هذا نص رسالةٍ وصلت إلي على صفحتي الشخصية قبل أيام. وهي تُوجّه إلينا من دون مواربة وببساطة، أعني إلى المثقفين الذين ناصروا الثورة الشعبية، تهمة الجهل وسوء التقدير، إن لم يكن إغواء الجمهور وخداعه وتضليله. لا تقول الرسالة: إذا لم تكونوا واثقين من النصر، فلماذا ورّطتم الشعب في حركةٍ ستجرّ عليه الأهوال، كما هو شائعٌ في حالاتٍ مماثلة، ولكن، أبعد من ذلك، كيف دفعتم الشعب إلى الثورة، وأنتم تعلمون جهله وتعصبه وطائفيته؟
لسنا هنا أمام نقد للفكر والمفكرين التحرّريين فحسب، وإنما أمام إدانة جوهرية للشعب، تنطوي على يأسٍ من أي تحول أو تغيير ممكن، الآن وفي المستقبل. نحن إزاء نفي مطلق لشرعية الثورة نفسها في شروط مجتمعاتنا العربية.
يفترض كاتب الرسالة أنه كان للمثقفين الدور الأول في اندلاع ثورة السوريين، وأن خطابهم، وربما بعض ملامح شخصيتهم المدنية الراقية، كما يقول، قد خدعت الجمهور وشجّعته على الخروج على النظام القائم. ويتضمن هذا الافتراض ثانيا أن الشعب لا يملك الوعي ومنظومة القيم التي تسمح له بالقيام بثورة، وأنه إذا ثار فلن تكون ثورته سياسية، وإنما حركة غوغائية، نظرا لجهله وتعصبه وطائفية معظم فئاته، فهو يفتقر إلى أي مبادرة ذاتية. ويتضمن ثالثا أن ما حصل من خرابٍ ودمار وقتل وتشريد أصاب ملايين الناس لم يكن نتيجة الحرب التي شنها النظام لقمع ثورة، وإنما هو ثمرة الحركة الغوغائية التي أطلقها، والتي لا يمكن أن تقود بالتعريف، أي بسبب غوغائيتها، إلا إلى ما شهدناه من خرابٍ ودمار وقتل. وتتضمن رابعا أن سياسة النظام لقمع الثورة/ الحركة الغوغائية لم تكن خاليةً من العقلانية، إن لم تكن شرعية. وخامسا، المسؤولية الرئيسية في ما وصلت إليه الأمور تقع على كاهل المثقفين السوريين، وأنا في مقدمهم، لجهلهم بطبيعة شعبهم البدائية، أو لرغبتهم في تضليله، طمعا في السلطة أو تعلقا بحلم تحرّري، لا مجال لتحقيقه في سورية، وربما في العالم العربي والإسلامي بأكمله. وبطريقةٍ ارتجاعيةٍ، يمكن أن نستنتج أن نظام الأسد، أو ما يشابهه من الأنظمة المجاورة، هو النظام الأكثر ملاءمة للشعوب العربية الأمية، وأن أصل الداء في مجتمعاتنا ليست النظام، وإنما الشعوب البدائية، وكل من يتعاطف معها من المثقفين والسياسيين الحالمين، أو الذين يخدعون أنفسهم بتعلقهم بمبادئ وقيم لا يمكن تطبيقها في الواقع.
(2)
ليس هناك شك في أن المثقفين مسؤولون عن نشر الأفكار التي ألهمت الثورة بمقدار ما قدمت للمجموعات النشطة التي قامت بإشعالها أهدافا تضفي الشرعية على عملهم، وتسمو به فوق المصالح والمنافع الوقتية والمادية. وبالفعل، من دون أفكار ملهمة وموجهة ومقنعة، لا تقود الاحتجاجات بالضرورة إلى ثورةٍ طويلة المدى وشاملة. لكن المثقفين لم يكونوا مع ذلك، مهما كانت نوعية أفكارهم وشعاراتهم وسلامتها أو خطئها، المفجرين الحقيقيين لها. المسؤول الأول عن إيجاد شروط الثورة وتفجيرها هو النظام السياسي، وخياراته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية أو التربوية، البعيدة والقصيرة المدى معا، وهي الخيارات التي تعاملت مع الشعب باعتباره قاصرا أبديا، وقرّرت أن تحكمه بالقهر، وتفرض عليه الصمت، واعتمدت من أجل إخضاعه والحصول على طاعته وسائل الإرهاب والترهيب البدائية الأكثر عنفا.
