في 18 آذار/مارس، ستجري روسيا “انتخابات” رئاسية، [ومن المتوقع] أن تكون النتيجة محددة سلفاً كالعادة: فوْز فلاديمير بوتين بولاية أخرى متفادياً أي نقاش أو منافسة حقيقية في حملة تتخللها جلسات تصوير دورية مدروسة تُظهره عاري الصدر. ولكن حتى الانتخابات الشكلية جديرة بالانتباه نظراً لتأثيراتها المحتملة على الدور الروسي المتنامي في الشرق الأوسط. وفي حين أن بوتين مطمئن إلى فوزه، يبدو الكرملين قلقاً بشأن مستقبله السياسي على المدى الطويل، الأمر الذي يدفعه إلى الاعتماد بصورة أكبر على التعبئة العسكرية ومناهضة الغرب من أجل تعزيز شرعيته الوطنية والعودة تدريجياً إلى ماضيه الاستبدادي. ويعني ذلك أن الشرق الأوسط سيبقى على الأرجح مسرحاً للتنافس مع الغرب ولتوسيع النفوذ الروسي.
الشرعية والإقبال
لقد بقي بوتين في السلطة حتى الآن مدة أطول من تلك التي مكث فيها ليونيد بريجنيف، إلى درجة أن جيلاً كاملاً ترعرع دون أن يعرف زعيماً غيره. بيد، لم تتوقف الاحتجاجات – وخاصة خارج المدن الكبرى – على الرغم من حملات القمع الحكومية. ويقول أبناء موسكو إن الطريقة الأسرع لحمل السلطات على إزالة الثلوج من شوارع العاصمة هذا العام كانت بتزيين أكوام الثلوج المتراكمة باسم الرجل المناهض للفساد أليكسي نافالني الذي كان يمكن أن يشكل تحدياً حقيقياً لبوتين في صناديق الاقتراع ولكن تم منعه من الترشح.
وفي الواقع أن إضفاء مظهر الشرعية مهم جداً بالنسبة للكرملين، كما أن انخفاض نسبة الإقبال على التصويت يسيء لصورة الحكومة. ففي أيلول/سبتمبر 2016، شارك أقل من نصف الناخبين المؤهلين في الانتخابات النيابية التي اعتبرت من عدة نواحٍ بمثابة اختبار للأصوات التي ستدلى في الانتخابات الرئاسية. ومع ذلك، فاز حزب “روسيا الموحدة” الذي يرأسه بوتين بغالبية ساحقة في المجلس التشريعي، حيث كان عدد المقاعد المكتسب كافياً لتغيير الدستور. ونتيجة لذلك، قد يتمكّن بوتين من البقاء في السلطة بعد انتهاء فترة ولايته المقبلة التي أمدها ست سنوات، من خلال تغيير ميثاق البلاد عوضاً عن حكمها بالوكالة على غرار وكالة ميدفيديف.
رموز ستالينية وسوفيتية
على الرغم من أن إحياء الفكر الستاليني والصورة السوفيتية كان سمة من سمات حكم بوتين منذ البداية، إلّا أنّ هذا التوجه قد تعاظم في السنوات الأخيرة. فخلال أيار/مايو 2014، أي بعد شهرين من ضم شبه جزيرة القرم من أوكرانيا إلى روسيا، وقّع بوتين على قانون مصاغ بعبارات مبهمة يجرّم أي انتقاد للأعمال السوفيتية المنفّذة في الحرب العالمية الثانية، والتي تشمل ضمنياً حملة “التطهير الأعظم” التي نفّذها جوزيف ستالين والاتفاق الذي عقده مع أدولف هتلر. وعلى النحو نفسه، تعهّد مرشح “الحزب الشيوعي” الرئاسي بافيل غرودينين علناً بالولاء لستالين، في حين منعت وزارة الثقافة الروسية في كانون الثاني/يناير عرض الفيلم الساخر “وفاة ستالين” لأرماندو إيانوتشي واصفةً إياه بـ”المتطرف” و”الاستفزازي”.
تعبئة في زمن الحرب
منذ سنوات، يركز الكرملين على القضايا الدفاعية مستشهداً بالفكرة التقليدية التي تصوّر روسيا كحصن محاصر من قبل الأعداء، ومن قبل الولايات المتحدة على وجه الخصوص. وبالمثل، يشير المراقبون إلى بوتين بشكلٍ متزايد كـ “رئيس في زمن الحرب”. وفي بلد يعاني من تدهور اقتصاده، ويتزايد فقره، ويتدنى فيه الاهتمام الحكومي بالتنمية، ليس لدى الكرملين الكثير ليقدمه. كما أن الخطابات الحربية تميل إلى وضع المواطنين في عقلية التضحية.
