في ذلك اليوم قبل سبعة أعوام، كان الإيرانيون في شرق طهران على موعد مع لحظات غير معتادة من الفزع، حين تهشمت نوافذهم واهتزت أبنيتهم وشق لسان ضخم من اللهب سماءهم بشكل مفاجئ على وقع انفجار ضخم، وبدا للوهلة الأولى أن أميركا أو إسرائيل تجاوزتا عتبة التهديدات الكلامية لتسقطا إحدى القنابل المتطورة فوق العاصمة الفارسية، قبل أن يُدرك الإيرانيون في وقت لاحق أن مصدر هلعهم كان انفجارا غير معهود(1) في قاعدة الغدير للصواريخ في “بيد غانه”، على بعد 30 ميلا من العاصمة الإيرانية.
لا يعرف الإيرانيون أو غيرهم إلى اليوم كثيرا حول حادثة “الغدير” التي تحمل اسم تلك القاعدة الصاروخية المثيرة للجدل، قاعدة ارتبط اسمها بحملات البروباغاندا الضخمة لقطع من الأسلحة تحمل الاسم ذاته، مثل غواصات “غدير” وصواريخ “غدير”، أما خارج إيران حيث تكشف الأقمار الصناعية تفاصيل كل شيء فوق الأرض تقريبا، كانت القاعدة معروفة بوضوح ومشتهرة بنشاطها الكثيف ومبانيها المميزة زبرجدية اللون، التي صارت علامة على تفضيلات الرجل الأهم في تلك المنشأة، وهو العميد “حسن طهراني مقدم”(2)، الذي يُعرف اليوم بأنه أبو البرنامج الصاروخي الإيراني.
كان “طهراني” إحدى الشخصيات القلائل الذين يفوق صيتهم في الغرب شهرتهم في إيران نفسها، مع كونه الضابط الأبرز في قوة الفضاء الإيرانية التابعة للحرس الثوري، ومهندس مشروع الصواريخ البالستية الإيرانية، والمسؤول الأول عن تصميمات الصواريخ، ومسؤول الاتصال والمشتريات الخارجية للبرنامج الصاروخي، ومؤسس مركز الصواريخ في الحرس الثوري، والمشرف لاحقا على تأسيس البرنامج الصاروخي لـ “حزب الله” اللبناني نفسه، ومسؤول منظمة الاكتفاء الذاتي والبحوث الصناعية، وقبل ذلك قائد الجناح الشمالي للحرس، وصاحب السجل العسكري الحافل الذي جعله على رأس قائمة المطلوبة رؤوسهم لأجهزة الاستخبارات وإن لم يُكشف عن ذلك بشكل رسمي.
لم تقدم إيران أبدا ما يكفي من المعلومات حول الانفجار الذي هز قلوب الإيرانيين، وخلّف 17 قتيلا من أفضل جنرالات وجنود الحرس الثوري وفي مقدمتهم طهراني نفسه، مكتفية بجنازة مهيبة تقدمها المرشد الإيراني “خامنئي”، لكن القادة في طهران كانوا يدركون أن ما خسروه في ذلك يتجاوز مجرد مقتل قادة عسكريين بارزين، وأن برنامجهم العسكري الأكثر تطورا تعرض للتو لضربة قاصمة لن يكون قادرا على التعافي منها في وقت قريب.
ومنذ ذلك الحين، ظل مقتل طهراني لغزا بلا حل، فرغم تثبث الرواية الإيرانية الرسمية بأن الانفجار الذي أودى بمقدم ورفاقه كان راجعا إلى خطأ تقني وليس إلى عملية استهداف موجهة، فإن حدوث الواقعة أعقاب سلسلة من عمليات الاغتيال ضد علماء إيران النوويين خلال العامين الماضيين، أسهم في رفع سقف التكهنات حول تورط أجهزة استخبارات خارجية، ويبدو أن طهران لم تكن تريد الاعتراف أن أذرع الموساد الطولى على الأرجح قد تجاوزت العبث بشوارع طهران إلى المواقع العسكرية الحصينة التي يرعاها جنود الحرس الثوري.
على مدار السنوات التالية، خفت ذكر “طهراني” وصواريخه طويلا لصالح برنامج طهران النووي الناشئ الذي جذب أنظار العالم، ولكن ذكر أبي الصواريخ الإيراني قفز لدائرة الضوء من جديد، حين نشرت صورة له في منتدى إيراني على الإنترنت عام 2017، وخلفه صندوق غامض يحمل اسم “مرفق شهرود”، صورة قادت لاحقا إلى استنتاج مذهل: فقبل وفاته بقليل يبدو أن طهراني أشرف على تطوير منشأة سرية ثانية في الصحراء الإيرانية النائية في “شهرود” على بعد 300 ميل من منشأته الأولى، وبفحص صور الأقمار الصناعية سرعان ما ظهرت المباني زبرجدية اللون المميزة من جديد، ولكن هذه المرة في قلب صحراء إيران.