هكذا لم يعد الأمن يعني ضمان الدولة حقوق الناس ومصالحهم وسلامتهم الشخصية، الجسدية والمعنوية، وإنما بالعكس تماما، الأجهزة التي تعمل على تعرية الأفراد من أي حماية قانونية أو أهلية أو أخلاقية، لتأمين طاعتهم المطلقة وانقيادهم، من دون تساؤل أو سؤال، باعتبار ذلك شرط ضمان أمن النظام. لم تقبل السلطة، في أي وقت، الاعتراف بوجود شعب، باعتبار هذا الشعب طرفا له حقوقه ومصالحه ورأيه في ما يمس حياته ومصيره، ولا أقول سيادته، كما ينص الدستور. وترفض رفضا دينيا فكرة الحوار معه، أو التفاوض مع أطرافه لأي هدفٍ كان. واعتقدت دائما أنها تستطيع أن تضمن إذعانه من دون تنازلات، مهما كانت، معتمدةً على
تحكّمها بشروط حياته، ووضعه في حالة تبعية مطلقة لها، أفرادا وجماعات، واستخدام جميع وسائل العنف المادية والمعنوية، واحتكار وسائل الإعلام والتربية والثقافة، ووضع يدها على جميع موارد البلاد وتحكمها من خلال أجهزتها القمعية بكل فرص العمل ومنافذ الريح في قطاع المهن الحرة والوظيفة العمومية، وأخيرا ممارسة أسلوب العقاب الجماعي والمنفلت من أي رقابةٍ أو قيدٍ قانوني أو أخلاقي، بحيث لا يعرف الفرد الذي تبدو عليه علامات الامتعاض ما يمكن أن يواجهه من عقاب، ليس عما يقوله أو يفعله، وإنما عما لا يفعله، وما لا يعجب رجل الأمن في سلوكه، أو تصرفاته أو عشرته، وربما لون ملابسه أو نظراته أو طريقة سيره.
ولأن النظام كلما زاد تسلطا وأمنا زاد فسادا، وأصبح أكثر غيرة على مصيره، وهوسا في الدفاع عن أمنه، لم يجرؤ، في أي وقتٍ، على التخفيف من عنفه الشامل الذي شل بتعميمه المجتمع. وكلما زاد هذا المجتمع استسلاما له، زاد هذا النظام طموحه إلى أن يجعل من وجوده قدرا لا فكاك منه، حتى انتهى الأمر به إلى أن يجعل مركز نشاطه وبرنامج عمله الرئيس تنظيم الحرب الوقائية الرامية إلى التحييد الدائم والشامل للمجتمع، بما فيه من يواليه منه، وتعميم أعمال الترهيب الجماعي التي لا تهدف إلى عقاب أفعال أو أقوال اعتراضية، وإنما إلى تثبيت الخوف والرهبة في النفوس، والحيلولة دون ظهور أي بوادر احتجاجية من أي نوع كان.
أما في ما يتعلق بدور المثقفين، فليس ما يُؤخذ عليهم، أو ينبغي أن يؤخذ عليهم، نشرهم قيم الكرامة والحرية والعدالة والمساواة في المواطنة وحكم القانون، التي ضللت الشعب وحفّزته على الانتفاض، وهو غير أهل له، كما تقول الرسالة، ولا وقوفهم إلى جانب الجمهور، والسعي إلى توثيق العلاقة معه، وترشيد حركته، وتوجيه انتفاضته نحو أهدافٍ إيجابية، وتجنيبه الانحراف نحو المهاوي الطائفية والانتقامية التي كان يدفعه إليها النظام. ما ينبغي أن يُؤخذ عليهم، بالعكس تماما، هو تقصيرهم في القيام بدورهم هذا، ووقوف عديدين منهم، إن لم يكن أكثرهم، موقف التردد أو الحياد والهرب من المسؤولية. وترك الجمهور تقريبا من دون قيادةٍ سياسيةٍ وتوجيه فعليين.
وبالمثل، من الصحيح ما تذكره الرسالة إنه لا يمكن للشعب المقهور والمحكوم بالإعدام السياسي والعطالة المدنية، والموضوع في قفص الاتهام، وتحت الحراسة والمراقبة اليومية، أن يكون مستقلا وقادرا على أخذ المبادرة، ولا أن يتجرأ على الانتفاض وحده لولا تحفيز الآخرين. لكن الشعوب لا تعيش في معزلٍ عن بعضها بعضا، ولا في كرة مغلقة. إنها تتفاعل في ما بينها، وتحرّكها ديناميكيات عميقة باطنية، عابرة للحدود وأحيانا للقارات. ليس المثقفون من أشعل فتيل الثورة السورية، وأطلق ماردها من القمقم، وإنما ثورات الشعوب العربية المجاورة التي أظهرت للجمهور المخنوق بالملموس أن إسقاط صرح الطغيان ليس من المستحيلات، وأن الأمر لا يحتاج عبقرية فذّة، ولا وسائل واستراتيجيات بعيدة المنال. فكل الشعوب قادرةٌ على تسيير تظاهرات، والاحتشاد في الساحات العامة، وانتظار سقوط النظام. وكان من الصعب ألا تلتقط هذه الفكرة البسيطة مجموعاتٌ صغيرة من الشباب الذين لا مستقبل لهم، في نظام يسدّ عليهم كل أبواب الحياة، والذين لم يشهدوا أحداث الثمانينات من القرن الماضي، ويروا بأم أعينهم جثامين ضحايا مجازر حماة وجسر الشغور وتدمر وغيرها، ويستبطنوا الصدمة النفسية التي شلت إرادة آبائهم عقودا طويلة، وربما للأبد.
