لأول مرة منذ تسع سنين يعقد مجلس الأمن الدولي اجتماعا مغلقا لبحث مجازر المسلمين الروهينجا في ميانمار، وبناء على طلب ليس من عضوي المجلس المسلمين، مصر والسنغال، بل من بريطانيا والسويد.
اجتمع المجلس بشكل خجول بعد تزايد الضغط على الدول الأعضاء، وبعد أن أصدر المفوض السامي لحقوق الإنسان، زيد بن رعد الحسين، بيانا سمى ما يجري للروهينغا في ولاية راخين بـ»تطهير عرقي». كما أن الأمين العام للأمم المتحدة في رسالة قوية لمجلس الأمن، وصف لهم حجم المأساة التي يتعرض لها المدنيون من الروهينجا، ثم صادق على المصطلح الذي استخدمه المفوض السامي لوصف الأحداث في ولاية راخين.
الاجتماع المغلق لمجلس الأمن يوم الأربعاء، يشكل في رأينا، فضيحة من العيار الثقيل. ليس لأنه الاجتماع الأول منذ تفاقم المأساة يوم 25 أغسطس الماضي، بل لأنه لم يسفر لا عن بيان صحافي ولا بيان رئاسي ولا قرار، بل توافق الأعضاء على مجموعة عناصر لبيان صحافي وهو أدنى ما يصدر عن مجلس الأمن من مواقف. وليتأمل القراء في البيان الهزيل: «أعرب أعضاء مجلس الأمن عن قلقهم العميق إزاء الوضع في ولاية راخين. وإذ يعترفون بالهجوم الأولي الذي تعرضت له قوات الأمن في ميانمار في 25 أغسطس، يدينون العنف الذي أعقب الهجوم، والذي أدى إلى تشريد أكثر من 370000 شخص. وأعربوا عن قلقهم إزاء التقارير حول العنف المفرط أثناء العمليات الأمنية، ودعوا إلى اتخاذ خطوات فورية لإنهاء العنف في راخين، وتخفيف حدة التوتر، وإعادة القانون والنظام، وكفالة حماية المدنيين، واستعادة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الطبيعية، وحل مشكلة اللاجئين».
ومن يتأمل البيان مليا يجد أنه يلقي اللوم أولا على جماعات الروهينجا، في ما ادعي أنه هجوم على مراكز الشرطة وقتل سبعة أو تسعة عناصر، وكأن الأمور قبل هذه الحادث كانت هادئة وسلمية. ويبدو أن الحادث كان مدبرا لخلق الذريعة لعمليات التطهير العرقي التي تجري في الولاية منذ ذلك التاريخ.
والبيان يدين العنف الذي أعقب الهجوم. وهذا يعني إما أنه لم يكن هناك عنف من قبل على الإطلاق، أو أن العنف الدائر في البلاد منذ ستينيات القرن الماضي مبرر تماما. وأما القلق حول العنف المفرط والذي تقوم به القوات الأمنية (لاحظ ألا ذكر للجيش ولا للميليشيات البوذية) الذي يشير إليه البيان، فمصادره تقارير بمعنى أنه قد تكون إما مبالغا فيها أو غير دقيقة. وأما مسؤولية تصحيح الأوضاع فتترك لمرتكب هذه الجرائم، حيث يدعو المجلس الحكومة، وكأنها طرف محايد لا علاقة له بما يجري، لإنهاء العنف وتخفيف حدة التوتر وحماية المدنيين وحل مشكلة اللاجئين. أما المجلس فلا علاقة له بذلك، وكأنه جهة استشارية تقدم النصح للعيال المتخانقين على نتائج لعبة كرة قدم.
الذي يبدو، أن أعضاء المجلس مختلفون على ما يجري في ميانمار، وأن الصين، هذه المرة كما في الحالة الكورية، هي التي تقف خلف النظام وتغض الطرف عما يرتكب من جرائم. فالصين تعتبر أن منطقتها الحيوية بالنسبة لأمنها القومي هي منطقة جنوب شرق آسيا. وفي هذه المنطقة توجد قضيتان أساسيتان: البرنامج النووي لكوريا الشمالية وصراع كيم جونغ أون مع الولايات المتحدة، وهذا يخدم الأمن القومي الصيني، إذ أن مشاغلة الولايات المتحدة، واستنزاف قدراتها في التسلح ونشر الأساطيل يثقل على ميزانية البلاد، ويبقي أمريكا في حاجة للصين وأموالها وتأثيرها وعلاقاتها مع الدول المارقة. والأزمة الثانية هي أزمة ميانمار، وتعتبر الصين حكوماتها برئاسة أونغ سان سو تشي، أول رئيس مدنية للبلاد والحائزة جائزة نوبل للسلام، إثر معارضتها الطويلة لديكتاتورية العسكر، حليفا لها. لكن السؤال لماذا لم يطلب مندوب مصر أو السنغال أو كازاخستان أو بوليفيا أو إثيوبيا أو أوروغواي عقد الجلسة؟ هذا هو الشيء المحير الذي لا يمكن تفسيره أو تبريره. ولم نشهد له مثيرا في العصر الحديث، إذ أن المجلس عادة يتحد أمام المآسي الإنسانية ويتفرق أمام النزاعات السياسة ومبادرات الحلول المطروحة لها.
