ترامب يريد مساعدة إسرائيل عبر قطع المساعدات عن الفلسطينيين. فلماذا يشعر بعض الإسرائيليين بالقلق؟

ترامب يريد مساعدة إسرائيل عبر قطع المساعدات عن الفلسطينيين. فلماذا يشعر بعض الإسرائيليين بالقلق؟

في أوائل عام 2014، قام عمّال “وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين” (“الأونروا”) – الهيئة التي تأسست منذ سبعة عقود والتي توفّر الخدمات الأساسية للاجئين الفلسطينيين – بإعلان الإضراب في الضفة الغربية وقطاع غزة. وكان السبب وقوع خلافات داخلية بين الإدارة وأعضاء الهيئة التدريسية حول تخفيضات الميزانية وتسريح العمال. وأدى ذلك إلى إغلاق مدارس “الأونروا” أبوابها لمدة شهرين في كافة أنحاء مخيمات اللاجئين في الأراضي الفلسطينية، وتكدس القمامة في الشوارع، وبقاء عيادات الرعاية الصحية مغلقة. وأعرب مسؤولون من جميع الأطراف عن قلقهم بشأن الإضراب، ولكن ليس بينهم من هو  أكثر حدة من الضباط العسكريين الإسرائيليين. إذ قال لي آنذاك أحد كبار الضباط من الوحدة العسكرية التي تدير الضفة الغربية “هذه مصلحة أمنية تهمنا جميعاً… نحن لا نريد أن يشعر الأطفال بالملل، وأن يبدأوا برمي الحجارة“.

ويبدو اليوم أنّ إدارة ترامب مصممة على إنهاء كل تمويل أمريكي لـ “الأونروا” وقطع المساعدات الأخرى عن الفلسطينيين. ويعتقد أقرب مستشاري الرئيس الأمريكي، بمن فيهم صهره جاريد كوشنر، أن وكالة اللاجئين تقوّض المصالح الإسرائيلية وتحفّز آمال اللاجئين في العودة إلى وطنهم في إسرائيل. وكما هو الحال مع قرار ترامب العام الماضي بنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس، يُنظر إلى حجب أموال المساعدات على أنه وسيلة أخرى تتوافق بها الحكومة الأمريكية، التي تعمل كوسيط تأريخي لعملية السلام، مع عناصر متشددة داخل إسرائيل.

ولكن بينما يحظى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالدعم الكامل من الرئيس ترامب، يشعر كبار مسؤولي الأمن الإسرائيليين بالقلق. ووفقاً لتقرير في التلفزيون الإسرائيلي في نهاية الأسبوع الثالث من آب/أغسطس، قال بعض من أولئك المسؤولين لمجلس الوزراء الإسرائيلي بأن هذه الخطوة قد تأتي بنتائج عكسية على إسرائيل، وقد “تضرم النار على الأرض”. وحذر آخرون من أن الحركة الإسلامية «حماس» ستملأ الفراغ الناجم عن أي تراجع في خدمات “الأونروا”.

أمّا أسباب القلق فليس من الصعب إدراكها. فكما أخبرني أحد الدبلوماسيين الدوليين في القدس ذات مرة، إن “الأونروا” هي بالفعل [وكالة] “شبه حكومية” في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتوفر التعليم والصحة والخدمات الأساسية الأخرى لحوالي مليوني شخص.

وقد تم تسجيل نحو 800,000 فلسطيني كلاجئين في الضفة الغربية وحدها، والكثير منهم يقيمون في مخيمات اللاجئين التسعة عشر المنتشرة عبر أراضي الضفة الغربية (كلمة المخيمات هي تسمية خاطئة؛ فهي حالياً أحياء فقيرة [أُقيمت فيها] أبنية خرسانية غالباً ما ترتبط بالمدن الفلسطينية الرئيسية). ويدرس ما يقرب من 50 ألف تلميذ في 96 مدرسة تديرها “الأونروا”، كما أنّ الوكالة مسؤولة عن 43 مركزاً إضافياً للرعاية الصحية، و 15 مركزاً لإعادة التأهيل المجتمعي، ومركزين للتدريب المهني، و 19 مركزاً لبرامج النساء.