وتنفق روسيا حالياً حوالي ثلث ميزانيتها على الدفاع، وقد دعا الكرملين إلى تخصيص المزيد في هذا المجال. وخلال تشرين الثاني/نوفمبر، أذن بوتين تخصيص مبلغ 324 مليار دولار لبرنامج تسليح حكومي للفترة 2018-2027، مشيراً إلى أن “قدرة الاقتصاد على زيادة حجم المنتجات والخدمات الدفاعية بسرعة وفي الوقت المناسب، هي إحدى أهم الشروط اللازمة لضمان الأمن العسكري للدولة”، وأضاف أنه ينبغي إعداد جميع المؤسسات، العامة والخاصة، في هذا المجال، الأمر الذي أثار وابلاً من التعليقات والمخاوف المحلية بشأن احتمال اندلاع حرب كبرى.
وعلى نحو مماثل، وخلال خطابه السنوي الذي ألقاه في الأول من آذار/مارس أمام البرلمان – وهو آخر خطاب رئيسي له قبل الانتخابات – تفاخر بوتين بالصواريخ الانسيابية (كروز) النووية العابرة للقارات والتي يفتَرَض أنها “لا تُقهر” وتعمل روسيا على تطويرها. والجدير بالذكر أن خطاباته السابقة لم تركّز أبداً على القضايا النووية بمثل هذه التفاصيل، ولم تحتوِ على مثل هذه التصريحات العدائية والارتيابية. ولكن الخطاب في جوهره لم يقدّم شيئاً جديداً، وقد تكهن بعض المحللين الروس بأن خطاب بوتين العدائي تجاه الغرب كان أيضاً التماساً للحفاظ على أهمية روسيا على الصعيد الدولي (كمبدأ “تواصلوا مع روسيا وإلاّ…”). وسيبقى هذا، أكثر من أي شيء آخر، السمة المميزة لنهجه في السياسة الخارجية، ولكن المرحلة المقبلة ستشهد حدةً أكبر على هذا الصعيد. فأحد الأهداف الرئيسية لبوتين هو إعادة صورة العظمة الروسية، ولتحقيق هذا الهدف يحتاج إلى عدو أكبر [لروسيا].
سوريا وإيران
إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، أين الشرق الأوسط من كل هذا؟ فالمنطقة لم تعد تحظى باهتمام كبير في الصحافة الروسية، ولم يأتِ بوتين على ذكرها المباشر إلا مرة واحدة في خطابه في الأول من آذار/مارس حين قال: أثبتت العملية في سوريا زيادة قدرات القوات المسلحة الروسية”. ويجدر بالذكر أنه أكد على الفوائد التدريبية للحملة عوضاً عن فعاليتها المفترضة في قتل “الإرهابيين” في سوريا قبل أن يتمكنوا من الوصول إلى روسيا – أي التبرير الذي أعطاه الكرملين لتدخله في سوريا في المقام الأول.
ومع ذلك، بينما كانت موسكو تُلمّح منذ بعض الوقت إلى رغبتها بالخروج من الأزمة السورية، يبقى لوجودها العسكري في تلك البلاد أهمية كبرى من الناحية الجيوستراتيجية، ولذلك لا يمكنها التخلي عنه. بالإضافة إلى ذلك، اضطلعت روسيا باستثمارات كبيرة في البنية التحتية للطاقة والموارد الطبيعية في سوريا خلال الحرب – ففي أوائل عام 2017، أفادت بعض التقارير أن شركة “إيفرو بوليس” وقّعت اتفاقاً في مجال الطاقة مع دمشق، بينما عقدت “سترويترانسغاز” صفقةً حول التنقيب عن الفوسفات.
وفيما يتعلق بالعلاقة بين الحكومتين، أفادت بعض التقارير أن وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك وقّع اتفاقية تعاون مع سوريا في وقت سابق من هذا الشهر. وفي أيلول/سبتمبر الماضي، تعهدت دمشق بشراء ثلاثة ملايين طن من القمح من روسيا خلال السنوات الثلاث المقبلة. كما ذكرت التقارير أن البلدين أجريا محادثات حول إعادة إنشاء البنية التحتية للاتصالات في سوريا. وبالتالي، ففي غياب أي بدائل أخرى، تبقى موسكو في الموقع المناسب للتحكم بوجهة مسار الإعمار في سوريا حتى إذا افتقرت إلى الأموال الاستثمارية اللازمة. وفي الوقت نفسه، تمكّنت روسيا من إضفاء الطابع المؤسسي على آلية التشاور بين سوريا من جهة وتركيا وإيران من جهة أخرى، على الرغم من فشل محادثات السلام في أستانا وسوتشي، الأمر الذي أوجد الأساس لعملية دبلوماسية إقليمية تستنثي الولايات المتحدة.