(3)
رمي مسؤولية ما حصل على الوعي المتخلف للشعب لا يسعف أحدا. صحيحٌ أن قطاعاتٍ من المجتمع السوري قد أظهرت، في بعض مراحل الثورة، وربما قبلها أيضا، بعض أعراض الجهل بالإسلام، أو التفسير الخاطئ للدين، ومشاعر الطائفية، والتعصب، والكراهية، كما هو الحال في مجتمعات أخرى عديدة. لكن هذه الأعراض لم تحدث، ولا يمكن أن تحدث ثورات. وليست هي التي تصنع الأحداث، وتتحكم بمجرى التاريخ والتحولات الكبرى. ولا تمثل ماهيةً ثابتة لأي شعب.
الجذور العميقة للممارسات الطائفية وإحياء روح التعصب المذهب والقبلي والجهوي موجودة في أساسات نظام الأسد، وهي التي تميزه وتعبر عن جوهره، باعتباره نظام التمييز الطائفي والمحسوبية والعنصرية الاجتماعية واللعب على الانقسامات الأفقية والعمودية وتزوير الحقائق بامتياز، وهذا ما يفسر أيضا ما بدر منه من مشاعر الحقد والانتقام والكراهية والتشفّي، وبرّر في عيون مليشياته عمليات القتل بالجملة للمعارضين والمدنيين من دون حساب. الوحشية والطائفية وروح الكراهية التي سيطرت على بعض قطاعات الرأي العام السوري هي رد الفعل المباشر والأعمى على الطابع الوحشي والطائفي الذي طبع أسلوب حكم الأسد ومعاملته محكوميه. والذي سعى من خلاله إلى بث الفتنة داخل صفوف الشعب للتحكّم به، وتضليله، ودفعه إلى الارتماء في أحضان رجال الدين، وفصله عن نخبه الثقافية والسياسية الواعية، حتى يحرمه من أي فرصةٍ لتنظيم مقاومة بناءة، وتقويض أي أملٍ له بالخلاص.
ومهما كان وزن الأفكار الثورية والتحرّرية وتأثيرها، ما كان من الممكن لها أن تقاوم استراتيجيات النظام المعزّزة بأجهزته وأجهزة حلفائه الأمنية والإعلامية الواسعة والمتعدّدة المتربصة بفصائل ومجموعات ثورية مفتقرة للقيادة السياسية الواحدة، واستغلال أخطائها لتبرير
عنفه، والتغطية على خياراته الإبادية. كان تفجير حرب طائفية موازية للثورة السياسية السلمية، لم يوفر نظام الأسد وسيلةً من أجل إشعالها، الوسيلة الوحيدة لاستبدال سردية الثورة بسردية الحرب الأهلية، وإجبار قسم من الشعب على الالتحاق باستراتيجيته، باسم الدفاع عن الأقليات، قبل أن ينتقل، في مرحلةٍ تاليةٍ، إلى تفجير حرب ضد الإرهاب الذي كان أول من أطلق سراح قادته ورجالاته.
لم تكن مظاهر الجهل والتعصب والطائفية والقبلية التي انبعثت في سياق الثورة عفوية ولا بريئة. لقد تم تصنيعها في الصراع ومن أجله، وبإرادة النظام، وبمساعدة أجهزته ذاتها، ولهدفٍ واضح وعلني، هو دفن المحتوى التحرّري والمطالب الديمقراطية للثورة تحت طبقةٍ سميكةٍ من غبار النزاعات الفكرية والطائفية، وإحياء العصبيات القبلية الدارسة.
ليست الثورة والحرب التي أعلنها النظام عليها، والتدخلات الأجنبية التي استدعاها لتعزيز قواته، والحروب الجانبية والموازية التي أطلقها، الأقوامية والطائفية والمذهبية ثم الإرهابية، والقتل والدمار الذي رافقها جميعا، ليس ذلك كله من صنع المثقفين. وهو ليس من صنع الشعب البسيط الذي كان يحلم، مثل جميع الشعوب، ببعض الكرامة والحرية والأمان والاعتبار. كان من مقتضيات الحرب البربرية التي أعلنها النظام وحلفاؤه على الشعب لسحق إرادته، وإجباره على قبول الأمر الواقع، والاستسلام للسلطة الجائرة والفاسدة التي تحكمه، وتتحكم بحياته وأرواح أبنائه منذ نصف قرن. بديل الثورة، التي كانت وستبقى أكبر حدثٍ مجيد في تاريخ سورية الحديثة، وأعمقها أثرا وتعبيرا عن إرادة التحرّر وروح البطولة والكفاح التي تسكن اجسام السوريين وقلوبهم، كان ولا يزال قبول الشعب بالعبودية كخيار وحيد وكمصير أبدي. لم يكن الصراع في أيٍّ من مراحل الثورة صراعا على الثقافة، ولا على المواقع الطبقية، ومن باب أولى على المحاصصات الطائفية والعشائرية. كان بوضوح الشمس على الوجود بين نظامٍ جعل شرط بقائه تغييب الشعب وإعدامه وشعبٍ لم يعد قادرا على البقاء من دون التخلص من قهر النظام وإسقاطه. بين العبودية والحرية لا يوجد نصف خيار.