الصين.. خطوات ثابتة نحو القيادة العالمية

الصين.. خطوات ثابتة نحو القيادة العالمية

اختتمت في العاصمة بكين فعاليات منتدى التعاون الصيني الأفريقي، الذي تعهدت فيه الصين بتقديم مساعدات وقروض بدون فوائد تصل إلى خمسة عشر مليار دولار، بالإضافة إلى نحو ستين مليار دولار لتمويل مشاريع تنموية في أفريقيا خلال الأعوام الثلاثة المقبلة. وقد كان لافتاً في افتتاح أعمال القمة الترحيب والتصفيق الحار الذي حظي به الرئيس الصيني شي جين بينغ، من قادة الدول الأفريقية، في مشهد حمل دلالات واضحة على مدى نفوذ وتأثير الصين في القارة السمراء، وهو الأمر الذي لطالما أثار مخاوف لدى الولايات المتحدة ودول غربية.

وكان الرئيس الصيني قد أكد في كلمة له، التزام بلاده باللاءات الخمسة، وهي: عدم قيام الصين بفرض إرادتها على الآخرين، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية، وعدم ربط المساعدات بشروط مسبقة، وأيضاً عدم التدخل في تحديد الطرق التنموية التي تناسب ظروف كل بلد، وعدم السعي لتحقيق مكاسب سياسية من خلال الاستثمار.

القوة الناعمة

لطالما اعتبرت الإدارة الأمريكية علاقة الصين بالدول الأفريقية استعماراً من نوع جديد يقوم على استغلال الموارد الطبيعية، لتعزيز نموها الاقتصادي في إطار المنافسة القائمة بين أكبر اقتصادين في العالم. وقد حذرت مراراً من الأنشطة الاستثمارية الصينية في القارة السمراء معتبرة أنها تهدد استقلال الدول الأفريقية. غير أن بكين رفضت هذه الاتهامات، وقالت إن حجم المساعدات التي تقدمها للدول الأفريقية لا يمثل سوى 5 في المئة من حجم المساعدات العالمية، وحثت الولايات المتحدة على التعاطي مع التعاون الصيني الأفريقي بطريقة عادلة وموضوعية.

أحدثت السياسات الشعبوية الأمريكية اضطرابات كبيرة في العلاقات الدولية، مهدت الطريق أمام الصين لتأخذ زمام المبادرة في العديد من الملفات والقضايا

وتقوم العلاقة بين الصين والدول الأفريقية على المصلحة والمنفعة المتبادلة، فالصين تحتاج إلى المعادن وموارد الطاقة، في حين تحتاج الدول الأفريقية إلى مليارات الدولارات في شكل قروض ومشاريع تنموية لتحقيق تنمية ذاتية. وترتبط الصين بعلاقات تجارية مع 53 دولة أفريقية، تستأثر 13 دولة منها بنحو 93 في المئة من إجمالي الصادرات الصينية إلى القارة الأفريقية، وتعتبر مشاريع البنية التحتية أهم وأكبر مشاريع الاستثمار الصيني في أفريقيا، فخلال العقد الماضي شيدت الصين أكثر من ثلاثة آلاف كلم من الطرق، وبنت أكثر من مئة مدرسة ومئتي محطة لتوليد الطاقة.

ويأتي التغلغل الصيني في القارة السمراء في وقت مارست فيه الولايات المتحدة ضغوطاً كبيرة على الدول الأفريقية خلال الأعوام الماضية، شملت فرض عقوبات اقتصادية، ومنع مواطنين بعض الدول التي تشهد اضطرابات سياسية، من الدخول إلى الأراضي الأمريكية. وبالتالي كان التغلغل الصيني طوق نجاة للعديد من الدول الأفريقية، كما كان فرصة كبيرة للصين لتنشيط اقتصادها وتعزيز مكانتها باعتبارها قائدة الدول النامية، أيضاً ساهم في قطع الطريق أمام الولايات المتحدة التي لطالما اشتكت من قوة الصين الناعمة التي حلت مكانها في أفريقيا.