أثارت التحقيقات(3) حول منشأة “شهرود” الغامضة موجة جديدة من الجدل حول نشاط إيران الصاروخي، خاصة عند تحليل الندبات الأرضية التي خلّفتها اختبارات الصواريخ على الأرض، والتي ترجح أن إيران لا تطور فقط ترسانتها التقليدية من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، ولكنها ربما دخلت إلى عصر تطوير صواريخ طويلة المدى أو برنامج فضائي متطور، في تطور نوعي لترسانة الصواريخ الإيرانية التي تم تدشينها في صورة بدائية في منتصف الثمانينيات، لتتطور تدريجيا عاما بعد عام مثيرة المزيد من الذعر، ليس لدى جيران إيران فحسب ولكن في واشنطن نفسها.
تعود(4) طموحات إيران الصاروخية إلى عصور حكم الشاه خلال حقبة ما قبل الثورة الإسلامية، فخلال تلك الفترة -في بداية السبعينيات على وجه الخصوص- كان الجيش الإيراني واحدا من أفضل الجيوش تجهيزا في الشرق الأوسط، وربما في العالم بأكمله، ممتلكا في القلب منه برنامجا ناشئا وطموحا للصواريخ قصيرة المدى، ولكن بعد الثورة الإسلامية عام 1979، تم تفكيك الجيش من الداخل من خلال عمليات تطهير أيديولوجية، وتم تقليص برامج المشتريات والتدريب، ناهيك بفرار العديد من العسكريين المدربين خاصة في سلاح الجو، تاركين الجيش الإيراني بوحداته المختلفة في حال يُرثى له من الضعف والتفكك.
دخلت إيران أتون حرب ثماني السنوات مع العراق، بعد عام واحد على قيام ثورتها، على ذلك الحال من التردي العسكري وعلى الأخص في سلاح الجو، وعلى الرغم من أن إيران كانت لا تزال متفوقة من الناحيتين العسكرية والتكنولوجية على الجيش العراقي، فإنها وجدت نفسها عاجزة عن تحقيق التفوق الجوي، وفي الوقت الذي أمطرت فيه الصواريخ العراقية المدن الإيرانية بكثافة، كانت طهران عاجزة بوضوح عن توجيه ضربات دقيقة إلى الأهداف في الداخل العراقي.
ومن أجل تحقيق توازن الردع في مواجهة بغداد، قررت(5) طهران في وقت مبكر أنها بحاجة إلى امتلاك ترسانتها الخاصة من الصواريخ، وفي سبيل تحقيق ذلك لم يكن التصنيع هدفا إيرانيا وقتها، مركزة جهودها الأولى على استيراد وتجميع صواريخ سكود قصيرة المدى، وفي عام 1985 ترأس رئيس البرلمان الإيراني آنذاك “أكبر هاشمي رفسنجاني” وفدا رفيع المستوى خاض رحلات مكوكية إلى ليبيا وسوريا وكوريا الشمالية والصين، في جولة تسوق خاصة من أجل الحلم الصاروخي.
آتت جهود “رفسنجاني” أُكلها سريعا، فلم ينته العام ذاته قبل أن تحصل إيران بالفعل على دفعتها الأولى من الصواريخ قصيرة المدى من طراز “آر – 17″، أحد نماذج “سكود بي” من ليبيا، وهي صواريخ يمكنها الطيران لمسافة تقترب من 300 كم حاملة رأسا متفجرا يصل وزنه إلى ألف كيلوغرام، وعلى الرغم من كون تلك الصواريخ ضعيفة التوجيه إلى حد كبير، فإنها كانت كافية لتحقيق هدف طهران بإشعال النيران في المدن العراقية ضمن ما عُرف لاحقا باسم “حرب المدن” بين طهران وبغداد.
ولكن طهران سرعان ما استنفدت مخزوناتها من الصواريخ الليبية لتتوجه بعدها إلى مورد جديد هو كوريا الشمالية، وهذه المرة بصفقة أكثر طموحا، حيث عرضت طهران المشاركة في تمويل برنامج “بيونج يانج” الصاروخي مقابل نقل التكنولوجيا إليها والحصول على امتياز الأولوية في الحصول على الصواريخ بمجرد خروجها من خطوط الإنتاج. وبالفعل تم تسليم الدفعة الأولى من صواريخ سكود الكورية الشمالية عام 1987، وأُشيع آنذاك أن إيران حصلت على حصتها من الصواريخ حتى قبل نشر الصواريخ نفسها في الجيش الكوري الشمالي، وخلال الأشهر التالية حصلت إيران على ما يقرب من مئة صاروخ استُخدمت جميعا تباعا في الحرب مع العراق، مضيفة المزيد من النيران إلى لهيب السماوات المشتعلة بالفعل نتيجة أكبر حرب للصواريخ عرفها الشرق الأوسط حتى ذلك التوقيت.
