وأفرغت المنظمة من محتواها واختزلت الفصائل من ناحية تأثيرها إلى فصيل واحد، بينما تحولت الفصائل الأخرى إلى مجرد أداة تجميل وإخراج، واختزل الفصيل في شخص وفي أفضل الأحوال في مجموعة من المقربين والمستشارين، والأهم من ذلك استدعاء المنظمة حين الحاجة لتقديم تنازلات باسم الشعب الفلسطيني وبتشجيع من النظام العربي الرسمي بعيداً عن أطيافه الفاعلة وفصائله الأساسية، بما يمس الحقوق والثوابت الاساسية وبما يتناقض مع قرارات أممية داعمة للحق الفلسطيني.
التنازل عن التحرير
على خلفية تداعيات حرب عام 1973م ومشاريع وزير الخارجية الأميركي هنري كسينجر للتسوية، أعدت حركة فتح برنامج النقاط العشر أو برنامج الحل المرحلي كصيغة استهلالية لانخراطها في مشروع التسوية، وحتى ترفع الحركة العتب عن نفسها تقدمت الجبهة الديمقراطية بمسودة البرنامج إلى المجلس الوطني في دورته الثانية عشرة في يونيو/حزيران 1974م نيابة عن حركة فتح حيث تم إقراره.
وكان أهم ما ورد في البرنامج بما يشير إلى تراجع واضح عن الميثاق الوطني، البند المتعلق بالكفاح المسلح، حيث “تناضل منظمة التحرير بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها”، وهو مؤشر على انخفاض السقف الوطني من تحرير كامل التراب الفلسطيني الى الأراضي التي احتلت عام 1967 أو أقل من ذلك، وكذلك من الكفاح المسلح كاستراتيجية إلى وسيلة للتحرير من بين وسائل أخرى سياسية ودبلوماسية وشعبية. طبعا انسحبت كل من الجبهة الشعبية والقيادة العامة قبل أن تعود الجبهة الشعبية إلى المنظمة، ولكنها كانت الخطوة الأولى نحو كسر الإجماع الفلسطيني وتفتيت وحدة فصائله الفاعلة.
ذهبت رئاسة المنظمة وعلى عجل إلى القمة العربية في الرباط في أكتوبر/تشرين الأول 1974م بإسناد من النظام العربي، حيث تم الاعتراف بالمنظمة كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني لتعبيد الطريق أمام المنظمة للدخول في مشروع التسوية، وتخلي العرب عن مسؤولياتهم القومية تجاه القضية الفلسطينية.
وثيقة الاستقلال
شكلت الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني المنعقدة في الجزائر في 12-15 نوفمبر/تشرين الثاني 1988م منعطفا آخر في تاريخ الثورة الفلسطينية، بعد أن تم اعتماد وثيقة الاستقلال وإعلان الدولة الفلسطينية على أساس حل الدولتين والقرار 242 الذي أعقب حرب عام 1967م، عمليا لا يعني إعلان الاستقلال شيئا على أرض الواقع ولكن الأهم هو أنّ الإعلان كان ساتراً وغطاءً لما حدث بعد ذلك في جنيف خلال المؤتمر الصحافي في 14 ديسمبر/ كانون الأول 1988م حيث اعترف الرئيس الراحل ياسر عرفات صراحةً بإسرائيل، “ونبذ الإرهاب”، وقرارات مجلس الأمن 242 و338، وذلك في مقابل فتح بوابة الحوار الموصدة حتى ذلك التاريخ مع الإدارة الأميركية بشأن التوصل إلى تسوية للقضية الفلسطينية.
كان الراحل عرفات مستعجلا استثمار الانتفاضة الفلسطينية المشتعلة لصالح مشروع التسوية والدخول في مفاوضات مع إسرائيل عبر الولايات المتحدة، ولكن بعد أن امتثل للشروط الأميركية في سياق إعلان الاستقلال في دورة الجزائر وباسم الشعب الفلسطيني وموافقة الإدارة الأميركية على فتح نافذة الحوار، ولم يمضِ سوى أشهر حتى تراجعت الإدارة عن هذا القرار.
وعلى وقع حرب الخليج 1991م وهزيمة العراق وضعف وانقسام النظام العربي، سارت المنظمة نحو مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر/تشرين الأول 1991م، ممهدة له بعقد دورة المجلس الوطني العشرين في الجزائر في 23-28 سبتمبر/أيلول 1991م، حيث تبنت عدة قرارات أهمها “ضرورة انعقاد مؤتمر مدريد على أساس القرارين 242 و338 تحت شعار “الأرض مقابل السلام”، وهو تأكيد على التنازلات التي تمت عقب دورة “الاستقلال” في الجزائر عام 1988م.
إلغاء وتعديل بنود الميثاق
بعد انقطاع دام خمس سنوات لاجتماعات المجلس الوطني، تداعى المجلس للاجتماع في دورته الواحدة والعشرين في غزة في إبريل/ نيسان 1996م لهدف واضح وهو إلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني وإقرار ما تم الاتفاق عليه في أوسلو، بمعنى إضفاء شرعية باسم الشعب الفلسطيني على عملية التجريف للثوابت الفلسطينية في عملية أوسلو الكارثية والتي تضمنت الاعتراف بإسرائيل على 78% من مساحة فلسطين التاريخية، والطلاق مع المقاومة “نبذ العنف والإرهاب”، وترتيبات أمنية تشمل التنسيق الأمني لمحاربة المقاومة، وتأجيل الحديث عن القدس واللاجئين والحدود، في مقابل اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير وإقامة سلطة حكم ذاتي على بعض المناطق التي تنسحب منها إسرائيل من الضفة الغربية وقطاع غزة.