ملامح القيادة

مع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى سدة الحكم، ورفعه شعار أمريكا أولاً، وتبنيه سياسات حمائية، بدا واضحاً تراجع الدور الأمريكي في العالم، وقد ظهر ذلك في انسحاب الولايات المتحدة من عدة مؤسسات ومنظمات واتفاقيات دولية، ما أدى إلى شرخ كبير في علاقاتها مع أقرب حلفائها. تلك السياسات الشعبوية التي أحدثت اضطرابات كبيرة في العلاقات الدولية، مهدت الطريق أمام الصين لتأخذ زمام المبادرة في العديد من الملفات والقضايا، ففي مطلع العام الماضي شارك الرئيس الصيني لأول مرة في منتدى دافوس العالمي، وبدا مدافعاً عن العولمة ورافضاً فكرة الانعزالية، وطالب الرئيس الأميركي بالتخلي عنها.

أيضاً بعد انسحاب واشنطن من اتفاقية باريس للمناخ، تحولت الصين من موقع المتهم بوصفها أكبر ملوث للأرض، إلى موقع منقذ العالم والباحث عن حل للأزمة العالمية، حيث شاركت في جهود متعددة الأطراف لمواجهة التغير المناخي، وقد خلق ذلك تقارباً واضحاً بين الصين والدول الأوروبية على حساب الولايات المتحدة. كما أدى انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، إلى قيام دول آسيوية مثل ماليزيا وسنغافورة والفلبين، بالانجذاب نحو الشراكة الإقليمية الشاملة، التي طرحتها الصين كبديل للشراكة الاقتصادية التي انسحب منها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

المعطيات تشير إلى أن الصين باتت أقرب إلى المعايير الدولية من الولايات المتحدة في ملفات وقضايا أساسية، وبالتالي ليس من المفاجئ أن يتحدث مسؤول بارز في وزارة الخارجية الصينية عن استعداد بلاده لقيادة العالم

الجزيرة

أيضاً في ملف القضية الفلسطينية، حيث تراجع الدور الأمريكي بعد أن تخلت واشنطن عن حل الدولتين، طرحت الصين نفسها كبديل لرعاية المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، واستضافت نهاية العام الماضي في العاصمة بكين مؤتمرا للسلام بين الجانبين، كما قدمت مساعدات للفلسطينيين بقيمة 15 مليون دولار.

تحالفات دولية

إلى جانب إطلاقها مبادرة الحزام والطريق التي غطت معظم أرجاء العالم، وترأسها قمة مجموعة العشرين، وانخراطها في منتديات وتحالفات دولية وإقليمية، تعتبر الصين أكبر مساهم في قوات حفظ السلام بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، وثالث أكبر مانح لميزانية الأمم المتحدة، حيث أنشأت مؤسستين ماليتين هما البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وبنك التنمية الجديد، وكان صندوق النقد الدولي قد وافق قبل عامين على اعتماد العملة الصينية اليوان ضمن قائمة العملات الدولية، كما عملت الصين بنشاط ضمن المؤسسات العالمية لمنع انتشار السلاح النووي، وأبدت التزمها بالعقوبات الدولية المفروضة على كوريا الشمالية.

تلك المعطيات تشير إلى أن الصين باتت أقرب إلى المعايير الدولية من الولايات المتحدة في ملفات وقضايا أساسية، وبالتالي ليس من المفاجئ أن يتحدث مسؤول بارز في وزارة الخارجية الصينية عن استعداد بلاده لقيادة العالم في ظل تراجع الولايات المتحدة. وليس ذلك مرهوناً بمدى رغبة القيادة الصينية في ممارسة هذا الدور، باعتبار أن وصول الصين إلى مقعد القيادة خلال السنوات المقبلة، سوف يأتي كمحصلة لأمرين اثنين، أولاً: تراجع وانكفاء الدور الأمريكي، ثانياً: النجاحات الكبيرة التي تحققها الصين على مستوى السياسة الخارجي.

علي أبو مريحيل

الجزيرة