أ.د محمد مظفر الادهمي
استحضار التاريخ هو حالة تكرار لأحداث ووقائع من الماضي بأدوات جديدة وعوامل واسباب مختلفة عن تلك التي شابهتها, وبإرادة تبدو وكأنها واحدة حتى وان طال الزمن بين الحدثين، وعندما نعيش اليوم ما يجري من احداث جسام قد تغير مسيرة تاريخ العراق المعاصر ومصيره, فأننا نلاحظ انها حصيلة مخاض طويل افرزه الظلم والقمع والتهميش, خصوصاً في المحافظات الست المنتفضة, ليتفجر في مدينتين سبق وان لعبتا الدور نفسه فيما مضى من السنين.
ففي تكوين العراق الحديث والمعاصر كانت تلعفر اول مدينة في العراق شكلت ثورتها احدى مقدمات ثورة العشرين, عندما اندلعت شرارتها في 4 حزيران/يونيو 1920, اي قبيل اندلاع الثورة الكبرى في الفرات الاوسط ببضعة اسابيع, والتي قادت الى قيام الحكم الوطني في العراق الحديث .
ان من خطط ونفذ ثورة تلعفر هم ضباط من الموصل، الذين اتخذوا من دير الزور قاعدة، لهم بهدف تحرير مدينتهم من الاحتلال البريطاني للزحف الى بغداد, بعد ان تم تحرير دمشق واقامة الحكومة العربية فيها بقيادة الامير فيصل بن الحسين, حيث كانوا اصلاً ضباطاً في الثورة العربية التي اندلعت عام 1916، والتي شكل الضباط العراقيون العمود الفقري لجيشها الشمالي الذي حرر دمشق, واصبحوا قادة في حكومتها الجديدة .
كان هؤلاء الضباط؛ ومنهم جعفر العسكري وجميل المدفعي ومولود مخلص ونوري السعيد وعلي جودت الايوبي، يحملون فكراً عروبياً بعيداً جداً عن المذهبية والطائفية والعنصرية, بل ان تفكيرهم كان ينصب في انقاذ العراق من الاحتلال البريطاني واستقلاله للسير به على طريق الاتحاد مع سوريا. ومن هنا جاءت ثورة العشرين لتجسد هذا الفكر, فكان قادتها امثال الشيخ عبد الواحد سكر وشعلان ابو الجون وغيرهما, اول من ارتحل الى الحجاز ليطلب من الشريف حسين ان يكون ولده الامير فيصل ملكاً على العراق وهو الامير العربي المسلم، الذي ولد في ارض انطلقت منها الثورة العربية، وان دل هذا على شيء فانما يدل على مدى الابتعاد الكلي عن المذهبية والمناطقية السياسية لدى هؤلاء القادة العراقيين الذين بني على اكتافهم العراق الحديث.
ان الابتعاد عن المذهبية السياسية والمناطقية قد تجسد ايضاً في ثورة تلعفر، التي يتكون اهلها من العرب والكرد والتركمان وسكان اطراف المدينة من العشائر العربية, والذين تمكنوا بتآزرهم من دحر القوات البريطانية المرابطة فيها, واجهض الثوار جميع محاولات استعادة المدينة الى ان استخدم البريطانيون الطيران الحربي، الذي دك المدينة وشرد اهلها وهجرهم بعد ان اصبحت بيوتهم اطلالاً لا تصلح للعيش.
وبهذا الصدد قالت السكرتيرة الشرقية لدائرة المندوب السامي البريطاني المس “غرترود بل” في رسائلها ان الموصل شهدت عام 1920 اجتماعات مكثفة للوطنيين وتحركات سياسية واضحة ضد البريطانيين بلغت ذروتها بحرق القطار في عين دبس, ولكن الثورة انطلقت من تلعفر بهدف الزحف نحو الموصل, فاسرع الانكليز ليدكوا تلعفر بالطائرات ويهجروا اهلها ويقضوا على الثورة خوفاً من زحفها الى الموصل .