أمّا الوضع في غزة فهو أكثر حدة. إذ يعتمد مليون فلسطيني، أي نصف سكان القطاع الساحلي المحاصر، على “الأونروا” للحصول على المساعدات الغذائية. ويدرس ربع مليون لاجئ في مدارس الوكالة البالغ عددها 267 مدرسة، ويقوم حوالي 21 مركزاً صحياً بتقديم الرعاية الصحية إلى السكان المتضررين من الحرب. وفي إقليم يبلغ معدل البطالة فيه 40 في المائة – أعلى معدل في العالم – توظف “الأونروا” ما يقرب من 13000 شخص – والكثير منهم هم أنفسهم لاجئين مسجلين.

وتقدم الحكومة الأمريكية، التي هي أكبر الجهات المانحة لـ “الأونروا” على مرّ التاريخ، أكثر من ربع ميزانية الوكالة. وستؤدي خطتها الرامية إلى وقف التمويل البالغ قيمته 350 مليون دولار إلى جعل “الأونروا” تعاني من نقص هائل، حيث سبق أن قامت الوكالة بتسريح بعض العمال. ومن المقرر أن يبدأ العام الدراسي في موعده المحدد، لكن لا يمكن للمسؤولين في الوكالة ضمان تمديده بعد نهاية أيلول/سبتمبر. وتثير غزة قلقاً بالغاً على وجه الخصوص، حيث أصبحت المنطقة بالفعل على حافة كارثة إنسانية، كما أن إسرائيل و«حماس» تترنحان على أطراف الحرب. ولطالما وصف مسؤولو الأمن الإسرائيليون بأن غزة تشكل “قنبلة موقوتة”- وتحاول الآن إسرائيل و«حماس» (التي تحكم القطاع) نزع فتيلها عبر محادثات غير مباشرة.

ويبدو أيضاً أن واشنطن عازمة على تجريد ملايين الفلسطينيين في أنحاء المنطقة من وضعهم كلاجئين – وهي قضية مثيرة جداً للعواطف ومرتبطة بمطلب “حق العودة” الفلسطيني. ويؤكد المنتقدون أنّ الوضع الحالي للاجئين (الذي نُقل كذلك إلى أحفاد أولئك الفلسطينيين الذين فروا خلال إنشاء دولة إسرائيل في حرب عام 1948) يطيل أمد الصراع بشكل مصطنع، مما يدفع اللاجئين إلى الاعتقاد بأنهم قد يعودوا يوماً ما إلى منازلهم داخل إسرائيل. وفي هذا الصدد، قال لي المقدّم ألون إفياتار، ضابط إستخبارات إسرائيلي متقاعد لديه خبرة طويلة في الشؤون الفلسطينية، “إن ذلك يتعلق بجوهر السرد الفلسطيني… وقد يترتب عنه تداعيات أكثر تأجيجاً من تخفيضات الميزانية”.

ولم تتوقف إدارة ترامب عند “الأونروا” فقط. ففي أواخر الأسبوع الثالث من آب/أغسطس، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أنها ستخفض 200 مليون دولار من المساعدات للفلسطينيين في الضفة الغربية، وأهمها تطوير مشاريع البنية التحتية عن طريق “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية”. وإلى جانب الضرر الأكبر الذي سيلحق بالاقتصاد الفلسطيني بعد وقف هذه المبادرات – التي تشمل الطرق، والصرف الصحي، ونقل إمدادات الكهرباء، والمياه وما شابه ذلك – هناك مشكلة شخصية وملحّة أكثر. وإجمالاً، يستفيد عشرات الآلاف من فلسطينيي الضفة الغربية، سواء بشكل مباشر أو عبر أوساط الأسرة الموسعة، من التوظيف في هذه المشاريع. وفي هذا السياق قال إفياتار، “ليس هناك من بدائل لجميع هؤلاء الناس، من حيث فرص العمل”، وفي إشارة إلى الخطر الأعظم المتمثل في الفراغ السياسي، أضاف: “إذا قَطعْتَ يداً، عليك أن تتأكد من أن اليد الأخرى تطعمهم”.

