يملك الناس الذين يعيشون داخل الحدود العراقية اليوم قدرة مثبتة على مفاجأة العالم الخارجي، من خلال تخطيهم التوقّعات تارةً وتخييب الآمال طوراً. وينظر المراقبون العاديون إلى التحديات والكوارث التي ألمّت بالعراق و«إقليم كردستان»، ويعجزون غالباً عن التصديق بأن البلاد، والإقليم وسكانهما سيصمدون. لكن كما حصل خلال هجوم تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») في عام 2014، فاجأ العراقيون والأكراد العديد من المراقبين بتمكنهم من التعافي بعد أن كانوا على شفا الهزيمة. وخلال الأسابيع القليلة الماضية، نجحوا في تحطيم أبواب دفاعات تنظيم «داعش» في الموصل.
إلا أن شعبي العراق و«إقليم كردستان» قد أظهرا أيضاً قدرة محزنة على التراجع إلى الخلف بعد أن كانا على قاب قوسين من النصر. ففي العراق، تبخّرت الخطوات الواعدة نحو الاستقرار بعد عام 2010 بسبب وجود حكومة لا مبالية وطائفية إلى حد كبير في بغداد. أما الأكراد فتجاوزوا قدراتهم خلال عام 2014 حين خسروا كافة دخلهم تقريباً لأنهم سعوا بشكل سريع للغاية وأحادي الجانب للغاية نحو تحقيق استقلال اقتصادي بدعم من تركيا.
والآن هناك زخم واعد بين بغداد والأكراد حول نقل سلطات سيادية إلى كردستان. وحالياً يطرح استلام ترامب لسدّة الرئاسة في الولايات المتحدة السؤال التالي: هل سيميل أكراد العراق مرة أخرى نحو “اختصار” الطريق إلى الاستقلال عبر السعي إلى الحصول على دعم الإدارة الأمريكية الجديدة لقيام دولة كردية خارج نطاق المفاوضات مع بغداد؟
المفاوضات بين الشيعة والأكراد حول الكونفدرالية
من الشائع أن يقوم القادة العراقيون، وحتى صدام حسين، بمناقشة الحكم الذاتي الكردي وحتى تشجيع الأكراد على إعلان دولة خاصة بهم. وخلال السنوات القليلة الماضية، شجع رئيس الوزراء السابق نوري المالكي كردستان من دون مبالاة على أن تصبح مستقلة: كما أدلى أحياناً رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي بتصريحات مماثلة.
ولكن لطالما كان هناك غرض ما: عندما يتحدث أكراد العراق عن إجراء استفتاء بشأن الاستقلال، تحتج بغداد على أن الوقت ليس مناسباً. أو [تتمثل العقدة] بالقادة العرب في العاصمة الذين يستخدمون إيران كعذر، ويقولون في الواقع “لا نمانع استقلال الأكراد، لكن إخواننا في الشرق هم المشكلة”.
وقد دفعت بي الأحاديث التي أجريتها مع أبرز الزعماء العراقيين الشيعة والأكراد والسنّة إلى الاعتقاد أن هذا النمط يوشك ربما أن يتغير وأن أمراً جديداً يحصل بالفعل: محادثة حقيقية بين الأكراد وبغداد حول فصل السلطات السيادية، بهدف إنشاء وضع قائم على المساواة المشتركة. وقد يتمثّل أحد أسباب ذلك بالصدمة والإنهاك الكاملين الناتجيْن عن الحرب ضد تنظيم «داعش»، وهي الحرب التي اتسمت بوحشية لا مثيل لها، حتى استناداً إلى معايير الفترات المظلمة من تاريخ العراق الحديث، وهناك رغبة باطنية بإحلال السلام بين الفصائل التي حاربت تنظيم «داعش».
ونطرح هنا السؤال التالي: مَنْ يرغب خوض حرب أخرى في الوقت الراهن؟ ربما ترغب الميليشيات الشيعية والأتراك في ذلك، لكن ليس الأكراد أو الطبقة الرئيسية الشيعية السياسية والدينية الحاكمة في العراق.
وهناك أيضاً جانب سياسي، وهو أن قيادة بارزاني ورئيس الوزراء العبادي يحتاجان إلى بعضهما البعض، ولديهما خصم مشترك يحاول التفريق بينهما ألا وهو: التحالف المتمرّد الذي يقوده المالكي وتدعمه إيران.
أما الأطراف الدولية الفاعلة على غرار الولايات المتحدة، والحلفاء الأوروبيين، و”صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي”، فيتوقون لرؤية بغداد وأربيل تتعاونان في الحملة ضد تنظيم «داعش» وعلى صعيد الإصلاحات الاقتصادية. فبغداد مستعدة للتغيير. ولم يعُد [سكان العراق من غير الأكراد] يهابون الطلاق وأصبحوا يريدون حريتهم الخاصة لبدء حياة جديدة.
