القاهرة – بعث مؤتمر الأزهر لنصرة القدس الذي انطلق الأربعاء بالقاهرة، جملة من الرسائل غير التقليدية بشأن التعاطي مع قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، أبرزها إعادة الحديث عن مسألة التدويل الديني للمدينة باعتبارها مركزا للديانات الثلاث، الإسلامية والمسيحية واليهودية.
وظهر ذلك واضحا من خلال إصرار الأزهر على مشاركة ممثلين للأديان الثلاثة داخل المؤتمر، حيث حضر ممثل عن بابا الفاتيكان فرانسيس الثاني والبابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكنيسة المرقسية، بالإضافة إلى مشاركة ثلاثة حاخامات يهود يمثلون حركة ناطوري كارتا، التي لديها رأي معلن بضرورة أن تكون القدس منطقة دولية ومنحها الحكم الذاتي، بعيدا عن السيطرة الإسرائيلية.
وقال بابا الفاتيكان فرانسيس الثاني، في كلمته بالمؤتمر التي ألقاها نيابة عنه سكرتيره الأول الأب يؤانس لحظي، إنه لن يكف عن التوسط بين الفلسطينيين والإسرائيليين لحل الدولتين مع الاحترام الكامل لمدينة القدس التي تحتاج إلى وضع خاص للحفاظ على هوّيتها، وتجاوز النقاش بحدود الأراضي.
وشدد البابا تواضروس على ضرورة أن يكون هناك توافق سياسي وديني يوقف الصراع الدائر حولها حاليا، قائلا “القدس هي المدينة الأقرب لقلوب المسيحيين والمسلمين، لأنها تجمع كنيسة القيامة والمسجد الموجود بقبة الصخرة في مكان واحد، وبالتالي فإن محاولة تهويدها لن يصنع السلام للفلسطينيين والإسرائيليين”.
وفي تصريحات على هامش المؤتمر أكد الحاخام يسرول دوفيد ويس، أن حركته تدعم فكرة منح الحكم الذاتي الكامل للمواطنين المقيمين في المنطقة الدولية للقدس، مشيرا إلى أن ذلك الطلب وافقت عليه الأمم المتحدة في العام 1947، غير أن إسرائيل تجاهلته.
وتأخذ قضية تدويل القدس أبعادا تاريخية نشأت في نطاق الأمم المتحدة كنتيجة مباشرة لقرار تقسيم فلسطين الذي أصدرته الجمعية العامة برقم 181 وفي العام1947، والذي اقترح تقسيم فلسطين ووضع تصوّرا – إلى جانب إقامة دولتين مستقلتين واحدة عربية وأخرى يهودية- يمنح القدس وضعا منفصلا كمدينة لا تنتمي إلى أي دولة وإنما تخضع “لنظام دولي خاص”.
غير أن الرفض العربي لمشروع التقسيم بكامله، والانقسام الإسرائيلي في ذلك الوقت بين الموافقة على تدويل المدينة ورفض المقترح، جعل مسألة التدويل أمرا غير مطروح على مدار السنوات الماضية.
اجتماع لتأسيس خطاب غير تقليدي
وقال عبدالمنعم سعيد، الخبير في الشؤون الإقليمية، إن مؤتمر الأزهر حاول أن يخلق اهتماما عالميا بمسألة الوضعية الدينية للقدس من خلال إعادة صياغة الصراع القائم حولها. وأضاف في تصريحات لـ”العرب”، أن تأييد الفاتيكان لفكرة التدويل الديني للقدس قد يساهم في تبنيها سياسيا من قبل الحكومات الغربية، كما أن الارتكان على الديانة المسيحية كطرف مؤيد لهذا الطرح قد يكون عاملا في تصعيد الضغوط الغربية على الولايات المتحدة وإسرائيل باعتبار أن المسيحية أكبر الديانات على مستوى العالم.
ويدعم هذا التوجه ما جاء على لسان الكاردينال بشارة بطرس الراعي، البطريرك الماروني اللبناني، والذي شدد في تصريحات على هامش المؤتمر بأنه سيصدر عنه بيان مشترك بين الأديان الثلاثة يطالب بحماية القدس مدينة مفتوحة للديانات الثلاث، لافتا إلى أن كنيسته تدعم هذا التوجه مسبقا بعدم منح القدس لونا معيّنا. وبدا واضحا أن مؤتمر الأزهر ركز في رسائله على الجانب الديني للمدينة، وأن ذلك يستهدف تحقيق أهداف عدة، على رأسها التغطية على الفشل الدبلوماسي العربي في الوقوف ضد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والبحث عن بدائل أخرى دينية وشعبوية من الممكن أن تخدم القضية بعيدا عن التعقيدات السياسية.
