هل يرمي بوتين عود ثقاب آخر في الشرق الأوسط

هل يرمي بوتين عود ثقاب آخر في الشرق الأوسط

في حديث له مع رؤساء تحرير وكالات الأنباء العالمية على هامش المُنتدى الاقتصادي الدولي الذي عقد في سانت بطرسبرغ الأسبوع الماضي، أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى إمكانية توريد أسلحة متقدمة بعيدة المدى مماثلة لتلك التي توردها الدول الغربية لأوكرانيا لضرب الأراضي الروسية، ورغم أن بوتين اكتفى بالتهديد دون تحديد تلك الدول التي ينوي تزويدها بالسلاح الروسي المتطور، إلا أن أحد كبار الكتاب العرب المتحمسين لما يدعى “محور المقاومة” حاول الربط ما بين هذه التهديدات والاتهامات التي وجهها زعيم الكرملين ضد إسرائيل على أنها إشارة إلى تزويد إيران وسوريا وحزب الله وحماس بمنظومة الدفاع الجوية “أس 400” أو حتى “أس 500”، لكن ما صحة هذا الكلام؟

ليست هذه أول مرة يطلق فيها الرئيس الروسي تهديدات من هذا النوع ولن تكون آخر مرة، لغة التهديد تفرضها طبيعة التطورات الميدانية بمعنى أنه كلما تكبدت القوات الروسية المزيد من الخسائر وازداد الضغط في جبهات القتال كلما كان بوتين بحاجة إلى التكشير عن أنيابه. أيضا الحديث عن استعمال السلاح النووي ليس بالتطور اللافت والخطير في الحرب، للتذكير فإن نائب رئيس مجلس الأمن القومي ديمتري ميدفيدف كان قد سبق بوتين في الحديث عنه منذ الأسابيع الأولى من اندلاع الحرب في أوكرانيا، وربما كان سلاح الغذاء والحبوب هو السلاح الفتاك الوحيد الذي استعملته روسيا لإرباك الغرب، لكنه ارتد على الدول الفقيرة التي من المفترض أن تكون صديقة لروسيا صاحبة فكرة النظام العالمي الجديد الذي يحمي الضعفاء.

◄ الموقف الرسمي الروسي وإن كان معارضا للحرب في غزة، إلا أنه يستفيد من التشويش الناتج عنها والذي غطى بشكل كبير على الأحداث في أوكرانيا وجعل زخمها يقل

رفض الكرملين إدانة هجوم حماس في السابع من أكتوبر، وانتقدت الموقف الروسي الرسمي إسرائيل بانتظام، بما في ذلك في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، واستضاف بوتين في الوقت نفسه قادة حركة حماس في تطور يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه امتداد لعلاقاتها الودية المتزايدة مع إيران المزود السخي بالمسيرات، لكن هل يعني ذلك أن العلاقة بين إسرائيل وروسيا قد تخطت مرحلة القطيعة لتصل إلى مرحلة العداء؟ بالطبع لا.

في جميع الحروب التي خاضتها حماس وإسرائيل كان الانتقاد والتنديد الروسي ضد إسرائيل حاضرين لكنهما كانا دوما كسحابة صيف ولم يؤثرا بأي شكل من الأشكال على الروابط الاقتصادية بينهما، ولطالما استجابت موسكو لهواجس تل أبيب الأمنية في سوريا وفي ما يتعلق أيضا بالطموح النووي الإيراني وتلقت تل أبيب الضمانات المريحة في ما يخص شحن الوقود النووي من روسيا إلى محطة بوشهر النووية، وغضت موسكو الطرف عن العديد من الهجمات الجوية الإسرائيلية في محيط دمشق ضد أهداف إيرانية، ولم يسبق أن استخدمت سوريا أنظمة “أس 300” الموجودة على أرضها لمواجهة الضربات العسكرية التي وجهتها إسرائيل. فكيف ينتظر منها أن تستخدم منظومة “أس 400” أو تزود محور المقاومة بسلاح لاستخدامه ضد إسرائيل؟

صحيح أن مسار العلاقات بين روسيا وإسرائيل قد تدهور بشكل كبير منذ بداية الحرب في أوكرانيا، لكن هذا لا ينعكس بالضرورة على تقاطع المصالح الذي يجمع الروس والإسرائيليين في سوريا بدليل أن مكتسبات قمة سوتشي 2021، التي جمعت بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت حاضرة، وإلى اليوم يشكل التواجد العسكري الروسي في سوريا توازنا يعمل في صالح إسرائيل ويستجيب للمطالب الإسرائيلية بتقليص قدرات طهران العسكرية في سوريا، وهو الأمر الذي يجعل تل أبيب مرتاحة من الجبهة السورية في خضم الحرب الدائرة اليوم.

تسع سنوات مضت منذ بدأ عهد “الحماية الروسية” في سوريا كانت فيها إسرائيل دائما في موقف هجومي لا دفاعي مكنها من تنفيذ عشرات الضربات القاسية على الأهداف الإيرانية، وتمكنت خلالها من تصفية قيادات في الحرس الثوري وحزب الله، ولم تكن أي من تلك الضربات سببا في تعكير الأجواء بين موسكو وتل أبيب بقدر ما سببه رفض إدانة تل أبيب للضربات الأوكرانية على روسيا.

◄ في جميع الحروب التي خاضتها حماس وإسرائيل كان الانتقاد والتنديد الروسي ضد إسرائيل حاضرين لكنهما كانا دوما كسحابة صيف ولم يؤثرا بأي شكل من الأشكال على الروابط الاقتصادية بينهما

إلى حد اليوم ترفض إسرائيل الانضمام إلى قائمة العقوبات الغربية ضد روسيا، ولا ترى سببا قويا يدفعها إلى التضييق على رجال الأعمال الروس، كما أنها ترفض تزويد أوكرانيا بمنظومتها الدفاعية “القبة الحديدية”. وحتى بعد تصريحات بوتين الأخيرة حول ما يجري في غزة فإن المسؤولين في تل أبيب يفضلون تجاهلها ليس لأنها لا تزعجهم، ولكن ما يجمعهم بالروس في سوريا وما يطمئنهم بشأن مشاريع الطاقة النووية الإيرانية كفيل بأن يجعلهم يغضون الطرف عن كلام بوتين القاسي بشأن حربهم في غزة.

الموقف الرسمي الروسي وإن كان معارضا للحرب في غزة، إلا أنه يستفيد من التشويش الناتج عنها والذي غطى بشكل كبير على الأحداث في أوكرانيا وجعل زخمها يقل مقارنة بالكم الهائل من الأخبار والمواد الإعلامية الدسمة التي يقدمها الإعلام الغربي لمشاهديه من مسرح حرب أخرى ومن شوارع المدن الغربية التي تشهد مظاهرات مناهضة لصمت الحكومات عما يجري منذ 8 أشهر في قطاع غزة، لكن أن تفكر روسيا في نقل بؤرة الصراع من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط فهذا أمر غير وارد، لأن ذلك سيجعلها أكثر قربا من الاصطدام المباشر مع أميركا التي تقف خلف إسرائيل، ما يعني أن الوضع سيكون أشبه بكثير بما كان عليه الحال في أزمة خليج الخنازير، ومن منظور عقلاني فإن روسيا ليست مستعدة لإلقاء عود الثقاب في برميل الوقود في توقيت نقترب فيه من انتخابات الرئاسة الأميركية التي بمجرد أن يحدث فيها التغيير سيجلب معه بلا شك الحلول إلى أوكرانيا.

العرب