ومما له مغزاه، أنّ امتناع الولايات المتحدة عن خفض المساعدات المباشرة (60 مليون دولار) إلى قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، هي دلالة على أن واشنطن تقدّر عملها، لا سيّما تعاونها الوثيق مع نظيرتها الإسرائيلية. ولكن بالنسبة للفلسطينيين، فحتى لو كان بإمكان تحقيق استمرار هذا التمويل من الناحية السياسية – وهي مسألة مفتوحة بالنظر إلى علاقاتهم المتعثرة مع إدارة ترامب – فيمكن القول إن ذلك يشكّل فهماً محدوداً للوضع الأمني.

لقد عمل الجيش الإسرائيلي بضراوة لأكثر من عامين على تعزيز سياسة التنمية الاقتصادية في الضفة الغربية، في محاولة لتثبيط العنف ضد إسرائيل والسماح للفلسطينيين بالعيش حياة معقولة وغير معرقلة. وكما أخبرني مسؤول أمني إسرائيلي رفيع المستوى في العام الماضي، “إنني أقدر كثيراً العنصر المدني والاقتصادي… فقد كان السبب في عدم اندلاع انتفاضة ثالثة”. وفي “ضربتين قاضيتين” قد تتخلى إدارة ترامب عن الكثير من هذا الاستقرار الذي تم تحقيقه بشق الأنفس، ويحتمل أن تكون هذه الإدارة قد أدت إلى إخراج عدداً لا يحصى من العمال الفلسطينيين، والطلاب، واللاجئين الفلسطينيين إلى الشوارع. وفي هذا الإطار، قال لي العقيد غريشا يعقوبوفيتش – ضابط عسكري إسرائيلي متقاعد خدم في الوحدة التي تشرف على الشؤون المدنية في الأراضي الفلسطينية – “من الواضح لي أنه ستكون هناك عاصفة، وأن هذه [الخطوات] قد تؤدي إلى [اندلاع] موجة من الإرهاب”.

ومن البديهي أن تأمل الإدارة الأمريكية في أن يؤدي الضغط الاقتصادي إلى إعادة السلطة الفلسطينية إلى طاولة المفاوضات، والضغط على «حماس» في غزة، وإلزام إجراء إصلاحات على “الأونروا” المتضخمة وغير الفعالة. لكن إفياتار، ضابط الاستخبارات الاسرائيلي المتقاعد، قال إنّ فرص النجاح ليست كبيرة. وأخبرني “أنهم سيحصلون على النتيجة المعاكسة”، في إشارة إلى فريق ترامب. وأضاف، “لن يعود الفلسطينيون إلى الطاولة. لن يحدث ذلك”.

وفي الوقت نفسه، لا يبدو أن كوشنر يمانع إذا ما تسبب انهيار “الأونروا” وغيرها من الخطوات المعقدة في حدوث أضرار جانبية. ففي رسالة إلكترونية داخلية تسربت إلى صحيفة “فورين بوليسي”، قال كوشنر في وقت سابق من هذا العام: “لا يمكن أن يكون هدفنا الحفاظ على استقرار الأمور كما هي … ففي بعض الأحيان عليك أن تخاطر بطريقة استراتيجية وتقوم بتفكيك الأشياء للوصول إلى مسعاك”. وقد يكون الأمر سهلاً بالنسبة لشخص يعيش على بعد آلاف الأميال، ولكنه اقتراح مختلف تماماً بالنسبة لأولئك المتواجدين على الأرض – الفلسطينيون والإسرائيليون – الذين بواجهون خطر الانهيار خلال هذه العملية.

نيري زيلبر

الغد