وعبّر أحمد الطيب، شيخ الأزهر، عن هذا التوجه واقترح أن تكون مواجهة القرار الأميركي، بتفكير ديني جديد يتمحور حول عروبة القدس وحرمة المقدسات الإسلامية والمسيحية، قائلا “علينا ألا نخجل من التعامل مع قضية القدس من الجانب الديني، بينما كل أوراق الكيان الصهيوني دينية”.
وأخذ مسار التدويل الديني للقدس خيارا جديدا لم يكن مطروحا من قبل على مائدة الأزهر، وتبنى تقديم الدعم للمقدسيين وشدّ الرحال إلى القدس لمنع التوغّل الإسرائيلي فيها، ودعم هويتها المرتبطة بالديانات الثلاث، وهو ما كان يرفضه الأزهر والعديد من الدول العربية والإسلامية في السابق ارتكانا إلى أنه يعد تطبيعا مع لإسرائيل.
وخلال المؤتمر طالب الرئيس الفلسطيني، محمود عباس بشد الرحال إلى القدس لمنع التوغّل الإسرائيلي فيها، ودعم هويتها، وليس للتطبيع مع الاحتلال أو الاعتراف بشرعيته، قائلا إن “مقاطعة القدس تضيف للاحتلال، لأن زيارة السجين ليست تطبيعا مع السجان، فكيف يصمد الفلسطيني وسط المقاطعة، لا تتركونا وحدنا، ونتمنى منكم أن تقوموا بزيارتنا، ولن نترك أرضنا ولن نفعل حماقات 48، و67”.
تأييد الفاتيكان لفكرة التدويل الديني لمدينة القدس يساهم في تبني القرار سياسيا من قبل الحكومات الغربية
وأخذت فكرة زيارة الأماكن المقدسة داخل القدس زخما فلسطينيا خلال السنوات الماضية، بعد أن أصدر وزير الأوقاف الفلسطيني دعوته لزيارة المدينة قبل ثلاث سنوات، وأضحى هناك رأيان متناقضان بشأن التعاطي مع تلك الدعوة.
وهناك من يرى أنها خطوة مهمة تعود بالإيجاب على المسجد الأقصى والذي يتعرض للانتهاكات الإسرائيلية يوميا وتستغل إسرائيل عدم الإقبال عليه للتأكيد على يهودية تلك المنطقة، بدليل أن اليهود يأتون لزيارة القدس من جميع بقاع العالم، كما أنه يعد دعما للمقدسيين والسياحة العربية التي تصب في صالح اقتصادهم.
وتأتي تغيرات الموقف العربي والإسلامي من زيارة القدس لتتوافق مع آراء الكنسية المصرية التي سبق أن فتحت الباب أمام الحجاج المسحيين لزيارة القدس، كما أن البابا تواضروس زار المدنية مع نهاية العام 2015.
وطالبت الكنائس المصرية بضرورة السفر إلى القدس لزيارة المقدسات ودعم الأقباط الموجودين في المدينة المقدسة بفلسطين للتضامن معهم ضد مشروع الكنيست الإسرائيلي بمصادرة الأملاك القبطية لصالح المستوطنين، واعتبرت أن ذلك ليس تطبيعا كما يتصور البعض لأنها زيارة للمعالم الدينية من ناحية وتلبية لنداء أقباط القدس للوقوف بجانبهم ضد المشروع الإسرائيلي من ناحية أخرى.
ويتضمن البيان الختامي الدعوة إلى زيارة المقدسات الدينية والتواصل مع المقدسيين، وهو ما تترتب عليه إعادة صياغة الوعي بموضوع القدس، ووضعها في صدارة الوعي والاهتمام العربي والإسلامي.
ويرى عبدالمنعم سعيد أن دعم الأزهر لذلك الموقف يرتبط بالفراغ الذي شعر به الساسة العرب بعد أن هجروا زيارة الأماكن المقدسة هناك، للدرجة التي وصلت فيها نسبة اليهود المسيطرين على القدس الشرقية التي كانت تتمتع بالأغلبية العربية والإسلامية إلى 40 بالمئة. وأضاف أن العديد من البلدان العربية أضحت تراجع مسألة المقاطعة مع إسرائيل والجدوى منها، وبالتالي فإن القرار يأتي ضمن هذه المراجعات.
العرب اللندنية