عمق مأساة الروهينجا والتعامي عنها
يؤكد المؤرخون أن طائفة الروهينجا أصيلة في بلاد بورما، وتعود جذورها إلى القرن الثامن الميلادي. وقد نشر المهاجرون والتجار الهنود الإسلام والبوذية في منطقة بورما. وخضعت البلاد للاستعمار البريطاني لغاية 1937 وقد شرّعت البلاد قوانينها العنصرية، بحيث رفضت أن تعترف بأن الروهينجا في ولاية أراكان جزء من الشعب البورمي. وفي بورما يعاملونهم كأنهم مهاجرون من بنغلاديش، ويسمونهم البنغال ليحرموهم من صفة المواطنة. وتعقدت الأمور بعد انقلاب 1962 حيث خضعت بعدها البلاد لحكم العسكر أكثر من 50 سنة، وتعرض نحو الميلونين من المسلمين لأبشع أنواع الاضطهاد، وفرضت الأحكام العرفية على الروهينجا بين عامي 1991 و1992 حيث بدأت من تلك الأيام عمليات الفرار الجماعي نحو بنغلاديش وباكستان وتايلند وماليزيا والهند وإندونيسيا، وبعضهم وصل الولايات المتحدة. وقد سُن العديد من القوانين العنصرية أولها وأهمها حرمانهم من الجنسية، بعد إقرار قانون الجنسية عام 1982، أي أنه غير معترف بوجودهم. حرموا من حقوق التنقل والعمل وحتى الزواج أحيانا. وفرض على الزوجين ألا ينجبوا أكثر من طفلين، كما حرموا من الخدمات الاجتماعية والطبية والإنسانية. سجن زعماء الروهينجا الدينيون والسياسيون وتم تشتيت كياناتهم السياسية وتجمعاتهم الحضرية.
والأدهى من ذلك أن رجال الدين البوذيين كانوا في مقدمة الحركات العنصرية التي تطالب باقتلاع الروهينجا. لقد أضرب رجال الدين البوذيون عن الطعام في راخين لطرد من يعتبرونهم ليسوا بورميين أصيلين، وقد طلبت حكومة العسكر بزعامة «ني ون» من الأمم المتحدة ترحيل من سموهم «اللاجئين» وعندما لم تستجب الأمم المتحدة أطلقوا عملية عسكرية أدت إلى تهجير 200000 روهينغي.
بدأت موجة العنف الجديدة عام 2012 بعد انتشار شائعات بين السكان الأصليين البوذيين في ولاية راخين نفسها بأنهم سيصبحون أقلية في بلادهم، وأن الروهينجا قد ينفصلون عن بورما. فانطلقت حركة تمرد واسعة بهدف طرد المسلمين. الجيش شجع هذه الحركة كي يبقى في السلطة بعد أن فقد كثيرا من امتيازاته بعد الاتفاق على قيام حكم ديمقراطي عام 2011. وقد استبشر الناس خيرا عندما اكتسح حزب أونغ سان سو تشي «الرابطة الوطنية للديمقراطية» انتخابات 2016 وأصبحت «رئيسة وزراء» الأمر الواقع تحت عنوان «مستشارة دولة ميانمار» . إلا أن الأمور لم تتحسن، بل زادت سوءا، خاصة أن الجيش اتهم المسلمين بتكوين «جبهة تحرير أراكان» وقيام عناصر مسلحة يوم 9 أكتوبر 2016 بالهجوم على مواقع حرس حدود مع بنغلاديش. ومن هناك بدأت عملية التقتل والتنكيل والطرد الجماعي. وتقدر الأمم المتحدة عدد القتلى من أكتوبر 2016 إلى أغسطس 2017 بـ1000 مدني على الأقل. ومنذ بداية أغسطس إلى أوائل سبتمبر قتل على الأقل 3000 مسلم.
إنها حرب إبادة كما أكدت كلية الحقوق في جامعة ييل الشهيرة. والنتيجة نفسها توصلت إليها جامعة لندن بعد دراسة استقصائية لما يجري في ميانمار ضد الروهينجا. وكان عددهم في ميانمار عام 2015 يقدر بـ 1.3 مليون. وتتم الآن تصفية جسدية عن طريق الطرد والتخويف وحرق القرى والبيوت والتعذيب وحرق الناس أحياء والإعدامات الجماعية، كي يتم التخلص من الروهينجا مرة وإلى الأبد. والغريب أن الحائزة جائزة نوبل للسلام، التزمت الصمت وألغت مشاركتها في دورة الجمعية العامة كي تتملص من أي ضغط لوقف المجازر. إنها الحقيقة إذن. ما يجري هو إبادة جماعية كما يقول القانونيون وهو تطهير عرقي، كما يقول السياسيون وخبراء حقوق الإنسان. وكلا المصطلحين مصنفان كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تندرج ضمن صلاحيات المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. فهل ستصل إلى غرف المحكمة؟ أم سيقف الفيتو الصيني وربما الفيتو الروسي ردا للجميل على الفيتوات الصينية في المسألة السورية، ويتم الإفلات من العقاب مرة أخرى لمرتكبي هذه المجازر.
لقد عاصرت كثيرا من مداولات الأمم المتحدة في ما يتعلق بمجازر المدنيين من رواندا إلى البوسنة ومن كوسوفو إلى الصومال ومن دارفور إلى جنوب السودان ومن أفغانستان إلى العراق ومن جمهورية إفريقيا الوسطى إلى غزة، لكن لم تمر على الأمم المتحدة حالة من الإهمال والتهميش واللامبالاة مثلما هي حالة مسلمي الروهينجا في ميانمار. لكن لماذا نلوم الصين أو روسيا بينما لا المجموعة العربية عملت شيئا ولا منظمة التعاون الإسلامي ولا حتى ممثلو الدول الإسلامية كأفراد. وفي حالة العجر هذه ما الذي يمنع جيش ميانمار من أن يستكمل مخططه في التطهير العرقي حتى النهاية؟
د.عبدالحميد صيام
صحيفة القدس العربي