عرف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أقله منذ صفقة الأسلـــحة الكيـــماوية في 2013، أن رئيس النظام السوري بشار الأسد، مستعد لأي شيء نظير بقائه في السلطة، وصولاً الى تدمير البلد وتهجير سكانه. بل إن بوتين اختبر ذلك بنفسه عندما طلب إقامة قاعدتين روسيتين في طرطوس وحميميم لقاء تدخّله لإنقاذ النظام، فجاءه رد الأسد أكثر «كرماً» مما طلب. فإضافة الى الأراضي الواسعة لبناء القاعدتين، قال البيان الصادر في دمشق وموسكو في أيلول (سبتمبر) 2015، أن نظام دمشق يتحمّل العواقب والتبعات القانونية لكل ما ينتج من عمل القاعدتين، وطائراتهما وسفنهما وأطقمهما، في حال تجاوزها الحدود أو المياه الإقليمية للدول المجاورة، وحتى إعفاءها من المساءلة المحلية (أو ربما الدولية) عما يمكن أن تقوم به طيلة فترة وجودها… المحددة، في الاتفاقات الملحقة، الى ما شاء الله!.
ويعرف بوتين، بلا شك، أن حليفهما الثالث في الحرب المستمرة منذ أعوام مديدة، «الولي الفقيه» الإيراني علي خامنئي، مستعد أيضاً لما لا يخطر في بال أحد (استخدام الطاقة النووية، كما قال أحد مساعديه) مقابل ضمان بقاء الأسد، الذي يصفه بأنه أشبه بـ»حاكم محافظة» إيرانية، بعدما أرسل قواته وحرسه الثوري وميليشياته المتعددة الجنسيات الى المعركة، فضلاً عن بنائه مصانع للصواريخ الباليستية العابرة للقارات فيها.
مع ذلك، يجد ساكن الكرملين ما يقوله الآن عن «تسوية سياسية» تنهي الكارثة التي تسبّب بها هو وحلفاؤه في سورية، تبدأ بوقف لإطلاق النار في عموم البلد، ومباشرة محادثات في عاصمة كازخستان، أستانة، لهذه الغاية. ولا مشكلة، كما يبدو، في الاتفاق على وقف إطلاق النار، بخاصة أن الأعوام الستة السابقة بيّنت أن الخروقات قامت بمعظمها جماعة النظام والميليشيات الإيرانية، لكن «التسوية» شيء آخر لا إمكان، لا لبوتين ولا للأسد فضلاً عن خامنئي وشريكهم الرابع الجديد، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لاجتراح حلول أو فتح نوافذ تؤدي إليها.
فلا حاجة الى القول أن لكل من أطراف «السيبة» الرباعية أهدافاً وغايات في سورية يختلف واحدها عن الآخر الى حد التناقض، وأن ما يظنه بوتين انتصاراً في حلب، ليس سوى معركة في حرب طويلة ليس لزاماً أن تكون عسكرية، أو عسكرية بالكامل، في المرحلة المقبلة. فلم تكشف هذه الحرب أن لا حسم عسكرياً لها فقط، إنما أيضاً أن لا حل سياسياً لها ما دام رأس النظام، الذي يتحمل وحده مسؤولية الكارثة التي حلت، إنسانياً واجتماعياً وطائفياً وسياسياً ومالياً واقتصادياً، خلال المرحلة الماضية.