ويقول الزعماء الشيعة في المجالس الخاصة إن عراقاً من دون كردستان سيكون أفضل حالاً على الصعيد المالي، ولن يحتاج بعد الآن إلى قانون للتشكيل الإقليمي. فهم يريدون عراقاً عربياً مركزياً يسيطر عليه الشيعة ويكون تقليدياً ومتماسكاً بشكل أكبر. وانطلاقاً من هذه الخلفية، تمكّن رئيس وزراء «حكومة إقليم كردستان» نيجيرفان بارزاني من بدء مناقشة صريحة لم يسبق لها مثيل في خريف هذا العام، ليس مع العبادي فحسب بل مع كافة القادة الشيعة بشأن الحاجة إلى فصل السلطات السيادية بصورة رسمية بين إدارات الشريكين المتساويين في بغداد وأربيل.
فوائد الفصل عن طريق التفاوض
في رأيي، هناك الكثير من الأسباب التي تجعل التفاوض حول الفصل السيادي أفضل لـ «إقليم كردستان» من إعلان أحادي الجانب عن الاستقلال أو اعتماد وسائل أخرى لإنشاء دولة كردية. فالتوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض مع بغداد قد يمنع إعادة عسكرة الخلافات بين بغداد و«حكومة إقليم كردستان». وتُعتبر المفاوضات بحدّ ذاتها تدبيراً لبناء الثقة والأمن. وإذا جرت الاجتماعات بوتيرة كافية، فمن الأسهل لكلا الجانبين تجنّب سوء الفهم والتواصل بشأن الخطوط الحمراء. ويتضاءل احتمال قيام أحد الجانبين بتشويه سمعة الآخر.
وقد يصبح الاحترام المتبادل والسيادة المتساوية المشتركة فكرة جذابة لكلا الجانبين لأنها ستمنع كل من بغداد وأربيل من التدخل في الشؤون الداخلية والخارجية لكل منهما. وقد توفّر بعض “قواعد اللعبة” والخطوط الحمراء الأساسية مساعدة كبيرة بشأن تبديد مخاوف بغداد من تدخل تركيا أو أي دولة سنّية، ومخاوف كردستان من أنشطة الميليشيات الشيعية (الأمر الذي سيعطي عندئذ أنقرة ذريعة للتصرف بطريقة أكثر غرابة في المنطقة).
ويمثّل وجه دولي مشترك أحد الخيارات، كما ينظر القادة الأكراد والعراقيين في [اتباع] سياسة خارجية منسّقة. وقد لمست «حكومة إقليم كردستان» الكيفية التي يمكن بموجبها أن تنجح الكونفدرالية حين رافق رئيس ديوان رئاسة «إقليم كردستان» فؤاد حسين رئيس الوزراء حيدر العبادي في جميع لقاءاته في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
ولعل الأهم من ذلك، أن لدى العراق و«إقليم كردستان» الكثير من الأسباب للتعاون في ما وُصف بأنه “مجالهما الاقتصادي المشترك”. وليس من الغرابة أن تجمع العراق وكردستان الكثير من المصالح الاقتصادية المشتركة. فهما يستخدمان العملة نفسها، كما أن بنيتهما التحتية للنفط والغاز مرتبطة، ويربطان بصورة مشتركة العديد من الأسواق الإقليمية والمحلية. وسيشعر “صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي” وغيرهما من الجهات المانحة والمقرضة بطمأنينة أكبر بكثير حول العمل مع كردستان إذا اكتسبت سلطاتها السيادية عبر عملية تفاوض متفق عليها.
وأخيراً، إذا دعمت بغداد سيادة متساوية مشتركة أو دولة مستقلة لـ «إقليم كردستان»، فإن ذلك يقلّص احتمالات إقدام أي دولة إقليمية – لنقل إيران أو حتى تركيا – على الاعتراض. وبالتالي، يمكن استبعاد مثل هذا العامل المخرّب إذ سيحضن المجتمع الدولي بشكل كامل «كردستان العراق» المتمتع بسيادة كاملة.
مخاطر استراتيجية “الطريق المختصرة”
اليوم، يظهر جلياً أن «إقليم كردستان» يعتمد بشكل مفرط على تركيا. ورغم أن أنقرة تُعتبر شريكاً لا غنى عنه، يجفل الأكراد العراقيون في المجالس الخاصة من الأعمال التي تقوم بها حكومة أردوغان – الحرب ضدّ «حزب العمال الكردستاني»، إغلاق خط أنابيب تصدير النفط الكردستاني لمدة 23 يوماً في شباط/فبراير 2016، تصرفات القوات التركية الخارجة عن السيطرة داخل «إقليم كردستان»، تصعيد القصف الجوي التركي داخل «كردستان العراق»، واعتقال نواب وقادة ينتمون إلى «حزب الشعوب الديمقراطي» [ («حزب ديمقراطية الشعوب») ] في تركيا.
