طالبت الحركات السياسية الكردية في سوريا – منذ تأسيس أول حركة سياسية في عام 1957وحتى الوقت الراهن – بالحقوق القومية للكرد، وشملت المطالب القومية الكردية بعض الحقوق الثقافية ضمن حزمة مطالب سياسية. ومع اندلاع الحراك السوري في منتصف آذار 2011 ودخولها في طور النزاع المسلّح، وحدوث فراغ أمني وإداري في المناطق ذات الغالبية الكردية، رفعت الحركات السياسية الكردية في سوريا من سقف مطالبها السياسية إلى حدّ إدارة مناطقهم، ومن ضمنها المطالبة بكامل الحقوق الثقافية، والدعوة إلى جعل اللغة الكردية لغة التعليم في المناطق ذات الغالبية الكردية.
إلا إن الظروف المحيطة بالكرد في سوريا وواقعهم الذاتي الأخير ينبّه إلى خطورة المطالب السياسية، وضرورة قراءة قادة الكرد للواقع بموضوعية، مع إعطاء الأولوية للمطالب الثقافية على المطالب السياسية في شمال وشرق سوريا حتى يتسنى لهم الخروج من طاولة المفاوضات ببعض المكاسب طويلة الأمد.
إن الاهتمام الدولي الحالي بشمال سوريا، والذي انعكس مؤخراً في اجتماع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في تركيا حول قضية سوريا، يؤكد فقط وبما لا يدع مجالا للشك محدودية وضعف الموقف الكردي في تلك المفاوضات الكبرى.
أكّد إعلان اليونسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي ، أنّه ينبغي النظر إلى الثقافة بوصفها “مجمل السمات المميزة، الروحية والمادية والفكرية والعاطفية، التي يتصف بها مجتمع أو مجموعة اجتماعية، وعلى أنها تشمل، إلى جانب الفنون والآداب، طرائق الحياة وأساليب العيش معًا ونظم القيم، والتقاليد والمعتقدات”. فكانت الفعاليات الثقافية للكرد ممنوعة حالها حال الفعاليات السياسية، كانت ولازال في الدول المجاورة لسوريا – كتركيا وإيران- – حيث تكبَح جماح أيّ بروز ثقافي كردي دون معرفة الحكومات وتحت جناحها، وإن كان ذلك على مستوى أغنية قومية أو طبع كتاب باللغة الكردية أو كتابة تسمية مكان باللغة الأم، لا بل تعرّض من يجرؤ على ذلك لعقوبات وصلت حدّ السجن لسنوات.
وقد بدأ هذا النمط يعيد نفسه حيث أن فترة الحكم الذاتي التي تمتعت بها الجماعات الكردية في سوريا قد أفضى إلى حقائق جديدة. على سبيل المثال، أدت سيطرة الجماعات المدعومة من قبل تركيا على عفرين إلى إنهاء حالة الحريات السياسية والثقافية التي كانت تتمتع بها المدينة الكردية. وتُظهر هذه الحالة كيف أن ربط الأولويات الثقافية والسياسية، من قبل القيادة الكردية كان له آثار ضارة على الحريات الثقافية وتقييدها.
استفاد الكرد من الفراغ الأمني والإداري اللذان خلفتهما أحداث السنوات الأخيرة في سوريا، لتأكيد وجود كردستان سوريا أو غرب كردستان؛ وتعالت الشعارات القومية المكتوبة باللغة الكردية، ورفع الأعلام القومية وصور الرموز الكردية في المجال السياسي والثقافي. ومع ذلك، فشلت محاولة بناء الدولة المتسرعة هذه في إدراك حقيقة أن المطالب السياسيّة للكرد تخضع بشكل كلي للتوازنات الإقليمية والدولية ومصالح الدول التي تحكمهم. لذا ترفض الدول الحاكمة للكرد وهي الآن تركيا وإيران وسوريا إعطاء الحقوق الثقافية كما رفضها للحقوق السياسية، وتضع المطلبيّن في خانة واحدة.
وبالتالي، يجب على القادة الأكراد الشروع في إجراء عملية صعبة، لكنها ضرورية في النهاية لفكّك الارتباط بين المفهومين، وهي عملية صعبة بشكل خاص نظراً للوضع الصعب الذي تعانيه الجماعات الكردية السورية حالياً. وقد بدأت المحادثات بين مجلس سوريا الديمقراطية؛ وهي الجهة التي تدّعي تمثيلها مكونات شرق الفرات أو شمال شرق سوريا ومن ضمنهم الكرد من جهة والحكومة السورية في دمشق من جهة ثانية بغرض وضع الترتيبات الإدارية والأمنية للمنطقة على حدّ قولهم.
ومن ثم، يجب على المفاوضين الأكراد أن يدركوا أن دمشق ستعطي الأولوية لعلاقاتها الإقليمية – لا سيما مع جارتها الشمالية تركيا – وأن أي مكاسب سياسية متفق عليها يمكن إلغاؤها بسرعة. واستنادا لذلك، أصبح من الضروري على الحركات السياسية الكردية أن تتفهم خطورة الوضع، وأن تضع قائمة بالمطالب الثقافية المتفق عليها من قبل الحكومة السورية، والتي هي الآن في متناول أيديهم ـ على أن تكون تلك المطالب غير قابلة للمساومة مستقبلا في حال نشوب نزاعات إقليمية.
تقع المطالب الثقافية الممكنة للكرد في سوريا ضمن إطار حماية القيم والتقاليد والمعتقدات إلى جانب ممارسة الفنون والآداب، وحق التعلّم باللغة الأم، هذه المطالب الممكنة التحقيق تحفظ للكرد في سوريا جذور قيمهم وتقاليدهم، وتعزّز هويتهم القومية من خلال التعلّم بلغتهم الأم، كما تساهِم هذه الاستحقاقات الثقافية في تطوّر فنون وآداب الكرد المرتبطة بجذورها الشفاهية والممتدة في عمق التاريخ، وتفتح الباب كي تبرز الفنون والآداب الكردية في المنحى الكتابي.
بما إنّ منطقة تواجد الكرد في سوريا هي المنطقة ذاتها لتواجد قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والكرد هم الحلفاء المعتمدين لدى قوات التحالف الدولي في مكافحة الإرهاب على طول الشريط الواقع شرقي الفرات، فمن الممكن أن يساهم التحالف الدولي والولايات المتحدة الأمريكية خاصة في دفع الكرد نحو المطالبة بحقوقهم الثقافية ضمن الدستور السوري المقبل، وهي فرصة لدعم ومساندة الحلفاء الكرد وعدم التسبّب في إزعاج الحليفة تركيا، وبذلك تكون الولايات المتحدة الأمريكية حقّقت ما تحتاجه من رضى الحليفين، الكرد والأتراك معا.
المطالب الثقافية هي بالنتيجة هوية الشعب الكردي، وهي بالنسبة للكرد قضية وجود وأهم من المطالب السياسية. وفى الوقت الذي تبدوا فيه تلك المطالب الثقافية ابعد ما تكون عن توقعات أكراد سوريا التي عقدت قبل سنوات قليلة، إلا أن اللحظة الأن أصبحت حاسمة، حيث تدعو الحقائق الإقليمية الفوضوية المفاوضين الأكراد إلى النظر إلى أولئك الذين يتفاوضون من أجلهم، بدلاً من العودة إلى الاستراتيجية القديمة المتمثلة في تداخل الثقافة والسياسة والتي فشلت مراراً وتكراراً في التاريخ الكردي.