في نهاية المطاف، انتهت الحرب العراقية الإيرانية دون فائز واضح بعد أن خلّفت زهاء مليون قتيل، بيد أن انتهاءها لم ينه طموحات طهران في امتلاك الصواريخ ولكن جعلها أكثر تعطشا، وقبل أن ينتهي عقد الحرب نفسه دخلت إيران في مفاوضات مع كوريا الشمالية لشراء أحدث صواريخها من طراز سكود سي.
يعمل “سكود سي” بالوقود السائل، وهو أطول وأوسع مدى من صواريخ “سكود بي” مع توسيع خزانات الوقود لتحمل كميات أكبر منه، ويُقدّر مدى الصاروخ بـ 500 كم متر عند حمله رأسا متفجرا يزن 700 كجم. ورغم حصول إيران على حصتها من سكود سي بالفعل عام 1991، فإن طموحاتها آنذاك تجاوزت نهم اقتناء الصواريخ، ليتحول اهتمام طهران الأساسي إلى امتلاك التكنولوجيا اللازمة لإنتاج الصواريخ محليا، وهو هدف قديم يبدو أن طهران شرعت في التخطيط لتحقيقه بدقة ونشاط في وقت أبكر مما يظن الجميع.
أدت الحاجة إلى الصواريخ البالستية في زمن الحرب العراقية، وكذلك عداوة إيران التي تجذرت سريعا مع إسرائيل، إلى تطور سريع في صناعة الصواريخ الإيرانية، دافعة إيران لتقديم باكورة إنتاجها الصاروخي مبكرا، وهو صاروخ مدفعي أرض أرض عُرف باسم “نازعات” ويتم إطلاقه عبر راجمة صواريخ متحركة، ويُعدّ “نازعات” أول الإنجازات الواضحة لفريق تطوير الصواريخ الذي أسسه “طهراني مقدم” إبان الحرب العراقية الإيرانية.
وبحلول نهاية الحرب، وجد “مقدم” نفسه في وضع أفضل نسبيا لإجراء المزيد من الأبحاث والتجارب على الصواريخ الأكثر تقدما، والسعي لإبرام اتفاقات نقل التكنولوجيا، ليتحقق له ذلك الهدف بالفعل عام 1993 حين قررت كوريا الشمالية تزويد إيران بتقنيات إنتاج صواريخ سكود، فضلا عن إيفاد بعض المتخصصين من الكوريين للمساعدة في تدريب الإيرانيين على إنتاج صواريخهم الخاصة.
وبداهة، كانت(6) نسخ الصواريخ الأولى عبارة عن نماذج محاكاة لصواريخ سكود الموجودة بالأساس، وبدأ الأمر مع صاروخ شهاب(1) وهو نسخة مقلدة من صاروخ سكود بي نجحت إيران لاحقا في تصنيع ما بين 2000-3000 وحدة منه، وهو يعمل بالوقود السائل وبإمكانه حمل رأس حربي يصل وزنه إلى 1000 كجم لمسافة تصل إلى 186 ميلا، ولكن يفتقر إلى الدقة شأنه شأن صواريخ سكود بي الأصلية، وفي وقت لاحق طورت إيران نسخة أطول مدى من الصاروخ نفسه تحت اسم “شهاب 2″، وهو قادر على قطع مسافة تبلغ نحو 300 ميل.
وفي عام 1998، قامت إيران بإطلاق تجريبي لصاروخ “شهاب 3″، وهو نسخة محدثة من صواريخ “نودونغ” التي أنتجتها كوريا الشمالية لغرض ضرب القواعد الأميركية في اليابان من شبه الجزيرة الكورية، ورغم أن مدى الصاروخ يبلغ في الأصل قرابة 600 ميل، فإنه يعتقد أن إيران طورت قدراته إلى مدى يتجاوز 2000 كم. ولكن رغم تلك الطفرة الكبيرة التي حققتها صواريخ شهاب من حيث مدى الصاروخ فإنه متأخر تقنيا وبشكل مزعج للإيرانيين على مستوى الدقة، بما يجعله غير مناسب للاستخدام في ساحة المعركة لضرب أهداف محددة وحيوية مثل المطارات والمنشآت العسكرية، بقدر ملاءمته لحالات التدمير العشوائي التي يمكن أن تسبب حالة من الذعر الشعبي واسع النطاق في أي دولة بمرماه.
ومن أجل التغلب على هذه العيوب، قامت طهران(7) لاحقا بإصدار نسخة جديدة من صواريخ “شهاب 3” تحت اسم “غدير 1″، وزودته بجيل جديد من الرؤوس الحربية عُرف باسم “عماد”، رؤوس يعتقد أنها تمنح الصواريخ المزيد من الاستقرار والقدرة على المناورة، مع دقة أكبر رغم أنها تتمتع بمدى أقل نسبيا، لكن إيران بدأت تدرك تدريجيا القيود المرتبطة بالاعتماد على الصواريخ التي تعمل بالوقود السائل، وبدأت في تطوير صواريخ الوقود الصلب الأكثر جدوى من الناحية العسكرية.