أما العبرة هنا فهي أن التحالفات قد تكون ضرورية، لكن تسخير كافة الجهود والقدرات في سبيل هذه الخطوة أمر غير حكيم. وينطبق هذا الأمر أيضاً على إدارة أمريكية جديدة.
وربما ستبدو السنوات المقبلة بمثابة فرصة رائعة للأكراد كي يستحوذوا على انتباه واشنطن ويكتسبوا دعمها للحصول على استقلالهم. إلا أن الإدارة الأمريكية الجديدة تفتقر إلى الخبرة كما يُرجح، وهي متشرذمة داخلياً، ومتقلّبة. وقد يؤدّي ذلك إلى تكرار الفصول المأساوية السابقة للتاريخ الكردي حيث دفع الاعتماد المفرط على شريك خارجي – بمن فيهم هنري كيسنجر في عام 1975 – إلى كارثة.
هذا ويُعتبر التفاوض الداخلي بين بغداد وكردستان بشأن السيادة الكردية أفضل بدرجة لا تقدر من إستراتيجيات غير مستقرة مبنية على القوى الأجنبية. وتمثّل المناقشات الحالية انطلاقة جيدة. إن «إقليم كردستان» ليس على وشك تحقيق النجاح بأي وسيلة، لكنه على المسار الصحيح ويقترب من هدفه.
الموازنة بين بغداد وواشنطن وتركيا وإيران
يجب على كردستان ألا تتجاهل فريق ترامب: بل على العكس من ذلك. فبإمكان «إقليم كردستان» أن يدعم موقفه في المفاوضات عبر إظهار أن هناك الآن دعماً غير مسبوق من أجل الاستقلال الكردي في كل من البيت الأبيض، ومجلسي الشيوخ والكونغرس الأمريكيين.
وتكمن الحيلة بالنسبة إلى القيادة الكردية في تطوير خيار هذا التأثير والدعم الأمريكي مع التركيز في الوقت نفسه على الجائزة الحقيقية – علاقة عملية مع بغداد تسهّل انتقال السلطات السيادية المعترف بها دولياً إلى «كردستان العراق». وعلى الإقليم حضّ إدارة ترامب الجديدة على الإبقاء على انخراطها، وتعزيز نجاح المحادثات المبكرة، وتشجيع التعاون بشأن الموصل ولاحقاً بشأن اللجنة العليا للسيادة الكردية.
ومن جانبها، لابد أن تمتنع واشنطن من إلحاق أي ضرر، وأن تسمح للعراقيين بقيادة المناقشات، وأن تكون خير صديق ووسيط صادق. وإذا حاول دخلاء تعكير صفو المناقشات بين بغداد و«حكومة إقليم كردستان»، يتعيّن على واشنطن تقديم دعمها للمفاوضات وطمأنة كلا الجانبين.
كما ينبغي على الولايات المتحدة مواصلة الضغط على كردستان للتوصل الى اتفاق بشأن الرئاسة ومجلس النواب ومجلس الوزراء. فمن دون إجماع محلي ستُضعف كردستان قدرتها التفاوضية مع بغداد.
وبالنسبة للأكراد، يكمن العامل الرئيسي في المزيد من الصبر – وحتى من الصعب كتابة هذه السطور، من خلال معرفة ما عاناه الأكراد وفترة الانتظار الطويلة بالفعل التي مروا بها. لكن إجراء مفاوضات حقيقية مع بغداد ليس مجرد انتظار: إنه أثمن شيء يمكن أن تفعله القيادة الكردية في الوقت الحالي.
يُذكر أن الزيارات الكردية إلى بغداد، التي تدعمها الولايات المتحدة وغيرها من الجهات الدولية، هي ما قاد “البنك الدولي” إلى [التباحث مع] كردستان، وما دفع بأمريكا إلى تسليح “البيشمركة” وتزويدها بالمعدات، وما أدّى إلى تسليم أكثر من خمسين ألف برميل إضافية في اليوم من نفط كركوك لدعم اقتصاد «حكومة إقليم كردستان». كما أن الزيارات الكردية إلى بغداد، بتشجيع من قبل أكثر اقتصاديات العالم نفوذاً، تجعل وقوف ايران في طريق الاستقلال الكردي أكثر صعوبة. بيد، يستمر طريق الاستقلال الأكثر موثوقية في المرور عبر بغداد – وليس عبر أنقرة، وليس عبر البيت الأبيض برئاسة ترامب أيضاً.
مايكل نايتس
معهد واشنطن