فقد جاء في ديباجة القرار “يؤكد القرار التزامات منظمة التحرير الواردة في اتفاق أوسلو، والاتفاق الموقع في القاهرة، ورسائل الاعتراف المتبادلة الموقعة في سبتمبر/أيلول 1993م، والاتفاقية الإسرائيلية الفلسطينية المرحلية حول الضفة الغربية وقطاع غزة الموقعة في واشنطن سبتمبر/أيلول 1995م”.
ومن هذا المنطلق قرر المجلس: تعديل الميثاق الوطني بإلغاء المواد التي تتعارض مع الرسائل المتبادلة بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل حسب اتفاق أوسلو، وتكليف المجلس الوطني الفلسطيني اللجنة القانونية بإعادة صياغة الميثاق الوطني ليتم عرضها على المجلس المركزي التالي.
وعليه تم إلغاء 12 مادة، وتعديل 16 مادة أخرى من الميثاق، وتتحدث المواد الملغاة أو المعدلة عن المقاومة المسلحة بكل تفاصيلها، والارتباط المادي والروحي والتاريخي للفلسطينيين بفلسطين، والكيان الصهيوني باعتباره كياناً عنصريا استيطانياً، وبطلان وعد بلفور وصك الانتداب، وبطلان قرار التقسيم عام 1947م، وبمعنى آخر إعادة صياغة الميثاق بما ينسجم مع برنامج التسوية ومتطلبات تجريم المقاومة واعتبار الكيان الصهيوني دولة معترفا بها ولها كل الحق بالعيش بسلام وامن.
وأعيد التأكيد بما لا يدع مجالا للشك على الإلغاء والتعديل بعد إلحاح إسرائيلي في سياق الموافقة على “اتفاقية واي ريفر” وبطلب أميركي في جلسة المجلس في 12-14 ديسمبر/كانون الأول 1998م في غزة بحضور أعضاء المجلس الوطني، وهيئات المنظمة الأخرى، والمجلس المركزي للمنظمة، وأعضاء المجلس التشريعي الذي كانت تسيطر عليه حركة فتح، ومجلس الوزراء، وفوق ذلك الرئيس الأميركي بيل كلينتون الذي قدم خصيصا لهذا الهدف الكبير.
تكريس احتكار التمثيل
بعد حوالي عشر سنوات من الدورة الثانية والعشرين التي عقدت عام 2009م لاستكمال بعض شواغر اللجنة التنفيذية، تم استدعاء المجلس الوطني لإعادة ما يسمى “تجديد الشرعيات” بترتيب عضوية المجلس الوطني، وانتخاب لجنة تنفيذية ومجلس مركزي بعيداً كل البعد عن الإجماع الفلسطيني واختزال المنظمة في حركة فتح، وحتى اختزال الحركة في عدة أشخاص فقط.
فقد اجتمع المجلس الوطني في مدينة رام في الله في 30 إبريل/نيسان 2018م في ظل مقاطعة واسعة وتسكين أعضاء على مقاس معين، وكان من الواضح أن اجتماع المجلس والطريقة التي تمت بها الاجتماعات، وانتخاب الأعضاء في كافة الهيئات، كانت أقرب إلى مسرحية هزلية خلت من الجدية المطلوبة في هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها القضية الفلسطينية، وفي سياق كم من المؤامرات التي تحاك لتصفية القضية الفلسطينية، وطبعا استدعاء المنظمة وتوظيفها لإضفاء شرعية على قيادة السلطة الفلسطينية والتي بدت متداخلة بشكل كبير مع قيادة حركة فتح بالإضافة إلى المنظمة، وتجديد الشرعية في وقت تعاني فيه السلطة وحركة فتح من أزمة شرعية تاريخية، بعد انغلاق الأفق السياسي وانهيار مشروع التسوية بالكامل وأساسه حل الدولتين، وتآكل منجزات السلطة في الضفة الغربية وتحول السلطة إلى مجرد أجهزة أمنية تقدس التنسيق الأمني وتحمي الاحتلال، مع واقع إقليمي ودولي معاد للسلطة في ظل حكومة يمين إسرائيلي متطرف، ونظام عربي إما متواطئ أو عاجز، أو نظام دولي على رأسه الولايات المتحدة التي تتوافق أجندتها وموقفها من القضية الفلسطينية مع اليمين الحاكم في إسرائيل.
لقد وظفت حركة فتح منظمة التحرير ومؤسساتها بعد عام 1974م لصالح مشروعها السياسي الذي بدت ملامح عجزه وانهياره منذ سنواته الأولى، واستخدمت كأداة لتقديم التنازل تلو التنازل باسم الشعب الفلسطيني، وفي تعزيز شرعية لم يكن لها أن تتحقق من خلال عملية ديمقراطية سليمة، او من خلال إجماع وطني مقبول في حال تعذر الأدوات الديمقراطية.