فبخلاف التفوق النوعي لصواريخ الوقود الصلب من حيث المدى والدقة فإنها تحتفظ بميزة نوعية وهي أنه يمكن تعبئتها بالوقود وتخزينها لفترة طويلة، بعكس صواريخ الوقود السائل التي تتطلب تزويدها بالوقود بشكل آني قبل الإطلاق وهو الأمر الذي يصعب من مهمة إخفائها، وكانت إحدى أولى خطوات إيران في مجال تقنيات الوقود الصلب هي إنتاج صاروخ أرض-أرض قصير المدى من طراز “مشاك”، وهو صاروخ بدائي تم تصميمه على النمط السوفيتي في الثمانينيات بمساعدة تقنية صينية، وتم إطلاقه خمس مرات خلال حرب المدن.
ورغم اختفاء صواريخ الوقود الصلب من الساحة الإيرانية لفترة طويلة، فإنها عادت بشكل مفاجئ(8) عام 2002 مع تجربة صاروخ جديد يعمل بالوقود الصلب أطلق عليه اسم “فاتح 110″، وهو صاروخ ذو مرحلة واحدة يبلغ مداه 200 كيلومتر على الأقل، وتم تصنيعه على طراز صواريخ سي إس إس 8 الصينية، والمفاجأة أن إيران ادّعت في ذلك التوقيت أنها من قامت بتصنيع الوقود الصلب للصاروخ في معهد البحوث التابع لوزارة الدفاع، وفي وقت لاحق أعلنت إيران أنها طورت نسخة بحرية من صواريخ “فاتح” التي يعتقد الأميركيون أنها قادرة على استهداف السفن التجارية والبحرية في الخليج العربي ومضيق هرمز.
وفي مايو/أيار 2009، حققت إيران قفزة كبيرة في تسيير صواريخ الوقود الصلب حين اختبرت بنجاح صاروخ “سجيل 2″، وهو صاروخ أرض أرض ذو مرحلتين اختبرته إيران بنجاح عدة مرات منذ ذلك الحين، ويزعم أن مداه يتراوح بين 2000 إلى 2500 كيلومتر، وهو قادر على حمل رأس حربي بوزن طن كامل للمسافة نفسها، ولاحقا في عام 2015 فجّرت(9) إيران مفاجأة بالكشف عن قيامها بتصنيع صاروخ جوال “كروز” بمدى يصل إلى 2500 كم، وهو تطور كبير عنى أن صواريخ إيران لم تعد قادرة على استهداف الشرق الأوسط فقط، لكن شرق وجنوب أوروبا دخلا مرمى الصواريخ الإيرانية للمرة الأولى.
على مدار تاريخها، كانت إيران قوة دفاعية(10) في المقام الأول، ويرجع(11) ذلك بشكل رئيس إلى الجغرافيا، ففي حين زودت التضاريس الجبلية إيران بقدر كبير من الحصانة الدفاعية، فإنها صبغتها بالكثير من العزلة أيضا وفرضت قيودا دائمة على طموحاتها للتوسع الخارجي، وزاد التميز العرقي ولاحقا المذهبي من عزلة إيران بوجه أخص عن محيطها العربي الذي فرض عليها حصارا اجتماعيا وثقافيا من نوع فريد.
وجاءت الحرب العراقية الإيرانية لتفرض على إيران حصة أكبر من تلك العزلة ولتثبت في الوقت نفسه افتقارها الشديد إلى توازن الردع مع خصومها، فمع سقوط الصواريخ العراقية على المدن الإيرانية وفرار سكانها بالآلاف للمرة الأولى، دمرت معنويات الإيرانيين ووجدت طهران نفسها مضطرة لإنهاء الحرب، ومنذ ذلك الحين تحولت الصواريخ في الوجدان العسكري الإيراني من مجرد سلاح إلى طريقة كاملة للحرب، لتستقر (12) في نهاية المطاف كمكون رئيس لإستراتيجية الردع الإيرانية.
وبخلاف وقوعها في محيط مكتظ بالمعادين والمنافسين، فإن إيران، وعلى العكس من جيرانها ومنافسيها في المملكة العربية السعودية وإسرائيل في المقام الأول، لا تتمتع بأي وصول إلى التقنيات العسكرية الغربية المتطورة، ولا تحظى بأي ضامن أمني رفيع المستوى، ومع عدد سكانها الكبير ومواردها المحدودة نسبيا، فإنها تتمتع برفاهية أقل لتعزيز إنفاقها العسكري مقارنة بالسعودية مثلا التي تمتلك 9 أضعاف ميزانية إيران العسكرية، أو حتى بالإمارات العربية المتحدة التي لا يتجاوز عدد سكانها عشر كثافة إيران السكانية وتتمتع في المقابل بميزانية دفاع تفوق موازنة إيران الدفاعية بمقدار النصف على الأقل.