وبعد حوالي قرن من الزمن يتكرر المشهد نفسه في المدينة نفسها وللظروف ذاتها: الظلم والقهر والقمع, ولكن بأدوات واسباب وطريقة مختلفة, واذا ما كانت ثورة تلعفر الاولى قد اجهضت خلال ايام معدودات, لكنها شكلت مرفقاً لثورة العراق الكبرى عام 1920, فماذا ستكون عليه ثورة تلعفر الثانية في المساهمة لرسم مستقبل العراق المعاصر؟ وهل ستكون النموذج الذي سيقضي على المذهبية السياسية التي دمرت العراق ومزقته.؟
الظاهرة الاخرى التي تنحو المنحى ذاته وتتأطر بالمقاييس التاريخية ذاتها هي ثورة الموصل عام 1959 المعروفة بثورة او حركة الشواف, والتي انطلقت من هذه المدينة لإنهاء حكومة بغداد، فشكلت اساساً لأحداث مهمة غيرت مجرى تاريخ العراق, لأنها أفرزت مذابح في الموصل وكركوك انتقاماً من القائمين على الحركة ومؤيديها, كما قام عبدالكريم قاسم بإعدام وجبة من زملائه من الضباط الاحرار، الذين شاركوه في ثورة 14 تموز 1958 ، وهو ما قاد الى نهايته، وهكذا كانت الموصل المنطلق الاساس لإنهاء حكم قاسم او ما يسمى بالعهد الجمهوري الاول, فماذا ستكون عليه نتائج انتفاضة الموصل على العراق اليوم بعد اكثر من نصف قرن على انتفاضتها الاولى؟
ما نريده ايضاً من ذكر هاتين الحادثتين في تاريخ العراق الحديث والمعاصر هو اجراء مقارنة بين الفكر الذي قامت عليه الحركات السياسية في العراق في الماضي وكيف اصبحت عليه الان، فعندما نحلل ظروف الماضي واجوائه في العهدين الملكي والجمهوري، نجده يختلف تماماً عن ظروف الحاضر.
ففي تلك المرحلة كان البلاد لا تعرف معنى للمذهبية والعرقية والطائفية وكانت احزابها السياسية ذات مبادئ واهداف وطنية او قومية, او علمانية بعيدةً عن المذهبية السياسية, بل ان المجتمع لم يكن بمعظمه يميل الى الاحزاب الدينية, لذلك لم تكن هناك تربة ملائمة لنمو مثل هذه الاحزاب.
لقد كان الشعور بالمواطنة هو المقياس, وهو المنطلق الى الشعور بالقومية وتبني مبادئها الانسانية, واذا ما وقعت حركة او انقلاب او انتفاضة, فهي ليست سوى جزءاً من الطموح نحو الافضل لبناء المجتمع الموحد, لا لتغليب طائفة على اخرى او قومية على ثانية.
ان هذه الظاهرة الايجابية قد اضمحلت اليوم مع افرازات الاحتلال وقوانينه وانظمته التي جاء بها الى العراق، ليتكرر ذات المشهد الذي عاشته اوروبا في القرن السابع عشر, تلك التجربة المريرة من الصراع المذهبي بين البروتستانت والكاثوليك الذي قاد الى حروب دامية تجاوزت حدود الدول, مثل حرب المائة عام وحرب الثلاثين سنة، بسبب طغيان الحركات الدينية وتخندقها المذهبي, ولم تتوقف الا بتحول فكري قادته الدولة نفسها باتجاه الوطنية التي تتجاوز المذهب والطائفة وتجعلها في خدمة الوطن. وها نحن اليوم نعيش ما عاشته اوروبا قبل مئات السنين، فالمنطقة وليس العراق فقط مهددة باحتراب واقتتال يتجاوز حدود الدول, وهو ما يحدث فعلاً بطريقة او بأخرى قد يمهد لتصادم الجيوش .
واذا ما تناولنا باختصار اسباب انتفاضة المحافظات الست فانها قد قامت نتيجة ظلم وتهميش وقمع مجحف وقع على مكون مذهبي معين, ومع ذلك فان هذه الانتفاضة تمثل طموحاً وطنياً، يسعى الى اعادة اللحمة الى المجتمع العراقي بتجاوز المذهبية والطائفية والعنصرية والقمع والاضطهاد والتهميش لمكون دون آخر.
ولو لم تكن هذه الانتفاضة كذلك لما لقيت صداها في محافظات الوسط والجنوب, لتنفجر في كربلاء, مؤكدة ان عملية غسيل الدماغ التي تعرض لها المواطن البسيط في توجيهه نحو التخندق الطائفي بعيد عن مصلحة الوطن, ما هي الا حالة طارئة لا يمكن ان تمحو من ذاكرته المبادئ الوطنية، التي تربى عليها ونشأ فيها منذ تأسيس دولة العراق الحديث.
ان ما هو مطلوب اليوم هو ان نستحضر تاريخنا الوطني المشرق ليكون اساساً لمسيرة العراق, ان كان سياسيوه يريدون الحفاظ على وحدته وكيانه بلداً مستقلاً مستقراً ينعم سكانه بثرواته، فلا بديل للوطنية التي تنبع منها مبادئ الديمقراطية والحرية, ولا مجال للمذهبية السياسية ان كنا حقا نريد الحفاظ على العراق .