معدل صرف الدولار حاجز الـ 13 جنيها، أي أن الجنيه فقد نحو 54 في المائة من قيمته أمام الدولار في السوق السوداء، أما في السوق الرسمية حيث يساوي حاليا 8.85 جنيها فقد فَقدَ الجنيه نحو 32 في المائة من قيمته أمام الدولار. جانب كبير من هذا التراجع حدث في هذا العام. ففي الأول من يناير 2016 بلغ معدل صرف الدولار في السوق السوداء 8.65 جنيه، بمعنى أن الجنيه فقد 32 في المائة من قيمته خلال الأشهر السبعة الماضية، بينما فقد 12 في المائة فقط في السوق الرسمية.
ولكن لماذا المقارنة ببداية ثورة يناير؟ الإجابة تكمن في أن التغيرات السياسية العميقة، وحالة عدم الاستقرار الأمني التي تلتها، وتدهور الأداء الاقتصادي هي ما جر معه معدل صرف الدولار نحو المستويات الحالية، هذا بالطبع إضافة إلى مجموعة من الأخطاء التي ارتكبها البنك المركزي منذ الثورة وحتى اليوم.
قد يتساءل القارئ: لماذا القلق من تدهور قيمة الجنيه في السوق السوداء التي غالبا ما يعتبرها البعض سوقا هامشية؟ المشكلة الأساسية في مصر أن السوق السوداء للعملة حجمها جوهري، إلى الحد الذي يمكن القول معه إن معدل صرف الدولار في السوق السوداء هو دليل المتعاملين في سوق النقد الأجنبي. أكثر من ذلك فإن عمليات التخفيض الرسمية التي تتم للجنيه المصري تستند أساسا إلى تطورات قيمته في السوق السوداء. على سبيل المثال عندما فكرت مصر في أوائل التسعينيات في توحيد معدلات صرف الدولار استخدمت معدل صرف الدولار في السوق السوداء كمعدل رسمي للدولار.
تدور توقعات المراقبين حاليا على معدل متوقع للدولار يساوي 15 جنيها، مثل هذا التوقع يقود إلى سيادة روح المضاربة في سوق النقد الأجنبي، حيث تلعب التوقعات الدور الأساس في رفع قيمة الدولار، ومثل هذه الظروف تولد ما يمكن أن نطلق عليه مصيدة الدولار، التي تعني أن أي دولار سيتم شراؤه في هذه السوق لا يعرض مرة أخرى للبيع ويدخل المصيدة، استعدادا لإعادة بيعه مرة أخرى عندما ترتفع قيمته إلى المستوى المستهدف.
من المفترض نظريا أن المضاربة في سوق النقد الأجنبي تدفع بالسوق نحو التوازن، وذلك عندما يسلك المتعاملون السلوك الطبيعي المتوقع، وهو بيع الدولار عندما ترتفع قيمته خشية انخفاضه لاحقا “فينخفض العجز في السوق وتقل الفجوة بين العرض والطلب ويعود السعر نحو التوازن”، أو شراء الدولار عندما تنخفض قيمته خشية ارتفاعه لاحقا “فينخفض الفائض في السوق وتقل الفجوة بين الطلب والعرض، وتعود السوق نحو التوازن”، هذا النوع من المضاربة يطلق عليه المضاربة التوازنية، أي المضاربة التي تدفع السوق نحو التوازن. أما المضاربة التي نشهدها حاليا في سوق الدولار فهي مضاربة لا توازنية Destabilizing Speculation، ويحدث ذلك عندما يسلك المتعاملون سلوكا مخالفا للمتوقع، وهو شراء الدولار عندما ترتفع قيمته، اعتقادا منهم أن الأسعار سترتفع بصورة أكبر في المستقبل، فيزيد الإقبال على شراء الدولار وتخزينه، ما يؤدي إلى اتساع الفجوة بين الطلب والعرض، ويستمر سعر الدولار في الارتفاع. هذا بالضبط هو التوصيف لما يحدث في سوق الدولار في مصر في الوقت الحالي.
ولكن لماذا يحدث هذا التدهور في الوقت الحالي؟ في رأيي أن هناك عاملين يؤديان إلى تراجع قيمة الجنيه، الأول عامل هيكلي وقد تناولت ذلك كثيرا هنا على “الاقتصادية”، والثاني وهو عامل طارئ يتمثل في طبيعة الإدارة الحالية للبنك المركزي المصري، وسوء إدارته لمعدل صرف الدولار، فمن غير الواضح الأسس التي تستند إليها عمليات طرح الدولار، ولا متى يطرح، أو تأثير عمليات الطرح في السوق وتوقعات المتعاملين فيه.
في رأيي أنه في ظل الأوضاع الحالية لا بد أن يتحول البنك المركزي إلى مناور، حتى تتحسن أوضاع عرض الدولار. فإذا كان من الحتمي أن تتراجع قيمة الجنيه، فإن من أبسط مهام البنك المركزي أن يرسم استراتيجيات التدخل في السوق، حيث يقلل من معدل تراجع الجنيه إلى أقصى حد ممكن، على سبيل المثال إذا كان في ظل الوضع الحالي لا بد أن ينخفض الجنيه بنسبة 20 في المائة سنويا، فإن عليه أن يناور لجعل معدل الانخفاض هو 5 في المائة مثلا مستخدما في ذلك تكتيكات عديدة، منها التدخل في السوق عندما تبدأ بوادر اهتزاز الثقة لطمأنته، ورفع العقوبات الجنائية على المضاربين، والحد من عمليات تمويل الواردات غير الضرورية أو إيقافها، والأهم من ذلك كله عدم التأثير بأي صورة في توقعات المتعاملين في السوق، لأن أي تصريح يصدر عن البنك المركزي يمكن أن يدمر الثقة بالسوق فيضغط المضاربون على الجنيه وتنهار قيمته، إلى غير ذلك من تكتيكات.
أثناء كتابة هذا المقال علمت أن مصر على وشك بدء مباحثات مع صندوق النقد الدولي لعقد قرض قيمته 12 مليار دولار، لمساعدة الاقتصاد المتدهور حاليا، لكن هذا القرض يقل بكثير عن الاحتياجات الحقيقية لمصر. الأسوأ من ذلك أن صندوق النقد الدولي يرفض أن يقدم قروضا ما لم تكن مصحوبا ببرنامج للإصلاح الهيكلي يلتزم به المقترض غالبا، وعلى رأس قائمة الإصلاحات تبني معدلات لصرف العملة تستند إلى السوق الحرة، التي هي حاليا، كما نرى منفوخة بشكل غير حقيقي، ما يزيد الطين بلة، ومن ثم فأمام المصريين أوقات صعبة سترتفع فيها الأسعار على نحو كبير. بالطبع هناك إجراءات أخرى على رأسها الإصلاح المالي بما يتضمنه من رفع للدعم وزيادة في الضرائب، ورفع أسعار الفائدة، وغيرها من إجراءات تقشفية تأتي في التوقيت الخطأ للاقتصاد.
باختصار، أزمة الدولار الحالية في مصر يرجع جانب كبير منها إلى إدارة معدل صرفه بالجنيه المصري، أي أن مشكلة الجنيه في الوقت الحالي تكمن أساسا في البنك المركزي الذي لا يحسن إدارة معدل صرف عملته بالعملات الأجنبية.
*نقلاً عن “الإقتصادية”