وبترجمة تلك الحقائق على الأرض، وجدت إيران نفسها تمتلك منظومة أسلحة أكثر تخلفا على المستوى التقني والتشغيلي حتى من أضعف جيرانها، لذا فإن معادلة الأمن التي طورتها قامت بشكل رئيس على امتلاك الردع الذي يقلل من فرص قيام حرب تتورط فيها إيران بشكل مباشر من الأساس. ويرتكز(13) ثالوث الردع الإيراني على ثلاثة أركان رئيسة، أولها هو قدرة إيران النظرية على تهديد الملاحة في مضيق هرمز، وثانيها قدرتها على تشغيل أعمال عنف بالوكالة في بقاع متعددة خارج حدودها، سواء من خلال وكلاء مسلحين دائمين مثل حزب الله أو عبر خلايا إجرامية كما في أوروبا وأميركا اللاتينية، وأخيرا تأتي قدرتها على توجيه ضربات مؤثرة لأعدائها عن بُعد باستخدام ترسانتها من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى.
وتحظى كل ساق من سيقان ذلك الثالوث الأمني بنصيبها من المزايا والعيوب الواضحة، فمن ناحية يمكن أن تؤدي الجهود المبذولة لإغلاق المضيق إلى ضرب استقرار الأسواق المالية والعالمية وإفقاد إيران أي دعم دولي في أوروبا وآسيا، لذا فإن إيران تحتفظ به دوما كخيار أخير واستثنائي، وفي الوقت نفسه فإن قدرة طهران على إشعال الصراعات عن بُعد وتنفيذ التفجيرات خارج حدودها تتقلص بشكل ملحوظ مقارنة بحقبة التسعينيات على سبيل المثال، لتتحول الصواريخ إلى خيار إستراتيجي أول وربما وحيد بالنسبة لإيران.
وحتى لو لم تكن تلك الصواريخ قادرة على توجيه ضربات حاسمة لأهداف عسكرية أو لبنوك البنية التحتية الحيوية، فإن مجرد امتلاك القدرة على إطلاق حرائق سكانية جماعية في المراكز السكانية الكبرى هو أمر كفيل بتحقيق أهداف إيران الحالية، وإحداث تأثيرات تراكمية تتوافق بشكل مثالي مع “مذهب المقاومة الإيراني”، وهو مذهب لا يعتمد على تحقيق انتصارات حاسمة قصيرة الأجل، ولكنه يفترض أن النصر يأتي في المقام الأول عن طريق الصمود واستنزاف العدو لأطول فترة ممكنة، لذا ليس من المستغرب أن جميع وكلاء إيران والحركات المسلحة المدعومة منها تستخدم الصواريخ ضعيفة التوجيه كأسلحة أساسية.
في الواقع، كثيرا ما ناقش المسؤولون الإيرانيون قوتهم الصاروخية باستخدام مصطلحات مستعارة من نظرية الردع الكلاسيكية. فعلى سبيل المثال، وبعد إطلاق أول اختبار لإطلاق صاروخ “شهاب -3” في يوليو/تموز 1998، أوضح “علي شمخاني”، وزير الدفاع الإيراني آنذاك، باختصار رؤيته لنظرية الردع الإيرانية التي تقوم على امتصاص أي ضربة أولية بحيث تلحق الحد الأدنى من الضرر، ثم توجيه ضربة انتقامية قوية تكون كفيلة بمنع أي ضربة ثالثة من الوقوع لأطول فترة ممكنة.
وفي الحقيقة، فإن إيران جربت (14) فاعلية منظومة الردع القائمة على الصواريخ تلك في الماضي القريب بشكل غير مباشر، حين نجحت ترسانة صواريخ “حزب الله” المستمدة من إيران عام 2006 في إلحاق أضرار اقتصادية وسياسية بالغة بإسرائيل خلال الحرب التي خاضها الطرفان في ذلك العام، رغم أن غالبية صواريخ حزب الله آنذاك كانت من الصواريخ المدفعية قصيرة المدى نسبيا، لكن ضرباتها كبّدت الاقتصاد الإسرائيلي خسائر قُدّرت بـ3.5 مليار دولار، بعد أن أجبرت الشركات الإسرائيلية على الإغلاق ودفعت السلطات لإنفاق أموال طائلة على التأمين واستدعاء قوات الاحتياط.
واليوم يمتلك “حزب الله” -فضلا عن إيران نفسها- ترسانة صاروخية أكثر قوة تقدر بـ130 ألف صاروخ تتميز بمدى أطول ودقة محسنة، بما في ذلك صواريخ فاتح وصواريخ فجر وحتى صواريخ سكود الأصلية، في الوقت الذي عززت فيه إيران من ترسانة الصواريخ الخاصة بها ونشرتها على مساحات جغرافية أوسع، خاصة في سوريا التي تستضيف اليوم صواريخ إيرانية متوسطة المدى ومصانع ميدانية لتركيب الصواريخ.