هل يتصوّر بوتين، أو أي من «الفرسان» الثلاثة الآخرين، أن يتمكن الأسد من حكم بلد أغرقه في بحر دم، وشرّد نصف أهله، وحوّله الى مجموعة خرائب وإلى كانتونات متقاتلة، حتى لو وافقت المعارضة السياسية والفصائل المسلحة على مفاوضته، أو ربما التوصل الى «تسوية» قد تضع حداً لهذا النزيف؟
غالب الظن أن بوتين، الذي ابتدع نظاماً خاصاً لحكم بلاده يقوم على تبادل المواقع بينه وبين رئيس حكومته ديمتري ميدفيديف كلما انتهت ولايته الرئاسية، لن يعثر على «ميدفيديف سوري»… على افتراض أن الأسد، أو حتى ولي أمره خامنئي، وافق على مثل هذا النموذج العجيب في العمل السياسي. بل أكثر، فإنه لن يجد في أي دولة واحدة في العالم (بما في ذلك لدى صديقه الجديد في واشنطن دونالد ترامب) من يؤيده أو يربت على كتفه لأنه تمكّن من اجتراح «تسوية» تنهي هذه المأساة، الأفدح منذ نهاية الحرب العالمية الثانية كما يتفق المؤرخون على القول، في بلد واحد هو سورية.
أما إذا كان في ذهن «القيصر»، وحامل راية «النصر» التي كان، كما يبدو، يستعد لرفعها في احتفال موسيقي، أن الأسد لن يكون موجوداً في نهاية المطاف، فهل يقبل الأخير بذلك؟ وهل كان لزاماً إذاً أن تدمّر حلب عن آخرها وتفرغ من أهلها كما حدث؟ أو إفشال كل صيغ الحل بالتمسك بمقولة «إن الشعب السوري هو من يقرر مصير الأسد»، بل هل كان ضرورياً في السياق أن يلصق بوتين باسمه لقب «القاتل» الى جانب اللقب المحبوب لديه «القيصر»؟
الحال أن التعقيدات الهائلة، في المجتمع السوري من جهة، وعلى المستويين الإقليمي والدولي من جهة أخرى، والتي نجمت عن ستة أعوام من حرب الإبادة الجماعية التي مارسها نظام الأسد، ومعه في فترات لاحقة كلّ من النظامين الإيراني والروسي، باتت أكبر من قدرات نظام حكم واحد، كنظام بوتين الذي يعاني الكثير من المشكلات السياسية والاجتماعية والمالية والاقتصادية (في ما عدا العسكرية للآن؟!) على إيجاد حلول ناجعة لها، فضلاً عن القدرة على وضع هذه الحلول قيد التنفيذ، وحماية ديمومتها بعد ذلك، في ما لو أمكن الوصول إليها بهذه الطريقة العجائبية أو تلك.
وبافتراض أن الشعب السوري بات مدجّناً، كما قال الأسد في آخر مقابلة صحافية له عندما تحدث عن وحدة النسيج الاجتماعي في بلده، وأنه بالتالي أصبح مهيأ لأي حل ينهي مأساته، فإن ملايين الجرحى والمشوّهين (لا ذكر هنا لمئات آلاف الضحايا، لأنهم لم يعودوا عبئاً على النظام؟!)، وملايين النازحين في قارات العالم الخمس، ومدناً بكاملها تحوّلت الى آثار، ليسوا من الأمور، أو «الأشياء» في الحساب السياسي، التي لا يمكن أخذها في الحسبان عندما يفكر بوتين، أو غيره من «الفرسان» الأربعة، في تسوية أو حل.
أين يقيم «القيصر» الآن إذاً؟
ليس من المبالغة في شيء اعتباره في مستنقع أفغاني آخر، وإن لم يكن عســكرياً فقط بل هو سياسي أيضاً، بحيث لا يستطيع أن يتقدم كثيراً الى الأمام بقدر ما لا يستطيع التراجع الى الوراء. وبهذا، فإذا كان من «نجاح» حققه الأسد في 2016، الذي يودعه العالم اليوم، فهو أنه جرّ بوتين الى المأزق ذاته الذي وضع نفسه ونظام حكمه فيه منذ 2011، عندما خرج فتيان من درعا الى الشوارع وهم يهتفون «الشعب يريد إسقاط النظام»، فرّد عليهم بالسلاح.
محمد مشموشي
صحيفة الحياة اللندنية