أما فيما يخص شراكة موسكو مع طهران، فإنها لا تظهر أي بوادر على تراجعها على المدى المتوسط. وتستمر الخلافات ولا يزال انعدام الثقة قائماً [بين الحكومتين]، إلا أنهما تمكنتا حتى الآن من وضع هذه الخلافات جانباً لصالح هدفهما المشترك، وهو الحد من النفوذ الأمريكي في المنطقة. وقد أشار بعض المحللين الروس والإيرانيين على انفراد بأن العلاقة قد تركز بصورة أكثر على توسيع التعاون هذا العام، بما في ذلك في المجال الاقتصادي. وتفيد التقارير أن شركات النفط الروسية تناقش العقود التي تتيح لها العمل في حقول النفط الإيرانية. ويبقى أن نرى ما إذا كان التعاون الاقتصادي الثنائي الأوسع نطاقاً سينمو حقاً من مثل هذه المبادرات، ولكن التعاون السياسي يبقى ذا أهمية في حد ذاته.
ومن خلال تمكين أعمال طهران في المشرق بشكل أساسي، بما في ذلك السعي وراء أهداف تسلّطية تتجاوز أهداف موسكو، تخاطر روسيا بإبعاد جهات فاعلة إقليمية أخرى، إذا ما عزت هذه الجهات النجاح الإيراني إلى الدعم الروسي. وفي الوقت نفسه، تصوّر موسكو نفسها كبديل لإيران في المنطقة، مثيرةً الانطباع بأن علاقاتها مع طهران تمنحها نفوذاً على الجمهورية الإسلامية. وفي النهاية، قد يتوقف تأثير التعاون الروسي-الإيراني في الشرق الأوسط على ما إذا كانا سيواصلان وضع خلافاتهما جانباً، أو [يعملان على] حلها، من أجل مصالحهما المشتركة المعادية للغرب.
ميول إقليمية أوسع
تتعاظم المكانة العسكرية الروسية في المنطقة إلى ما يتخطى حدود سوريا والعراق، لا سيما في مجال الدفاع الجوي. فاستعراض القوة وصفقات بيع الأسلحة سيبقيان أمران مهمان لموسكو بعد الانتخابات، باعتبارهما مصدرا ربح مادي ووسيلة للتأثير.
بالإضافة إلى ذلك، تُعتبر إمكانية الوصول إلى المرافئ الإقليمية جانباً آخراً يستحق الانتباه. فبناء موانئ جديدة أمر مكلف، لكن بوسع موسكو ضمان حقوق الإرساء [لسفنها] في مناطق مثل ليبيا لتجنب مثل هذه التكاليف. وقد يتدخل بوتين أيضاً في ليبيا كصاحب نفوذ فيكسب بذلك الاهتمام الدولي الذي يتوق إليه عبر التوسط بين “الجيش الوطني الليبي” الخاضع لإمرة المشير خليفة حفتر في الشرق و”حكومة الوفاق الوطني” المعترف بها دولياً في طرابلس. وفي هذا السياق، أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في كانون الأول/ديسمبر، بعد يومٍ واحد فقط من إعلان بوتين “انسحاباً” آخر من سوريا، أن موسكو سعت إلى الاضطلاع بدور في إنهاء الصراع الليبي. وبالفعل، يتعيّن على الحكومات الغربية مراقبة توسع روسيا الهادئ بل الثابت في كافة مناطق شمال أفريقيا.
والأمر الآخر الجدير بالانتباه هو نفوذ موسكو في الخليج العربي ومحاولاتها التدخل في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. فصحيح أن هذه المخططات وغيرها من الخطط الإقليمية قد لا تؤول إلى نجاح، ولكن في غياب استراتيجية غربية متماسكة تجاه روسيا أو إعادة إحياء القيادة الأمريكية في المنطقة، لا يوجد ما يحد من جهود بوتين ويوقف انعدام الاستقرار الذي سيترتب عنها على المدى الطويل. وفي أعقاب الانتخابات، من المرجح أن تتعامل موسكو مع الشرق الأوسط بشكل أكبر كساحة نفوذ مفضّلة على غرار الفسحة ما بعد الحقبة السوفيتية، ومن شبه المؤكد أن تتخذ موقفاً أكثر عدائيةً وتوسعيةً ومعاداةً للغرب.
آنا بورشفسكايا
معهد واشنطن