ومن المرجح أن تُمكّن تلك الصواريخ إيران ووكلاءها من ضرب خصومها المباشرين في تل أبيب والرياض حال أرادت ذلك، في الوقت الذي تفتقر فيه إسرائيل للعمق الإستراتيجي الكافي بسبب مساحتها الجغرافية الصغيرة وانكشاف مواقع البنية التحتية الأساسية مثل مرافق النفط والمياه والكهرباء وحتى مخزونات الأسلحة الكيميائية، وحتى مع امتلاك تل أبيب لنظام دفاع صاروخي متعدد الطبقات، يشمل نظام القبة الحديدية لاعتراض الصواريخ قصيرة المدى نسبيا، ومنظومة “دايفيد سلينغ” ضد الصواريخ طويلة المدى، وأخيرا نظام “أرو -سهم” للصواريخ البالستية متوسطة المدى وطويلة المدى، تبقى هذه الشبكة عرضة للتشبع حال تفوق عدد الصواريخ المطلقة على عدد القذائف الاعتراضية المتوفرة، أما في الرياض فيبقى الوضع أكثر هشاشة مع منظومات الدفاع الصاروخي باتريوت التي ثبتت(15) محدودية فاعليتها في أكثر من مناسبة، ولن تكون كافية لمواجهة وابل الصواريخ الذي يمكن أن تمطره إيران ووكلاؤها حال دخل الطرفان في حرب مباشرة.
توفر الصواريخ لإيران إذن قوة ردع غير متماثلة أمام قوى أكبر تسليحا وأفضل تجهيزا، وهي قوة تتطلب استثمارا ماديا وتقنيا قليلا نسبيا بالمقارنة مع القدرات العسكرية الأخرى، خاصة القدرات الجوية، لذا فإنها تبقى الخيار المفضل للقوى الصغيرة لاكتساب ردع نسبي ضد قوى أكبر حجما عبر امتلاك قدرة على التسبب في أضرار جسيمة لها، وفرض تكاليف دفاعية ضخمة عليها عبر دفعها لتنصيب منظومات دفاع صاروخي باهظة الثمن، ومع ذلك فإن ما أقلق العالم -والولايات المتحدة على وجه الخصوص- لفترة طويلة سابقة ليست صواريخ إيران الحالية محدودة التوجيه نسبيا القادرة على إصابة إسرائيل، بقدر طموحات إيران المزعومة لامتلاك صواريخ طويلة المدى أو عابرة للقارات قد تكون قادرة على تهديد سلطة العالم “المتحضر” في قلب معاقله.
في الوقت الراهن، هناك 5 دول(16) حول العالم تمتلك ترسانات صاروخية قادرة على إصابة أي هدف من شرق الكرة الأرضية إلى غربها، هي الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا، حيث تمتلك هذه الدول صواريخ بالستية عابرة للقارات يصل مداها إلى 13 ألف كيلومتر، ناهيك بدول أخرى تمتلك صواريخ عابرة للقارات مثل باكستان والهند، وغيرها من الدول التي تمتلك برامج صواريخ عسكرية فوق متوسطة أو طويلة المدى.
وحتى خصوم طهران المباشرون في تل أبيب والرياض يمتلكون صواريخ متطورة يمكنها إصابة عمق طهران منذ فترة تزيد على عقدين في أفضل الأحوال، ولكن أيا من تلك الترسانات الصاروخية الضخمة -إقليميا وعالميا- لا تثير ذات القدر من الجدل والرعب الذي تثيره الصواريخ الإيرانية، ويرجع ذلك من ناحية إلى اقتران التناول السياسي لبرنامج إيران الصاروخي مع المخاوف المتزايدة حول طموحاتها النووية، بمعنى أن برنامج إيران الصاروخي كان يُنظر إليه دوما كرافعة لتوصيل أسلحتها النووية المنتظرة، كما أنه مرتبط من ناحية أخرى بمخاوف طويلة الأمد لدى الولايات المتحدة من امتلاك ما تصفها دوما بـ “الدول المارقة” لصواريخ قادرة على إصابة الولايات المتحدة أو حلفائها المقربين في محيطها الأوروبي.
لطالما حملت واشنطن مخاوف طويلة الأمد من امتلاك تلك الدول بتصنيفاتها لمنظومات صواريخ متطورة منذ أزمة الصواريخ الكوبية الشهيرة مطلع الستينيات، حين اتفق الاتحاد السوفيتي مع كوبا على بناء قواعد سرية لإطلاق الصواريخ متوسطة المدى يمكنها أن تصيب كامل الأراضي الأميركية، كرد فعل على قيام واشنطن بنشر صواريخ ثور في بريطانيا وصواريخ جوبيتر في إيطاليا وتركيا واضعة موسكو في مرمى أكثر من مئة صاروخ أميركي قادرة على حمل رؤوس نووية.
