صنعاء ـ «القدس العربي» من أحمد الأغبري: لا تمثل المناسبات العامة في بلدان الحروب سوى نككء تعذيبي لجروح المعاناة الممتدة، فرمضان كان أزمة كبيرة لعائلات يمنية فشلت في معركتها مع التزاماته المعيشية القاسية، فكان نزيفها فوق توقعها؛ وها هو عيد الفطر يمثل أزمة أخرى صنعت معاناة أكبر لهذه العائلات جراء عجزها عن توفير متطلبات صغارها من الملابس الجديدة وهدايا العيد و(عيديته) مع إصرار سلطات الحرب على عدم صرف مرتبات معظم موظفي الدولة لأسباب متعلقة بالمعركة العسكرية.
كم هو مؤلم أن يأتي العيد ورب الأسرة خالي الوفاض من أي مبلغ يواجه به احتياجات العيد؛ بل أن معظم أرباب العائلات من موظفي الدولة في صنعاء قضوا معظم أيام رمضان وهم ينتظرون خبراً سعيداً، ليس عن صرف المرتبات لأنهم ربما فقدوا الأمل في هذا، ولهذا لم يعودوا يعلقون آمالاً سوى على صرف قسائم البطاقات السلعية، وهو نظام ابتكرته حكومة سلطة الأمر الواقع في صنعاء لتواجه من خلاله ما تقول إنه غياب السيولة النقدية، وتوفر بمقتضاه، مع عدم صرف المرتبات، بطاقات تمكّن الموظف من شراء متطلباته من الغذاء والملابس بما يوازي نصف راتبه شهرياً، وذلك من مولات تم التعاقد معها عبر وسيط تجاري… لكنها (يا فرحة ما تمت) كما يقول التعبير الدارج.
فمنذ بدء تطبيق هذا النظام ظهر الكثير من المشاكل التي عززت التساؤلات التي تدور حول نزاهته ومدى ارتباطه بفساد (اقتصاد الحرب)، لاسيما وأنه يتم تحويل الأموال لحسابات ملاك المولات قبل توزيع قسائم البطائق للموظفين… وهنا تساءل الكثير من الموظفين عمن وراء صرف مبالغ كبيرة لتجار باسم تغطية قيمة قسائم البطائق السلعية في الوقت الذي كان يفترض أن تصرف مبالغها للموظف بشكل مباشر لتجنيبه ما يتعرض له مما وصفوه بالإهانات في تلك المولات التي هي أصغر من تقديم خدمات لمئات الآلاف من الموظفين، وفي الوقت ذاته تتعامل معهم بأساليب تضعهم من خلالها أمام معاناة أشد وطأة من عدم صرف تلك القسائم، حيث يتم فرض مبالغ إضافية إلى الأسعار وإغلاق المولات أمامهم أحياناً وتحديد أوقات معينة ومحاسب معين، مما يزيد من تعقيد إجراءات حصولهم على ما يحتاجون من متطلبات. ونتيجة لذلك فغالبية موظفي هذه المؤسسات لم يتمكنوا من الحصول على احتياجاتهم من الغذاء والملابس في هذه المولات. كما انضافت أسباب أخرى منها تأخر صرف قسائم البطائق إلى قبيل العيد بيوم واحد وحصرها في مولات معينة أصغر من أن تؤدي هذه المهمة، ما يجعل منها في غاية الازدحام وتخلو مما يحتاجه الموظف، لاسيما بعد نفاد معظم محتوياتها في البيع بالنقد قبل صرف قسائم البطائق السلعية.
قصة طويلة من الألم اليمني من أجل عيد لم يضف سوى أزمة معيشية أخرى لسجل طويل من المعاناة التي ضاقت معها الحياة على اليمنيين… وبالتالي فالعيد ليس سوى جولة جديدة من صراع الناس مع الحياة تحت أجواء الحرب التي اشتعلت في كل البلاد منذ آذار/ مارس 2015 بين قوات الجيش المؤيدة للرئيس عبد ربه منصور هادي مسنوداً بتحالف تقوده السعودية من جهة، ومسلحي «أنصار الله» (الحوثيين) والقوات الموالية للرئيس السابق علي عبد الله صالح من جهة أخرى؛ وأدت إلى مقتل أكثر من 9 آلاف وجرح أكثر من 45 ألفا معظمهم مدنيون، وتدمير معظم مقدرات البلد في البنية التحتية، وتوقف معظم مرافق الخدمات وتعطيل كثير من مقومات الحياة، ونتيجة لذلك تفاقمت خلال أكثر من عامين المعاناة الإنسانية في هذا البلد ليشهد اليمن أكبر أزمة أمن غذائي على مستوى العالم؛ وهي الأزمة التي أصبح معها ملايين المواطنين على حافة المجاعة، كما تسببت في انتشار الأوبئة وفي مقدمتها وباء الكوليرا الذي حصد أعداداً كبيرة من اليمنيين بين الوفيات والإصابات، مقابل عجز محلي ودولي عن احتواء الوباء منذ عودته في موجة ثانية في أواخر نيسان/ أبريل الماضي.
وبالتالي فقد خلقت قسائم البطاقات السلعية مزيداً من المعاناة في حياة هذا الشعب المغلوب على أمره، وهي المعاناة التي تحولت كعادة اليمنيين مع كل منعطف مؤلم في حياتهم العامة إلى سيل من النكات يسخرون فيها من سلطاتهم المتعددة، والتي كل منها يدعي وصلاً بهم بينما هم لا يقرون للجميع بذلك؛ لأن حالهم أكبر من أن يجيب على سؤال: كيف الحال؟ بعد نحو تسعة شهور لم يتقاض فيه معظمهم سوى نصف راتب، فيما أرقام الموت تتضاعف كل دقيقة ليس في جبهات القتال فقط بل أكثر منها بكثير ممن يقضون يومياً على امتداد صفيح الحياة الملتهب بالألم جراء الفقر والمرض، لا نعرف مع الحرب المستعرة متى سيتجاوزها اليمن ويعود منها سعيد! مع اقتصار السعادة على نخبة تزداد ثراء تحت سلطات صنعاء وعدن ومأرب والمكلا.
ويكاد اليمن ينفرد في عيدي الفطر والأضحى بظاهرة تعرف بـ «عَسب العيد» أو «العوادة»؛ وهي مبالغ مالية يدفعها الرجال لأقاربهم من النساء والأطفال عند زيارتهم صباح يوم العيد؛ وهو ما ضاعف من تعقيد علاقتهم بعيد هذا العام، الذي يأتي، لأول مرة، مع توقف صرف المرتبات؛ وهو ما ترتب عليه توقف معظم زيارات الأقارب واقتصارها على الرجال فقط.
ومن نكات اليمنيين التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي بهذا الشأن تعليق نشرته إحدى الفتيات قالت فيه للرجال: لو سمحتم احتفظوا بقسائم البطائق السلعية لأنفسكم؛ نريد «عَسب العيد فلوس نقداً بدون إحراج»، في سخرية من محاولة البعض تقديم قسيمة البطاقة السلعية التي لم يستطيعوا صرفها والاستفادة منها بدلاً من «عَسب العيد» الذي يكون دائما مبالغ نقدية.
القدس العربي