لم تنته الحرب في سورية، وليس ثمة أفق بنهايتها، وما تزال البلاد تنزّ دماً من كل جوانبها، واحتمالات اشتعال الحروب الإقليمية على الأرض السورية لم تكن يوماً بمثل هذا الوضوح. وعلى الرغم من ذلك، يستعجل رأس النظام السوري حصد نتائج الحرب الأهلية المريرة.
هل من قال حرباً أهلية؟ يرفض نظام الأسد الاعتراف بأن ما حصل في سورية كان حرباً أهلية، أو حتى من أشكالها، لإدراكه أن ذلك يضعه في موقع طرفٍ أهلي، ويجرده من مكسب السيطرة على الدولة ومؤسساتها وحرمانه من ادعاء تمثيلها، لكنه على الأرض يمارس ممارسات المنتصر بحربٍ أهلية، عبر سعيه إلى تدمير بيئة الأكثرية، المهزومة، وتهميشها وإقصائها عقودا قادمة عن دائرة الفعالية، أي جعلها تدفع ثمن هزيمتها.
ولا يكتفي الأسد ببقائه في الحكم واستمرار نظامه ثمناً ومكافأة لنصره المزعوم، فذلك تحصيل حاصل لسيطرته، بغض النظر كيف حصل ذلك، ولا يكتفي بالدمار الذي تحقّق لخصومه، عبر تدمير مدن الأكثرية ومناطقها وتفكيك الخريطة الإجتماعية لها، بل يريد أكثر من ذلك انتزاع حقوقهم في أملاكهم، واستتباعاً، حقهم في الوطنية السورية، إذ أن تجريدهم من ملكيتهم خطوة على طريق تجريدهم من هويتهم السورية، وعزلهم هم ونسلهم إلى عقود مقبلة، بحيث يشار إليهم دائماً أنهم مجرّدو الملكية، وهذا نوع من التوصيف، أو التصنيف، السياسي لهؤلاء، كنايةً عن العقاب السياسي لهم.
وغالباً ما يحدث مثل هذا الأمر، ليس في أعقاب الحروب الأهلية التي يرفض الأسد الاعتراف بها، وإنما نتيجة ثورات اجتماعية سياسية، تكون موجهةً في الغالب ضد سيطرة نخب،
بورجوازية أو إقطاعية، أو أوليغارشية، أو كومبرادورية، سيطرت، عبر ظروف تاريخية، على موارد البلاد وهمشت الأكثرية. وبالتالي، فإن الثورة ضدها تهدف إلى إعادة توزيع الثروة والموارد على أكبر قدر من الناس، أما أن يحصل العكس، أي أن يتم تجريد الأكثرية من مواردها، فذلك بدعةُ أسديةٌ، ولكن أليس الأسد قائدا لثورة، حتى لو كانت مضادة، ثم ألا يحق للمنتصر في الثورة تقرير شكل عقاب المهزوم، وترسيم النظام الاقتصادي والاجتماعي على ضوء هذا الواقع الجديد؟
يضبط الأسد الواقع الجديد بأدواتٍ تناسبه وحده، مراسيم رئاسية يجري تنفيذها عبر أجهزته الأمنية، ما علاقة إثبات الملكية بمراجعة الفروع الأمنية؟ في حين أن دور المؤسسات التشريعية، مثل مجلس الشعب، لا تعدو أن تكون ذات طبيعة هامشية. وعلى كل حال، ماذا يمكن أن ننتظر من مجلسٍ يطالب أعضاؤه الناس الهتاف بحياة الأسد في مقابل حصولهم على قارورة ماء، وماذا ننتظر من مجلسٍ تنتخب الأجهزة الأمنية أعضاءه.
والواقع أن بشار الأسد، رئيساً، يمتلك أريحيةً في الحكم لا ولم يمتلكها أي نظير له في العالم، لا اليوم، ولا حتى في الماضي، قبل ظهور الثورات، وحتى قبل أن يلهج العالم بشيء اسمه حقوق إنسان وتقرير مصير وحقوق سياسية واجتماعية، فهو لا يكتفي بهندسة المستويين، السياسي والأمني، في سورية، على اعتبار أن المجالين هما الأقرب لسلطته، ومدى قدرة يديه على التأثير والفعل، بل يذهب إلى إعادة هندسة العمران والاجتماع السوري، والدليل على أريحية الأسد، في هذا المضمار، أنه طبقه عبر عملية ممنهجة ومنظمة وطويلة نسبياً، بدأت بالتدمير، شارعا شارعا، ثم بالتهجير، ثم إعادة الإعمار والتوطين وفق مقاسات وشروط خاصة.
استهلكت تلك المراحل ملايين الضحايا، على شكل قتلى ومعتقلين ومخفيين ومهاجرين،
واستدعاء قوى إقليمية ودولية، واستئجار مرتزقة ومليشيات خارجية. وبالتزامن مع ذلك، اشتغلت ماكينة هائلة من مفاوضات شكلية وقرارات مجلس أمن لم تر النور، وحروب كلامية أنتجت جعجعةً، وطحنت الشعب السوري، الشعب السوري المعارض، ولأول مرّة يثبت أن الجعجعة تطحن لحماً ودماً وأرزاقا، فيما الأسد يأخذ وقته الكافي لإنتاج مجتمع سوري متجانس.
واليوم، يعتقد بشار الأسد أنه وصل إلى المرحلة التي يجني فيها الأرباح خالصة، نتيجة جهد دام ثماني سنوات، لا يريد أن يعبر مراحل المصالحات ولجان الحقيقة، والتئام جراح المجتمع السوري. بالنسبة له المصالحة تعني التخلص من معارضيه ونفيهم إلى إدلب، ليتفرغ بعد ذلك لإبادتهم مرّة واحدة للأبد، أما الحقيقة فبالنسبة له أن هؤلاء خونة، لأنهم ثاروا على أسيادهم، ولا يريد حتى إنجاز دستور جديد، يؤشر إلى أن البلاد ستدخل مرحلة جديدة مختلفة نسبياً، ذلك كله لا يعنيه.
ما يعني الأسد، ويستعجل القيام به، إعادة الإعمار، لإدراكه أن الثروات يمكن جنيها في حالتين، دمار حضارة أو تشييد حضارة. وهو أنجز المرحلة الأولى، وكسب ما كسب، والآن يجهّز للمرحلة الثانية، التشييد. ويطمح، في هذه المرحلة، مكافأة حلفائه، روسيا وإيران، عبر منحهم عقود استثمار الثروات السورية، من غاز وفوسفات ونفط وشركات اتصالات، ويريد مكافأة أنصاره في الداخل، عبر منحهم أسهما وأملاكا وعقارات، على حساب الأكثرية المنهزمة.
لم تشهد الحروب الأهلية الحديثة نتائج مثل التي يريد الأسد الحصول عليها، لا في رواندا ولا لبنان أو هندوراس، أو غيرهم، كما لم تشهد التمرّدات في كولومبيا ونيجيريا حصول تغييرات ديمغرافية واقتصادية بالحجم الذي يبتغيه الأسد. في كل هذه الحالات كان يتم تغيير النظام السياسي، أو تكييفه، للتوافق مع مرحلة جديدة، في سورية وحدها يجري تغيير الناس؟
لكن من قال إن الحرب انتهت؟ أو إن الأسد انتصر؟ مؤكد أن ضعف الخصم أو تراجعه ليس مؤشراً يكفي لبناء هذا الاستنتاج. وتؤكد الوقائع على الأرض هذه الحقيقة، مثلما أن الأيام المقبلة حبلى بمفاجآت على أكثر من مستوى.