مثّلت أزمة الصواريخ الكوبية أبرز فصول الحرب الباردة، وكادت أن تضع العالم على شفير حرب نووية حقيقية، لكن أحد تأثيراتها طويلة الأمد(17) كان المخاوف العميقة التي ولدت في واشنطن من الأضرار التي يمكن أن تلحقها أسلحة رخيصة مثل الصواريخ مع قنبلة نووية بدائية في مواجهة القوة الأميركية، ناهيك بتسليط الضوء على حجم الخطر الذي يمكن أن تسببه قوة صغيرة غير ملتزمة بالقواعد التقليدية للتفاعلات السياسية والعسكرية داخل النظام الدولي.
لاحقا، أسهم الفشل الأميركي في احتواء كوريا الشمالية التي امتلكت برنامجين متطورين للردع النووي والصاروخي في تعزيز هذه المخاوف، خاصة بعد أن أثبتت بيونغ يانغ بما لا يدع مجالا للشك قدرتها(18) على توصيل أسلحتها النووية إلى الشاطئ الأميركي في سياتل وسان فرانسيسكو، وهو ما زاد من مخاوف الولايات المتحدة ليس بشأن كوريا فقط، ولكن بشكل أكبر بشأن إيران الواقعة بدورها في محيط من القواعد والتكتلات العسكرية الأميركية، وأسهم في تعظيم هذه المخاوف بشكل خاص التاريخ الطويل من التعاون الصاروخي بين الدولتين على قاعدة التضامن ضد أميركا، والعزلة المتبادلة في محيط من الحلفاء الأميركيين وحتى الطموحات النووية، حيث تعتقد الولايات المتحدة بقوة أن بيونغ يانع هي الداعم الرئيس لبرنامج إيران الصاروخي، وأن إسهامها فيه يفوق كثيرا إسهام حلفاء طهران التقليديين في موسكو وبكين.
والحقيقة أن هذا الاعتقاد الأميركي يصيب قدرا كبيرا من الحقيقة، حيث يشرف (19) مهندسون من كوريا الشمالية إلى اليوم على خطط تطوير وتحسين الصواريخ الإيرانية، وتستخدم الجمهورية الإسلامية مخططات كورية الشمالية لبناء المواقع السرية التي توفر الحماية للصواريخ تحت الأرض، ويسافر الخبراء بانتظام بين البلدين لمساعدة جهود الحرس الثوري الإيراني لتطوير الرؤوس الحربية النووية وأنظمة التوجيه، كما تواصل كوريا الشمالية تزويد إيران ببعض صواريخها المتطورة وعلى رأسها صواريخ موسودان متوسطة المدى التي يعتقد البنتاغون أن إيران حصلت عليها عام 2005 وطورتها لفترة طويلة، قبل أن تطلقها عام 2007 تحت اسم خرمشهر(20)، ويصل مداها إلى 2000 كم.
واستجابة لتلك المخاوف طويلة الأمد من قدرة الصواريخ الإيرانية، وضعت الإدارات الأميركية المتعاقبة خططا متوالية للدفاع عن أوروبا ضد التأثير المحتمل لتلك الصواريخ، جاء أبرزها(21) في عهد الرئيس جورج بوش الابن عام 2007 حين أعلن خطة لإقامة هيكل دفاع صاروخي في أوروبا ينشر عشر منظومات صواريخ في بولندا ونظام رادار في الجمهورية التشيكية، خطة تم إطلاقها كرد فعل على إطلاق طهران لصاروخ سجيل الذي يبلغ مداه 2600 كم ما يعطيه القدرة على ضرب بولندا وعدة دول أخرى في الاتحاد الأوروبي، مع مخاوف من قدرة قريبة على تطوير صواريخ بالستية عابرة للقارات يفوق مداها 4000 كم.
تعززت هذه المخاوف بشكل خاص مع افتتاح إيران لمركز الفضاء الخاص بها في مقاطعة سمنان عام 2008، ونجاحها مطلع العام التالي في إطلاق صاروخ سفير الفضائي ذي المرحلتين بنجاح لوضع القمر الصناعي أوميد في مداره، لتتوالى لاحقا عمليات إطلاق لأقمار صناعية إيرانية باستخدام صاروخ سفير القادر من الناحية النظرية على حمل رأس نووي، قبل أن تكشف إيران لاحقا عن إصدار أكثر تطورا من سفير تحت اسم “سيمورغ” مع قدرة على حمل مركبة تزن 500 كجم.
ومع توسع البنية التحتية الخاصة بعمليات الفضاء الإيرانية ازداد القلق (22) الغربي من تحول عمليات إطلاق الأقمار الصناعية إلى معامل تجريبية لإطلاق صواريخ عابرة للقارات، لكن واشنطن خلصت في النهاية إلى كون هذا التحول غير محتمل نظرا لوجود فوارق تقنية (23) كبيرة بين منصات إطلاق الصواريخ الفضائية، التي تعمل بواسطة محركات منخفضة الدفع طويلة مع مدة تشغيل طويلة لازمة لتسيير الأقمار الصناعية إلى مداراتها، وبين الصواريخ العابرة للقارات التي تتطلب محركات مختلفة لدفعها إلى ارتفاعات أعلى.
ونتيجة لذلك، فإن إدارة أوباما شرعت في عملية تقييم إستراتيجي لخطر الصواريخ الإيرانية، حيث خلصت إلى أن طهران لن يكون بمقدورها صناعة صواريخ بالستية عابرة للقارات في أي وقت قريب، وأن التهديد الأكبر القادم من إيران يكمن في برنامجها النووي وصواريخها متوسطة المدى القادرة على الوصول إلى أوروبا، لذا انخرطت الإدارة في محادثات مطولة مع طهران لتحجيم طموحاتها النووية، في الوقت الذي دشنت فيه مبادرة بديلة لخطة بوش للدفاع عن أوروبا تضمن نشر صواريخ “إس إم-3” الاعتراضية من أجل التصدي للتهديد المحتمل للصواريخ متوسطة المدى القادمة من إيران.
خففت إستراتيجية إدارة أوباما المتمحورة بشكل رئيس حول البرنامج النووي والفصل بين مقاربتها للملفين النووي والصاروخي من الضغوط على برنامج إيران الصاروخي، ما منح إيران فرصة التوسع في تجاربها الصاروخية، وتشير(24)التقديرات إلى أن إيران أطلقت 23 صاروخا بالستيا على الأقل منذ توقيع الاتفاق النووي عام 2015 حتى مطلع العام الحالي 2018، منها 10 عمليات على الأقل لإطلاق صواريخ بالستية متوسطة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية من الناحية النظرية.
تزامنا مع ذلك، جاءت إدارة ترمب إلى البيت الأبيض مطلع عام 2017 محملة بأجندة واضحة لتدمير اتفاق إيران النووي، وحُمل التهديد الباليستي إلى واجهة النزاع من جديد، ضمن خطة أوسع نطاقا لتقويض النظام الإيراني بالكلية، أو إعادة التفاوض على صفقة جديدة تشمل قيودا أوسع ليس فقط على طموحات إيران النووية، ولكن أيضا على برنامجها الصاروخي وأنشطتها العسكرية خارج الحدود في كل من سوريا واليمن ولبنان.
غير أن تلك الرغبة الأميركية تُغفل بشكل واضح الفوارق النظرية بين الطموحات النووية العسكرية لطهران، وبين برنامجها الصاروخي وموقع كل منهما في استراتيجية الردع الإيرانية، ففي حين كان برنامج إيران النووي رادعا سلبيا، بمعنى أنه مصمم بالأساس كورقة للمساومة مع الغرب والقوى الدولية في مواجهة العقوبات المتتالية، واستراتيجية لحماية برامج إيران العسكري الأكثر الأهمية، تبقى الصواريخ هي خطة الردع الإيجابية(25) الرئيسة للنظام الإيراني التي تمكنه من الانخراط بفاعلية في المسارح المختلفة، ومباشرة مصالحه دون خوف مباشر من الانتقام داخل إيران نفسها، وهو درس آخر تعلمته إيران من حربها مع العراق حول حدود قدرتها العسكرية التقليدية، ما دفعها للاستثمار لعقود في الميليشيات والوكلاء المحليين من أجل تعويض المزايا العسكرية لخصومها.
بالنسبة لإيران، تُعدّ الميليشيات والصواريخ وجهين لعملة واحدة هي “الردع منخفض التكلفة” نسبيا، فتكاليف تمويل الميليشيات مهما بلغت لا تتناسب مع تكاليف تطوير القدرات العسكرية التقليدية التي تتطلب استثمارات لا يتحملها اقتصاد إيران المتهالك، بفرض أن العالم سوف يسمح لها ذلك، وبالقدر نفسه تُعدّ الصواريخ المثال الأبرز للردع العسكري منخفض الكلفة، فمع كل دولار تنفقه طهران على الصواريخ سهلة الإنتاج، فإنها تفرض على خصومها استثمار مئات الملايين من الدولارات في منظومات الدفاع الصاروخي باهظة التكلفة، ومع كل كيلومتر زائد في النطاق الذي تقطعه صواريخها فإن طهران توسع دائرة الرعب، وتبقى تلك معادلة مرضية لتوازن الردع حتى لو لم يتم إطلاق صاروخ واحد بشكل فعلي، ولكن شأنها شأن سائر استراتيجيات إيران الدفاعية فإنها تبقى فاعلة فقط حتى اللحظة التي تلجأ فيها إيران إلى إطلاق تلك الصواريخ بكثافة من أراضيها فوق رؤوس أعدائها بالفعل، وهي تلك اللحظة التي سيظن فيها هؤلاء الخصوم أن حربا باهظة التكلفة على الجميع ضد إيران سوف تكون أكثر كلفة من خطة طويلة الأمد لاحتوائها.
محمد السعيد
الجزيرة